جمهوريّات تتحول إلى مملكات

منذ بداية الألفيّة الجديدة هناك تطوّر جديد في الشرق الأوسط والأدنى: حكومات تتحوّل إلى جمهوريّات وراثيّة، بينما مملكات خليجيّة تتبنّى عناصر برلمانيّة دون سلطة تشريعيّة حقيقيّة. تحليل بقلم مراسل الشرق الأوسط لصحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ

مملكات وجمهوريّات وراثيّة عوضًا عن الديمقراطيّة
بقلم فكتور كوخر مراسل الشرق الأوسط لصحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ

قبل ربع قرن كانت توقّعات خبراء الشرق الأوسط تطرح بصفة إجماليّة الافتراض بأنّ دول بلدان المشرق العربيّ بأنظمتها البرلمانيّة الاستعراضيّة تمثّل الطليعة التقدّميّة بالنسبة للعالم العربي، وأنّ مملكات الخليج ستنتهي بدورها إلى اتَباع هذا النمط. كانت تلك إلى حدّ بعيد قناعة الصحفيّين العرب. وقد فخّم الغرب هذا الأمر بقناعة مفادها أنّ التطّوّر الذي يعرفه المشرق العربيّ وإيران من شأنه أن يقود بصفة ملحوظة باتّجاه تعميم شامل للديمقراطيّة؛ تقودهم في ذلك الفكرة القائلة بأنّه بقدر ما يكون استقرار الحكومات كبيرًا بقدر ما يتصلّب عود المؤسّسات المدنيّة و يتدعّم احترام حقوق المواطنين.

منذ بداية الألفيّة الجديدة هناك تطوّر مغاير تمامًا قد تشكّل على أرض الواقع: هاهو الشرق الأدنى يلتقي في نقطة وسط مشتركة. حكومات المشرق العربي تبدو بصدد التحوّل إلى جمهوريّات وراثيّة، بينما الممالك الخليجيّة تتبنّى عناصر برلمانيّة دون سلطة تشريعيّة حقيقيّة. الأنظمة الجمهوريّة تدخل العامل الوراثيّ في التداول على رئاسة الدولة، أمّا المجالس البرلمانيّة فتواصل لعب دور القاعدة الشعبيّة للأحزاب الحاكمة التي تخدم القيادات؛ أي كقنوات عموديّة تصل القمّة بالقاعدة. وعلى عكس ذلك تفسح المملكات مجالا لمجالس استشاريّة طبقًا لمبدأ الشورى الإسلامي؛ مجالس منتخبة في جزء منها بينما الجزء الثاني معيّن فوقيًّا؛ تُخضع المقرّرات والمشاريع القانونيّة للحكومات إلى نقد صارم، لكن يظلّ القرار بالنّهاية دومًا من صلوحيّات الحاكم، وهو أمر يمكّن من توسيع القاعدة الشعبيّة للبيت الحاكم دون أن يضع صلوحيّات سلطته الفعليّة موضع السؤال. هكذا تجد الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة نفسها تحتل موقع الوسّط بنظامها النصف تيوقراطي-نصف برلمانيّ .

هناك نمط حكوميّ مشترك عام قد فرض وجوده. هذا النمط يعبّر عن نفسه عبر عمليّة تشخيص الاستقرار: هناك ضامن حكوميّ يسهر على حراسة القانون والنظام من موقع إداريّ متعال على كلّ المؤسّسات. هنا تفسح الحقوق المدنيّة المجال لهاجس الاستقرار الذي يحتلّ الصدارة. يتلاءم هذا النمط مع المبدأ الإسلامي للحكم: أن يستشير الحاكم رعيّته في الأمر، ويظلّ متمسّكا بالتعاليم الأخلاقيّة للإسلام، لكنّه يفصل في اتّخاذ القرارات بنفسه بحسب ما يمليه عليه ضميره، ولا يكون مسؤولا في ذلك إلاّ أمام العليّ القدير وحده. حارس الدّولة يراقب ويحدّد الاتجاهات العامّة لنشاطات الحكومة ومجلس النواب. والمجالس النيابيّة يتمّ تكوينها مبدئيًّا على أساس الإرادة الشعبيّة وما تقرّره صناديق الاقتراع، غير أنّ العمليّة تشوبها الكثير من النقائص؛ فالحكومة تحدّد مسبّقًا وعبر وسائل الإعلام الرسميّة المنحى الذي تبتغيه لمسار الأمور، وذلك المنحى هو الذي سيقع فرضه بتزوير الانتخابات عند الضرورة، وهكذا تكون النّتيجة في نهاية المطاف دومًا إفراز أغلبيّةٍ لصالح الحزب أو تحالف الأحزاب الحاكمة، ويظلّ أيّ تغيير مفاجئ عن طريق صناديق الاقتراع أمرًا غير وارد، بالرغم من أنّ العديد من تلك الأنظمة تدعو نفسها بالديمقراطيّة. أمّا تقلّد مسؤوليّة القيادة العليا للحكم فيتقرّر إمّا عبر الوراثة، أو عبر مشيئة إلهيّة، أو عن طريق دائرة ضيّقة من زمرة الناخبين من الموثوق في ولائهم، أو عن طريق تقديم مرشّح واحد يحظى بموافقة النظام ومدعوم باستفتاءٍ موجّهٍ لهذا الغرض.النموذج السوري

