الوجه الآخر للعولمة

لم يشهد تاريخ البشرية حضارات مغلقة على نفسها قط. يقدم الدكتور كارل هاينز كول، مدير معهد فروبينيوس Frobenius-Institut برهانا على التأثير المتبادل لحضارات العالم المختلفة. وهو لا يرى حتمية نشوء ثقافة موحدة في زمن العولمة.

عن التوترات المثمرة بين الثقافات

يبدو أن مصطلح العولمة على الطريق الأفى لتجسيد واقع العصر الذي نعيشه. على أنه كان من الأنزه أن نتكلم عن "أورو _أمركة" العالم أو تغريبه. فالأنماط الاقتصادية والحياتية التي يطغى عليها الطابع الرأسمالي الغربي، والتي بدأت تكتسح العالم بعد انهيار الشيوعية، توحي بذلك. إلا أنه يتم غض النظر عن أن التطور المتسارع للعولمة خلال العقد الأخير لا يمثل سوى نقطة نهاية مؤقتة لمسار تاريخي انطلق مع اكتشاف العالم الجديد قبل خمس مائة عام. فالاستعماى والحركة التبشيرية إلى المسيحية كانا قد مهدا الطريق لانتشار نمطي التفكير والحياة الغىبيين على أوسع نطاق. وهذان العاملان الأساسيان ساهما في فتح باب الأسواق في وجه السلع الأوروبية على مصراعيه. وتبعاً لما تقدم تكون أورَبَةُ العالم الثقافية والسياسية قد سبقت العولمة الاقتصادية بدون شك، ووضعت لها شرطاً أساسياً لا يمكن التغافل عنه.

من جهة أخرى، انطلقت المقاومة ضد سيطرة الغرب الموجودة حتى بعد الاستقلال الشكلي للمستعمرات السابقة، في البداية في مجالي الثقافة والدين. وعلى عكس توقعات منظري الحداثة، استعادت القيم التقليدية مكانتها السابقة.

بدأت في نهاية السبعينات حركة ثقافية عالمية مناهضة، وذلك مع خلع الشاه الموالي للغرب، وسيطرة الملل على الحكم في إيران. فانتشرت الأصولية الإسلامية سريعاً في أفغانستان وباكستان، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والسودان. أما في الهند، فقد عمد المتطرفون الهندوس إلى مقاومة عولمة الثقافة. وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بدأت بعض الحركات البروتستانتية الأصولية تظهر مقاومة علنية ضد العمل على التوحيد التام لأشكال الحياة والفكر في العالم، معتبرة إياه تفكيكاً والأعراف الأخلاقية السائدة.

هل هو توحيد فعلي للثقافة في العالم؟

ومن المتناقضات الغريبة أنه بدأ يظهر ما كان يتوقعه بعض المثقفين المتشائمين من أمثال أورتغاي غاسيت Ortegay Gasset و كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss. إذ بدأ هذا المجال الثقافي الموحد يواصل انتشاره. فلم تنج مدينة آسيوية واحدة ولا نظيرة لها في أمريكا اللاتينية من محلات سلسلة الأكلات السريعة الأمريكية؛ أما مشروب الكوكاكولا فيمكن للمرء الحصول عليه في الأحراش الافريقية تماماً كما يحصل عليه في جزر المحيط الهاديء. واكتسحت قمصان الـ "تي شورت" أرياف بلاد العالم الثالث لتحل بذلك محل الأزياء التقليدية بألوانها المختلفة الزاهية. وبفضل المنتجات الجذابة لصناعة التسلية الحديثة تنشر السينما والتلفزيون والأفكار ونمط الحياة نفسها في كل أنحاء العالم. والظاهر أن انقراض الثقافات يماثل انقراض فصائل الحيوانات والنباتات في العالم.

لكن الظاهر الخارجي يخدع. وإذا تمعن المرء جيداً لوجد خلف هذا التشابه الخارجي، فروقاً كبيرة وخطيرة. في البداية يتم تزويد الناس بالأفكار والسلع الواردة من الغرب، وبعد دمجها في مسار الثقافة الذاتية، تعطى لها معان ومدلولات جديدة لتصبح فيما بعد أسلحة فاعلة يسهل توجيهها ضد من تم استيرادها منهم.

