هستيريا حول غراس: ''ما ينبغي أن يُقال'' بين كسر ''التابوهات'' والتزام ''الصوابية السياسية''

هل تنم قصيدة الأديب الألماني غراس التي انتقد فيها السياسة الإسرائيلية تجاه إيران عن موقف معادٍ للسامية؟ وما هي دلائل ردود الفعل على هذه القصيدة التي وصلت إلى درجة يمكن وصفها بالهيستيرية؟ سمير جريس في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة في تعليقه التالي.



قصيدة مباشرة وخطابية وساذجة سياسياً – ولكن هل تنم عن موقف معادٍ للسامية؟ وما هي دلائل ردود الفعل على هذه القصيدة التي وصلت إلى حد الهيستيرية؟ ما الجرم الذي ارتكبه كاتبها لكي تعلن إسرائيل أنه شخص غير مرغوب فيه؟ هل أنكر الهولوكوست؟ هل طالب بمحو إسرائيل من الخريطة؟ ولماذا طالب البعض بسحب جائزة نوبل منه؟

نعم القصيدة في معيار الشعر تافهة ولا تستحق التوقف عندها، ولكن هل هذا هو السبب؟ ولماذا ترتفع على الفور الأصوات، التي تتهم الكاتب بمعاداة السامية إذا تجاوز في انتقاده لإسرائيل حداً معيناً، فلنقل إذا تجاوز حد "الصوابية السياسية"؟ ومن يحدد معايير هذه الصوابية؟

منذ أن نشر غونتر غراس قصيدته "ما ينبغي أن يقال" لم تتوقف ردود الفعل المستهجنة والمنتقدة لمضمونها، والمهاجمة لكاتبها. في هذه القصيدة النثرية يهاجم صاحب "الطبل الصفيح" توريد ألمانيا غواصة أخرى إلى إسرائيل، وهي الغواصة السادسة، التي يمكن أن تُزود برؤوس نووية قد تُستخدم لتدمير المنشآت النووية الإيرانية.
غراس يتهم إسرائيل بأنها "تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته"، غير أنه لا يتحدث عن سياسة إيران ولا عن طموحها النووي أو تهديداتها لإسرائيل. مرة واحدة يصف غراس أحمدي نجاد بأنه "بطل صوتي جعجاع"، أي أنه، مثلما يرى منتقدوه، يهون من أخطار سياسة الرئيس الإيراني ويقلل من شأن تهديداته بمحو إسرائيل من الخارطة.

"الحكم الشائع: معاداة السامية"

شن الأديب الألماني المعروف غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل للآداب هجوما على إسرائيل ووصفها بأنها تهديد للسلام العالمي، نظرا لتهديها بشن هجوم عسكري على إيران، وذلك في قصيدة جديدة
شن الأديب الألماني المعروف غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل للآداب هجوما على إسرائيل ووصفها بأنها تهديد للسلام العالمي، نظرا لتهديها بشن هجوم عسكري على إيران

​​

لم يسبق لغراس أو أي أديب ألماني أن انتقد قدرات إسرائيل النووية بهذه الصراحة وبهذا الوضوح. هل كسر بذلك "تابوهاً" في ألمانيا؟ في قصيدته يقول غراس أنه لا يستطيع مواصلة هذا "الصمت العام" حول الملف النووي الإسرائيلي، لأنه يشعر به "مثل كذبةٍ تدينني / وإرغام إذا لم أرضخ له / لاحت العقوبة / الحكم الشائع: "معاداة السامية"."

بمجرد نشر القصيدة توالت الاتهامات على غراس وكأنها رد فعل انعكاسي، وما لبث خصوم الكاتب أن اتهموه بملء الفم: أنت معاد للسامية. وبذلك أكد خصوم غراس ما ينفون وجوده، أي أن إسرائيل فوق النقد وفوق القانون الدولي، وأن من يتجرأ ويقول مثلاً إن إسرائيل القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط وأنها بذلك تمثل تهديداً للسلام العالمي - حتى وإن كانت حتى الآن لم تستخدم سلاحها النووي - فهو معاد للسامية، وهو لهذا شخص "غير مرغوب فيه" وممنوع من السفر إلى واحة الديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط.