إنّ حقيقة كوْن العمل البرلماني يخضع في بلدان المشرق العربي إلى نمط ديمقراطيّ مغاير لما نعرفه في الغرب قد اتّضحت بصفة جليّة صارخة بمناسبة وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد صيف سنة 2000. لقد تداول أصحاب الأمر داخل النظام السوري مسبّقًا في موضوع تسوية الخلافة حريصين كلّ الحرص على تفادي حصول أيّ فراغ. وبما أنّ العناصر الشّهيرة من رفاق درب الأسد الأب قد أقرّوا بأنفسهم كديناصورات -مثل وزير الدفاع مصطفى طلاس الذي كان منذ بداية الخمسينات من رفاق الأسد بأكاديميّة الطيران في حمص ثمّ بمصلحة الضبّاط في مصر- فإنّ مسألة ضرورة تشبيب الحكم غدت مطروحة إذًا. وأيُّ قائد شابّ سيكون بإمكانه أن يكسب لنفسه مساندة شعبيّة غير نجل الأسد، بشّار الذي تمّت تهيئته من قِبل أبيه لمناصب الحكم العليا، والذي يحمل على جبينه سمات الثّبات ورباطة الجأش و الحذر؟

هكذا تمّ الإعلان عن هذا الاتفاق القياديّ، وبسرعة أجريت التعديلات الضروريّة على الدستور كي يتسنّى ابتداء من الآن فسح المجال لارتقاء قمّة هرم السلطة في سنّ الـ 34 عوضًا عن الـ 40. بعد شهر من ذلك كان طبيب العيون بشّار الأسد قد أدّى يمين القَسم كرئيس للجمهوريّة. وأمام مجلس النوّاب ألقى الأسد خطابًا افتتاحيًّا لتولّيه مقاليد الرئاسة، خطاب تتجاور داخله الآمال المستقبليّة جنبًا إلى جنب مع الثبات على التمسّك بتقاليد الصرامة الحديديّة، بطريقة محسوبة الدقّة والمكاييل بما يجعلها تحيّد وتنفي بعضها بصفة متبادلة . دعا الأسد الشّاب إلى " تعدّد الآراء والتفكير المبدع " تماماً كما دعا إلى المحافظة على المتوارث، بما جعل نوايا إعادة بعث الحياة في الهياكل المتحجّرة كلّيًّا لنظام الحزب الواحد لا تعلن عن نفسها إلاّ بطريقة خفيّة مواربة. منذ ذلك التاريخ انكشفت سياسة اتّباع الخطّ القديم، وانزاح القناع عن طابعها الموغل في المحافظة: تجاه اسرائيل، لم يكتف الأسد الابن بالمطالبة باسترداد آخر شبر من الأراضي المحتلّة حتّى بحيرة طبريّة، بل ، وفي نبرة بلاغيّة حماسيّة، طالب بالتنازل عن شريط أرضيّ من الضفّة الغربيّة للبحيرة. أمّا بخصوص الرّبيع الدّيمقراطي لمنتديات الجدال السياسي الذي انتعش في غمرة الأمل في انفتاح سياسيّ حقيقيّ، فقد عمد الأسد إلى استئصال شأْفته من الجذور - وصولا إلى أولئك الصحافيّين الذين حرّروا مقالات تفيض حماسًا حول ذلك الربيع الانفتاحيّ.

