قرار صائب!

أخيرا، كاتب شاب يحصل على الجائزة وهو في أوج عطائه الأدبي. كاتب لم يبلغ إنتاجه تلك الذرى القصوى التي لا ينتظر بعدها حصول تطور ذي بال، بل بإمكاننا أن نظل ننتظر منه الكثير... تعليق شتيفان فايدنر

أورهان باموك، الصورة: أ ب
أورهان باموك: جائزة نوبل للآداب 2006

​​

ثم هاهي الجائزة تمنح أخيرا لكاتب نقبل على قراءته بشغف، وليس واحدا –مع المعذرة- من أولئك المؤلفين المسرحيين المغمورين مثل داريو فو أو هارولد بينتر، أو واحدا مثل إلفريدة ييلينيك التي تحظى بتقدير أكبر بكثير من إقبال القراء على كتاباتها.

إعطاء جائزة نوبل للآداب لأورهان باموك يعيد الاعتبار إلى ذلك الأمر الذي جعلتنا جوائز السنوات الأخيرة نفتقده بشكل مريع، ألا وهو أن يستعمل الإسم النبيل لهذه الجائزة عن وعي وقصد من أجل جلب انتباه القراء والرأي العام إلى الأدب والقراءة عامة، وإلى الأصوات الأدبية النائية عن كل الأغراض والحسابات المنفعية. كل هذا قد حصل الآن.

وهكذا وُضعت الاعتبارات الأدبية في صدارة الاهتمام، ذلك أن أورهان باموك ليس سياسيا أو واحدا من الطامحين إلى تغييرالعالم متسترا تحت قناع الأدب، بل كاتبا بالطبع والسليقة، ولنقلها دون تحفظ، كاتبا رائعا. كاتب يقرأه المرء، لا لكونه يقدّم الرأي الصحيح، بل لأنه يستدرج إلى القراءة وإلى الانغماس في عالم قصصه. ولأن قصصه تتجاوز على الدوام مجرد الحبكة السردية والتشويق، بل هي أكثر من ذلك رحلات فتوحات؛ فتوحات لعوالم لها صلة ما بعالم واقعنا اليومي لكنها تفلت من حقل رؤية نظرتنا الاعتيادية.

والروايتان الأخيرتان لباموك "أسمي أحمر" و "ثلج" ليستا فقط مشوقتين مثل روايات بوليسية، بل هما تجعلاننا نلمس أعماق الروح التركية الممزقة في المراوحة بين المشرق وأوروبا. كما تبيّنان بوضوح ما يمكن أن تنجزه الكتابة الأدبية بطريقة طبيعية في عصر سيادة وسائل الإعلام؛ أي كونها في الآن ذاته أكثر الوسائط التعبيرية حرية وأغزرها محتوى.

إن العبارة القائلة بأن الأدب حر وفي الآن ذاته وسيلة لتحرير العقول، قد نجح أورهان باموك خلال السنوات الأخيرة من إقامة الدليل عليها أكثر من أي كاتب آخر من مرتبته. لقد استعمل باموك تلك الحرية التي تمنحه إياها شهرته الأدبية المحصّلة لديه قبل حصوله على جائزة نوبل من أجل تذكير وطنه بضرورة إنجاز مراجعة لتاريخه مراجعة نقد ذاتي، والكف عن التملص من مواجهة مسألة الإبادة الإثنية التي مورست على الأرمن.

وقد جلبت له هذه المواقف عداوة ضارية من طرف القوميين الأتراك، لكن ذلك لم يفتّ من ثباته على موقفه. وإنها فعلا لمصادفة ، لكنها مصادفة سعيدة أن يوافق يوم منحه جائزة نوبل مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون يقضي بوضع كل عملية نفي للإبادة الإثنية للأرمن تحت طائلة العقوبة القضائية، وذلك بالرغم من الاحتجاجات الشديدة من الجانب التركي.

لكن باموك ليس من أولئك الذين يتكلمون بما يرضي الغرب دوما، ولا هو يسعى إلى تقديم صورة سلبية عن بلاده، وقد برهن عن ذلك في السنة الماضية في مداخلته في كنيسة باول بفرنكفورت لدى تسلمه جائزة السلام للناشرين الألمان. وقد فاجأ الكاتب التركي الذي لا يبخل بانتقاداته لتركيا جمهوره بمداخلة حماسية أكد فيها على أن بلاده جزء من أوروبا وعلى مساندته لانضمام تركيا إلى مجموعة الاتحاد الأوروبي.

وعلى ضوء هذا المعطى فإن قرار لجنة ستوكهولم يكون قد أعرب لا عن صحة اختيار أدبي فحسب، بل وكذلك عن موقف سياسي بارز. لقد كان قرار لجنة الجائزة موقفا سياسيا أوروبيا لصالح انضمام تركيا إلى الاتحاد، وموقفا ضد الذهنية المتحجرة للقومية التركية ولصالح قوى التوازن والتقارب هنا وهناك.

مظهر ثقافي سياسي آخر لا بد من الإشارة إليه أيضا. فمنح الجائزة لأورهان باموك جاء بعد تسليمها لنجيب محفوظ ككاتب آخر من العالم الإسلامي، وهو واحد من الذين يكتبون بإحدى اللغات الثقافية الكبرى داخل الفضاء الإسلامي. وإنه ليس من باب المصادفات أن باموك الذي يعرف بتوجهه الكوني وبإجادته التامة للغة الأنكليزية، يكتب باللغة التركية، بل إنه يرى إلى نفسه كجزء من التقليد الأدبي العريق للفضاء الأدبي والشعري العثماني والمشرقي، وهو يستعمل موروث هذا الفضاء وما يحتوي عليه من أشكال وصور مميزة ويحولها إلى مادة خصبة بالنسبة للحاضر.

وهذا الموروث العثماني هو الذي يعود إليه الفضل في ما تلاقيه كتابة باموك من إعجاب لدى القراء في تركيا كما في العالم الغربي على حد السواء. وبالتالي فإن هذه الجائزة هي أيضا تكريم من خلال باموك لمجمل اليقظة التي تشهدها التقاليد السردية المشرقية.

شيء من الأسف يشعر به المرء مع ذلك تجاه مرشح آخر لجائزة نوبل وهو الشاعر أدونيس البالغ الآن 77 سنة من العمر، والذي يتردد إسمه كل سنة ضمن قائمة المرشحين للجائزة، وكل سنة يخرج بيد فارغة. ولئن كان الإهمال الذي لقيه أدونيس خلال السنوات السابقة، وخاصة أمام تكريم كتاب أقل شأنا منه بكثير مثيرا للألم، فإننا لن نجد اليوم ما يمكن أن نؤاخذ عليه لجنة التحكيم على اختيارها في هذه السنة.

لنتمسك إذًا بهذه البشرى السعيدة: إن جائزة نوبل للآداب قد عادت إلى الوجود! وحتى وإن كان من الصعب أن يظل المرء يتوفق دوما إلى قرار يعد صائبا على جميع المستويات، فإنه لا يسعنا إلا أن نتمنى من كل قلبنا أن يتواصل هبوب هذه النسمة الجديدة المنعشة لسنوات عديدة في المستقبل.

بقلم شتيفان فايدنر
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

جائزة نوبل للآداب 2006
منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب للروائي التركي أورهان باموك. نعرفكم هنا بالكاتب، بأهم أعماله وبمواقفه من العديد من القضايا التركية