أما الطامة الكبرى فهي أن يصدر النقد من شخص شارك في الحرب العالمية الثانية مثل غراس، بل وتطوع في أحد أكثر الأسلحة النازية دموية ووحشية، وهو سلاح الإس إس. "شخص كهذا ليس من حقه إصدار الأحكام الأخلاقية"، هكذا تردد في إسرائيل؛ ولكن هل ما قاله غراس حكم أخلاقي، أم رأي سياسي قد يخطئ أو يصيب؟ رأي سياسي يستوجب النقاش والرد عليه؟

صديق إسرائيل

غونتر غراس رفقة المستشار الألماني الراحل فيللي براندت، الذي دعمه غراس في حملاته الانتخابية (صورة من الأرشيف)
شبه الأديب الألماني غونتر غراس قرار منعه من دخول إسرائيل بالحظر الذي فرضته عليه شرطة ألمانيا الشرقية، غير أن غراس يؤكد في القصيدة – ومواقفه طيلة حياته تثبت ذلك – أنه صديق لإسرائيل ومتضامن معها، ويود أن يظل كذلك.

​​

ربما كان غونتر غراس في الحوار التلفزيوني الذي أدلى به للمحطة الأولى ARD أكثر وضوحاً في أفكاره وفي حججه مما كان في "قصيدته"، ولعله لذلك كان من الأفضل له أن يصوغ تلك الأفكار في مقالة وليس في نص يكاد يجمع كل من قرأه ألا علاقة له بالشعر. بالطبع قصيدته غير متوازنة وإحادية، تهاجم إسرائيل ولا تكاد تذكر شيئاً عن تهديدات الرئيس الإيراني وإنكاره الهولوكوست.

غير أن غراس يؤكد في القصيدة – ومواقفه طيلة حياته تثبت ذلك – أنه صديق لإسرائيل ومتضامن معها، ويود أن يظل كذلك. في الحوار التلفزيوني يقول غراس إنه لم يهاجم إيران في القصيدة لأن هذا من نافلة القول. لقد كان هدفه كسر الصمت الذي يغلف الملف النووي الإسرائيلي، ومهاجمة سياسة حكومته التي تزود إسرائيل بغواصة بعد الأخرى، ولهذا اعتبر بلاده "شريكة في الذنب".

كما يؤكد غراس أنه حصل على طوفان من الرسائل المؤيدة له. وبالفعل، من يطالع بريد القراء في الصحف أو يقرأ ردود الفعل في الانترنت على قصيدته يجد عددا كبيرا من التعليقات المؤيدة لغراس والمصفقة له، وكأنها وجدت أخيراً من ينطق بما يدور في رؤوسهم. قد يكون من بينهم من ينتمي لليمين المتطرف أو المعادين بالفعل للسامية، ولكن لا يمكن الادعاء بأنهم كلهم كذلك.

وعلى النقيض من ذلك كان رد فعل معظم السياسيين والكتّاب الذين يلتزمون "الصوابية السياسية"، وإذا ذكروا نقداً لإسرائيل فلابد أن يعقبه تأكيد على حق إسرائيل في الوجود، حتى إذا لم يكن هذا الحق محل تهديد، كما هو الحال في موضوع بناء المستوطنات على أرض فلسطينية مثلاً. كما أن مهاجمي غراس ينسون أن هناك أصوات كثيرة داخل إسرائيل تهاجم أيضاً مخططات الهجوم على إيران، ومن هؤلاء الروائي الإسرائيلي الكبير دافيد غروسمان.

لماذا الآن؟

قصيدة
قصيدة "ما ينبغي أن يقال" تتصدر صفحة زوددوتشه تسايتونغ الألماني

​​لماذا كسر غراس حاجز الصمت الذي يحيط بملف إسرائيل النووي؟ لماذا يهاجم أبناء ضحايا الهولوكوست وهو يعلم أنه من جيل الجناة، وأن هناك من سيذكره بماضيه في جيش هتلر، وهو ما فعله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على الفور؟ هل هي شجاعة من يكتب بـ"آخر قطرات الحبر"؟