وما إن شرع المتابعون لما يجري في الشرق الأوسط في مقاربة الأوضاع من زاوية صعود جيل جديد إلى السلطة - وهو بالفعل ما كانت توحي لهم به وراثة العرش في كلّ من المغرب والأردن- حتّى برز لهم أولياء عهد آخرون في حكومات تعلن بصخب وهرج عن طابعها الجمهوريّ. ها هو سيف الإسلام القذّافي، ابن قائد الثورة، يلمع عالميًّا في دور وساطة دبلومسيّة في قضايا شائكة، وبالذات في المفاوضات حول تسليم الرهائن الأوروبيّين الذين كانوا في قبضة الإسلاميّين الفليبّينيّين. والقذّافي الأب ، بالرغم من أنّه لا يتجاوز الستّين من العمر إلاّ بقليل، ما يزال ممسكًا بيد ثابتة بمقاليد السلطة منذ انقلابه العسكري سنة 1969، وهو تقريبًا الوحيد المتبقّي على قيد الحياة من مجمل رفاق دربه من السياسيّين.

وفي اليمن يلمع نجم أحمد علي صالح ، نجل الرئيس علي عبد الله صالح، كقائد لوحدة كتائب الطليعة في الجيش، وكنائب في البرلمان منذ سنة 1997، وهو منذ حدوث العمليّات الإرهابيّة ضدّ الولايات المتّحدة قائد عمليّات مكافحة الإرهاب في بلاده . أما في مصر فإنّ جمال مبارك ابن رئيس الجمهوريّة، قد غزا قلوب الشباب وذلك قبل أن يتمّ إدماجه أخيرًا سنة 2002 ، وهو في سنّ الـ39 من العمر في لجنة من لجان سكرتاريّة الحزب الوطني الديمقراطي. وفي العراق يحظى عُديْ صدّام حسين - رجل منغمس في اللذّات وماجن أرعن - بـ "الانتصار" في الانتخابات البرلمانيّة ، بينما الابن الأصغر قُصيْ ما فتئ يتسلّق مراتب سلّم الكومندوس العسكريّ حتّى بلوغه مجلس القيادة في حزب البعث . إنّه مولد مصطلح الجمهوريات الوراثيّة في بلدان الشرق الأوسط.

العقبات في وجه الديموقراطية

أريد أن أتطرّق الآن إلى بعض الأمثلة من النّصف الأخير للقرن المنصرم عن بعض العناصر المحدَّدة التي أعاقت تطوّر ديمقراطيّة حقيقيّة دون تضييقات؛ والأمر لا يتعلّق فقط بالعمر القصير نسبيًّا للدول الوطنيّة هناك – كيما نحيّد هذا الافتراض.

يشير المؤرّخون العرب من جهة إلى الافتقار إلى فكر سياسيّ منضبط ومتّجهٍ إلى عمليّة تأسيس بعيدة المدى، ومن هنا ذلك الميل إلى تسْييس شعبويّ ذا طابع دعائيّ مبتذل. ومن جهة أخرى يذكرون الضغط الخارجيّ المتواصل الذي يجعل هاجس الاستقرار وبقاء الدولة يحتلّ صدارة الاهتمامات. أمّا أصحاب السلطة في دول الخليج فقد عمدوا، بفضل ثرواتهم النفطيّة إلى تأسيس دول ريْع بأتمّ معنى الكلمة، حيث الاعتبار الوحيد الذي ينبغي أن يولى للشعب يتمثّل في الحرص على أن لا يقع إخطاء الهدف في التوزيع غير العادل للثروة. وكمراقب غربيّ علمانيّ يمكنني أن أضيف كعنصر متمّم الطابع الأبويّ الذي يتّسم به النظام الاجتماعي المشرقي، والذي يحدّد الاعتراف المتين بسلطة متعالية، هي بالنسبة للكثير سلطة إلهيّة طبقًا لشرع الإسلام.

النموذج اللبناني

ما يزال لبنان، وحتّى بعد الحرب الأهليّة التي عرفها، يمثّل محمية لحرّية التعبير في الشرق الأوسط. لقد منحت سلطة الانتداب الفرنسيّ البلاد استقلالها بعد الحرب العالميّة الثانية وتركتها مكتملة التجهيز، وذات مؤسّسات تقوم بوظائفها. وبفضل التعدّد العقائدي الثريّ التي كان يحدّد معالم النظام السياسيّ الداخليّ، استطاع أن يتأسّس هناك نظام تعدّد حزبيّ بصفة طبيعيّة إلى حدّ ما. ولكن الهياكل الإقطاعيّة-البترياركيّة حولت النظام إلى ديمقراطيّة شخصيّات. وانجرّ عن ذلك أن ترك موت جميّل وشمعون وفرنجيّة وجنبلاط الأب خلال سنوات الحرب خارطة من الأحزاب الضعيفة وغير واضحة المعالم والحدود، وهو ما سهّل على السوريّين عمليّة إعادة تشكيل سياسيّ كلّيّ للبنان.
ليس لأيّ لبنانيّ أن يغفل عن التأثيرات المضرّة للمحيط المجاور: فمنذ سنة 1948 قذف تأسيس دولة إسرائيل بموجة من اللاجئين فوق أرض ذلك البلد الصغير، ومذّاك فرض تواجد جار غير ودود ومدجّج بالأسلحة على الحدود الجنوبيّة على القيادة السياسيّة ببيروت اتّخاذ سلسلة إجراءات دفاعيّة متتالية وتحمّل الأضرار المنجرّة عن أعمال حربيّة متجدّدة دومًا. ثمّ جاءت موجة الضغوطات القوميّة الناصريّة التي كانت تضع خصوصيّة لبنان موضع سؤال. بعدها نزلت قوات المارينز الأميركيّة ببيروت على إثر صدمة الانقلاب العسكريّ المناهض للغرب في العراق سنة 1958. وبعد الضربة التي أُلحقت بالفلسطينيّين في الأردن في أيلول الأسود سنة 1970 ما انفكّ سيل توافد مقاتلي منظّمة التحرير الفلسطينيّة على بلاد الأرز. وقد أدّى الحضور المسلّح للعنصر القوميّ العربيّ عبر الفلسطينيّين وكذلك التحالفات التي أقاموها مع أحزاب محلّيّة إلى انفجار النظام السياسيّ في ظرف سنوات قليلة، ثمّ اندلاع الحرب الأهليّة.
وعمِد نظام الاحتلال السوري إلى تغذية نار تلك الحرب الأهليّة إلى حدّ ما، قبل أن ينتهي ضمن عمل دؤوب إلى خنقها. ومنذ سنة 1990 يجد النظام السياسي بلبنان نفسه خاضعًا للوصاية السوريّة، وقد ساهم السياسيّون اللبنانيّون في تدعيم ذلك الوضع بميلهم المشؤوم إلى الدفع بنزاعاتهم باطراد باتّجاه إرساء درب تذلّل وتوبة (درب غانوسّا جديد) يسوقهم دومًا إلى دمشق. ولئن تحظى الانتخابات البرلمانيّة في لبنان بفسحة من الحريّة، فإنّها تظلّ حرية مشروطة، إذ أنّ ضمان أغلبيّة موالية لسوريا يظلّ شرطًا أساسيًّا يتمّ فرضه عن طريق ممارسة شتّى الضغوطات ورشوة المرشّحين والنّاخبين.النموذج الإيراني