المتتبع لأعمال غونتر غراس ومواقفه يجد أنه في السنوات الأخيرة يحاول جاهداً، المرة تلو الأخرى، البوح ما كبته طوال السنين. لقد اعترف غراس في عام 2006 - أياً كانت دوافعه اعترف - بأنه كان تطوع اختيارياً في سلاح "الإس إس". كانت مذكراته "أثناء تقشير البصل" صدمة لكثيرين. طوال عقود كان غراس "سلطة أخلاقية" في ألمانيا، وكان يلوم الآخرين لأنهم لم يفصحوا عن ماضيهم النازي. لكنه صمت طويلاً عن ماضيه. هل عندما تحدث عن ماضيه آنذاك كان يريد العودة إلى دائرة الضوء بأي ثمن، مثلما اتهمه خصومه؟ هل كان يخشى نشر وثائق تدينه، فأسرع بتقديمه الاعتراف بنفسه؟ هذا ما يردده بعض الصحفيين. لكنه – عموماً – كان شجاعاً، حتى وإن كانت شجاعته منقوصة ومتأخرة جداً.

واليوم، عندما يقول الأديب الذي يناهز الخامسة والثمانين "ما ينبغي أن يُقال"، رغم أنه يعرف ما ينتظره: "الصمت العام عن هذا الفعل الإجرامي / الذي يندرج تحته صمتي / أشعر به مثل كذبةٍ تدينني / وإرغام إذا لم أرضخ له / لاحت العقوبة / الحكم الشائع: "معاداة السامية" فهو يتوقع بالطبع أن يُوجه إليه السؤال: "لماذا صمت حتى الآن؟".

على ما يبدو فإن هذا السؤال يعذب غراس في سنواته الأخيرة. وهو كان قبل سنوات افتتح روايته "مشية السرطان" بالسؤال نفسه: "لماذا الآن؟" في تلك الرواية تناول غراس قصة المشردين الألمان الهاربين من وجه الجيش الأحمر، أي أحد المحرمات في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: التحدث عن الألمان كضحايا. والآن عاد غراس ليكسر "تابو" آخر، وهو يقول: أن كونه ألمانياً "التصقت به عيوب لا يمكن أن تُمحى أبداً" هو الذي منعه "من البوح بهذه الحقيقة / وأن أواجه بها إسرائيل، البلد / الذي أتضامن معه / وأريد أن أبقى كذلك".

"طاعناً في العمر، وبآخر قطرات الحبر" يتجرأ غراس ويقول: "إن القوة النووية إسرائيل تهدد / السلام العالمي الهش بطبيعته؟ / لأنه ينبغي أن يُقال / ما قد يفوت أوانه في الغد". وفي ختام قصيدته يؤكد غراس: "لن أصمت بعد اليوم / لأنني سئمت نفاق الغرب / ولأنني آمل أن يحرر كثيرون أنفسهم / من أغلال الصمت". نعم، اعتراف متأخر جداً، ولكنه خير من الاستمرار في الصمت. في نهاية القصيدة يطالب غراس، بسذاجة، "المتسبب في الخطر الواضح / بنبذ العنف / والإصرار في الوقت نفسه / على مراقبة دائمة لا يعوقها عائق / لقدرات إسرائيل النووية / ومنشآت إيران الذرية / تقوم بها هيئة دولية / توافق عليها حكومتا كلا البلدين. / هكذا فقط يمكن مساعدة الجميع / الإسرائيليين والفلسطينيين / بل كل البشر / في هذه المنطقة التي يحتلها الجنون / الذين يعيشون في عداوةٍ جنباً إلى جنب / وبهذا نساعد في خاتمة المطاف أنفسنا أيضاً."

قد تبين هذه المطالب "اليوتوبية" أن صاحب "القطة والفأر" قد أصبح يعيش في برج عاجي بعيد عن أدران السياسة. ولكن من حق الشاعر أن يتمنى، ومن حقه أن يكسر الصمت ولو متأخراً جداً، وأن يكتب بـ"آخر قطرات الحبر" أنه سئم النفاق والمحرمات.

 

سمير جريس
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2012

سمير جريس صحفي ومترجم مصري الأصل يعيش في برلين. ترجم عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية الألمانية إلى العربية، منها: "عازفة البيانو" لإلفريده يلينك و"الكونتراباص" لباتريك زوسكيند و"الوعد" لفريدريش دورنمات، و"رجل عاشق" لمارتين فالزر.