لمرّتين تحدث إيران بنظامها الإسلامي رجّة عنيفة على مُجمل المنطقة. في المرّة الأولى كرّست الثورة الخميْنيّة سنة 1979 تحقيق طموح الفقهاء إلى المسك بزمام السلطة. وفي المرّة الثانية عمد الرئيس خاتمي على إثر انتخابه إلى قلب المعادلة التي تقوم عليها السلطة؛ يتمثّل طرحه في أنّ المبادئ الإسلاميّة في السّياسة لا تُستمدّ من تعاليم الفقهاء دون غيرهم، بل من إرادة الشعب المسلم التي تعبّر عنها صناديق الاقتراع. ولقد بيّن القمع الصارم الذي تعرّضت له الإصلاحات الديمقراطيّة لخاتمي من قبل قوى الأمن والعدالة الرسميّة بأنّ دستور الجمهوريّة الإسلاميّة كان يسمح حقًّا بنقاش برلمانيّ حيّ حول تشريع القوانين ونوعيّة عمل الحكومة، لكن شريطة أن يظلّ كلّ ذلك داخل الحدود المرسومة مسبّقًا طبقًا لمقاييس المبادئ الإسلاميّة. والقائمون على رعاية هذه المبادئ هم قائد الثورة الذي يحتلّ منزلة متعالية على السلطة التنفيذيّة، والمجالس الإسلاميّة لحرّاس الثورة والأخصّائيّين، تنضاف إليهم قوى الجيش والشرطة التي تأتمر بأوامر قائد الثورة الذي يعيّن إلى جانب ذلك القضاة ويتحكّم في التلفزيون. وهكذا يتمّ إخضاع المؤسّسات المنتخبة ديمقراطيًّا كالبرلمان ورئاسة الجمهوريّة إلى سلطة مراقبة لا تستمدّ شرعيّتها من الشعب.
هذا الاكتفاء الذاتي لصاحب السلطة الحقيقيّة يستمدّ قواه من عائدات النفط التي تجعل النظام مستقلاّ إلى حدّ بعيد عن المواطنين كمورد للضرائب الحكوميّة. وإلى جانب ذلك، كلّما كان على زعيم الثورة الإيرانيّة، سواء الخميني أو خامنئي ، أن يملي قرارات حاسمة ما، فإنّه يجد لها دوما تبريرًا بالإحالة على حضور خطر الشيطان الأكبر الأميركي الذي يسعى إلى تخريب الإسلام بدعايته المروّجة لنمط حياة ماديّ وملحد.

النموذج الفلسطيني

إنّ دولة عرفات التدريبيّة تعطي أفضل برهان على أنّ الضغوط الخارجيّة المكثّفة والخطر الحائم بصفة دائمة لحياة البؤس والكفاف تفرز، وبصفة حتميّة تقريبًا، الارتداد الانتكاسيّ إلى الأنماط الاجتماعيّة التقليديّة وإلى أوضاع الاستبداد والفساد. لقد شاهدتم جميعًا على شاشة التلفزيون تلك الأشهر الدراميّة عندما كانت الدبّابات الإسرائيليّة تهدم منشآت الإدارة الفلسطينيّة قطعةً قطعةً بما في ذلك مقرّ حكومة عرفات، حتّى آخر جدار لبيته الخاصّ. بسرعة وجد "أبوعمّار" وظيفته تنحسر في دورها الرمزيّ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة؛ لم يعد له على مدى أيّام متتالية ما يفعله سوى أن يظلّ جالسًا في "مقاطعته" مجسّدًا بشخصه لفلسطين. عبرها رأى شعبيّته تبلغ ذروة جديدة بالرغم من أنّ – بل على الأرجح بالذّات لأنّ – الإسرائيليّين كشفوا عن ألاعيبه كمدعّم ومشجّع للعمليّات العدوانيّة المضمِرة على المستوطنات اليهوديّة، بل وحتّى للعمليّات الانتحاريّة داخل المدن الإسرائيليّة. ولم يتنازل عرفات في آخر لحظة من مواجهته مع رئيس الوزراء المعيّن محمود أبو عبّاس إلاّ عن جزء محدّد من تمسّكه الكلّي والمطلق بالسلطة كزعيم وكقائد أعلى للقوّات الأمنيّة وكصاحب اليد العليا على الشؤون الماليّة. مع العلم أنّ كلّ الفلسطينيّين كانوا يتحدّثون في بداية تجربة الاستقلال الذاتي سنة 1994 عن نيّتهم في إرساء ديمقراطيّة حقيقيّة لمجتمع سيكون له إشعاع خاصّ مقارنة مع الأنظمة الاستبداديّة لجيرانه العرب.

وكثيرا ما سألت أصدقائي في غزّة ورام الله ونابلس: لماذا فسحتم المجال وقتذاك لعرفات وعصابته الفاسدة من المرتزقة والانتفاعيّين، وكيف تسنّى لهم أن يفرضوا حكمهم الاستبداديّ الفاسد ضدّ إرادتكم؟ وفي كلّ مرّة كان الجواب المفعم بالاستسلام هو نفسه: إنّ عرفات يضمن للإسرائيليّين والأمريكان بالضبط ما يطلبونه منه؛ قمع مجموعات المعارضة المسلّحة، وأنّ مبعوثي الحكومة الإسرائيليّة عمدوا إلى التعامل مع عرفات وجماعته لتأسيس ذلك النظام الاحتكاري الفاسد الذي يضع يده على الإسمنت والمحروقات والسكّر والتبغ، بهدف تكبيل الفلسطينيّين داخل وضع ارتباط تبعيّ. أمّا المساعدات الماليّة الأوروبيّة الكبيرة فقد ضمنت لعرفات مصدرًا إضافيًّا للنّفقة على مرتّبات جيش قواه الأمنيّة وموظّفي إدارته - المثال الأمين لنموذج دول الرّيْع العربيّة الأخرى.

وبخصوص التوقّعات حول حظوظ نجاح الحكومة الجديدة تحت رئاسة محمود أبو عباس يحيل الفلسطينيّون على المهمّة الملحّة المرتبطة بـ "خارطة الطريق من اجل السلام"، ألا وهي فرض التخلّي الكلّي عن أعمال العنف، غصْبًا على الميليشيات المسلّحة.

مستقبل العراق

هل سيتمكّن العراق الآن من كسر طوق هذا النمط بعد أن أطاح الأمريكان بنظام صدّام حسين ومشروع إعداد تداول وراثيّ على الحكم كان باديًا للعيان؟ العديد من العوامل التي ساعدت على إرساء النظام الاستبدادي المنمّق بديكور برلماني، ما زالت تثبت حضورها في بلاد ما بين الرافدين:
-بنية اجتماعيّة أبويّة ذات عناصر قبليّة متينة كانت قد أجبرت الدكتاتور صدّام حسين على الارتداد إلى دائرة أقربائه على إثر تسلّل الوهَن إلى نظامه الحزبيّ.
-الدخل الرئيسيّ للحكومة العراقيّة ما يزال يتأتّى من عائدات البترول، وبذلك لا يكون النظام مدينًا للمواطنين بالضرائب التي يدفعونها له، بل على العكس من ذلك فإنّ الشعب هو الذي ترتبط أحوال معيشته بتوزيع ريع العائدات النفطيّة من قبل أصحاب السلطة.
-بعد الهزيمة المدهشة السريعة فإنّ الشعور بالعجز الكلّي للنظام القديم سينتشر بشكلّ أقوى بكثير ممّا كان عليه الأمر سابقًا غداة النكبة في حرب 1948 ضدّ إسرائيل؛ وعليه فإنّه من المفترض أن نشهد عن قريب انطلاق حملة استئصال لمظاهر الفساد والتّسيير المضلّل. غير أنّ مثل هذه الحركات قد قادت إلى حدّ الآن وفي كلّ مرّة إلى الانقلابات العسكريّة، وإلى مزيد من الاستبداد.
-إنّ النزاع العربي الإسرائيلي والتهديدات التي تشعر بها الدول العربيّة من جرّاء القوّة العسكريّة الجهوية للدولة اليهوديّة المجاورة، وما ينجم عن ذلك من تضخّم للوزن العسكري لدى الحكومات العربيّة ستظلّ كلها حاضرة، كامنة الحضور على الأقلّ ؛ فالحلول المقترحة من قبل حكومة بوش تحمل ميولا إسرائيليّة وتستنهض مجدّدًا الشعور بالغبن لدى العرب. أمّا وقع التأثير الخارجي على الأحداث السياسيّة في العراق فقد تضاعف أكثر من ذي قبل بعد الغزو الأميركي الأخير؛ وبالتالي فإنّ أيّ ضغط ،مهما كان معتدلا، باتّجاه تأسيس ديمقراطيّة حقيقيّة سيقع تقبّله كممارسة للهيمنة، طالما كان مصدره أميركا. وبفعل هذا التأثير الأميركي ستتصاعد وتيرة المماحكات مع الجيران، الأمر الذي سيجعل التوتّرات بين العناصر الإثنيّة والطائفيّة داخل العراق تزداد احتدامًا هي بدورها. وبالتالي فإنّ مسيرة استتباب الاستقرار ستظلّ مؤجّلة. لهذا السبب يبدو وكأنّه قد تمّ إعداد المسرح لإعادة إنتاج النمط الاستبدادي المألوف في العراق، ولمدّة طويلة.

نص محاضرة ألقاها فكتور كوخر في مؤتمر
نظمته جامعة زوريخ في شهر مايو/أيار بحث تداول السلطة في الشرق الأوسط.
ترجمة علي مصباح