في عام 1978، أي قبل سنة من تولي آية اللـه الخميني الحكم في إيران، نشر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، المقيم في الولايات المتحدة، دراسة أثبت فيها بأن صورة الشرق الشائعة في الغرب لا تعكس حقيقة الواقع إلا يسيراً. وحسب فرضية إدوارد سعيد فإن صورة الشرق، ليست إلا إختراعاً انطلق من خيالات الكتاب والعلماء الأوروبيين. وإذا ما سافر المرء بعد عقدين من الزمن من صدور الدراسة إلى إحدى بلاد الشرقين الأوسط أو الأقصى الإسلامية، التي تطغى عليها الأصولية، سيخلق لديه انطباع حينها بأن الصورة التقليدية التي تسود في أوروبا عن الشرق، وتحت ضغط العولمة أو كرد فعل عليها، أصبحت تعكس الواقع الحق في تلك البلاد. فلما يحين وقت الصلاة يتوقف المرء عن العمل، يبسط السجادة للصلاة وينحني باتجاه مكة. ويتم حسب أحكام الشريعة الإسلامية، قطع يد السارق ورأس القاتل. كما بدأ الفصل بين الجنسين ينتشر باطراد ملحوظ. فالحجاب الأسود الذي يغطي الجسم كله، والذي كان منتشراً في الأرياف، اكتسح شوارع المدن أيضاً. وليس من التناقض في شيء إذا ما استخدم المؤذن مكبرات الصوت، أو تم تطبيب من قطعت أيديهم لجرمهم في مشاف غاية في الحداثة، وأن تعمد المحجبات إلى استخدام الحاسوب.

ويخترع الشرق ذاته أخيراً. ويرتدي الاسلام ثوب الاستشراق ليصبح آخر القلاع الحصينة لمقاومة التغريب. وهذا يعني بصفة غير مباشرة بأن مدن الاسلام قد تكيفت مع الصورة التي رسمها لها الغرب، وهذا يظهر بجلاء تام في حالات أخرى.

وفي مدينة Sault-Ste-Marie، التي تقع على الحدود الكندية الأمريكية، تقوم بالقرب منها العديد من مراكز تجميع قبائل الـ "أوجيبوا ـ Ojibwa". حيث تقوم جامعتها الصغيرة وبصفة دورية منتظمة بعقر ندوات حول قيم التقاليد وأشكال الحياة التقليدية للأمريكان الأصليين. عادة ما تنتهي برقصات Pow-Wow، التي كانت سائدة عند الهنود الحمر. المشاركون يرتدون الأزياء التقليدية التي كان يرتديها آباؤهم. وبغض النظر عما إذا المشاركون أخلافاً لسلالة الأوجيبوا أو الإيروكيزون أو الناواخو أو الأباتشي، تظل الأزياء التي يرتدونها والإيقاعات التي يرقصون عليها مقتبسة عن تراث قبائل السيوكس والشايان وقبائل أخرى من الهنود الحمر.وبتعميم من هوليوود أصبح المحاربون الذين شاركوا في معركة Little Big Horn بتاريخ 25 حزيران/ يونيو عام 1876 والذين ألحقوا بالقوات الأمريكية بقيادة الجنرال كاستار هزيمة منكرة، مُثلاً عُليا للنموذج الأمريكي الأصلي. وكما لم توجد قواسم مشتركة تاريخياً بين قبائل الفيكينغ بالشمال الشرقي الأوروبي والمزارعين ومربي الماشية بمنطقة حوض البحى الأبيض المتوسط، فإن هذه الحال تنطبق أيضاً على القواسم المشتركة بين قبائل السيوكس التي كانت تعيش في الغرب الأوسط على صيد البقر الوحشي، وبين زراع الذرة من قبائل الإيروكيزون في الشرق أو قبائل النافايو التي كانت تعيش على تربية الأغنام ورعيها بالجنوب الغربي. للعوامل الثقافية المختلفة الكبيرة مدلولها البين في الداخل، لكن الظاهر يجيز للكثيرين التجمل برموز تحتمها صور طرحت أبطالاً. وكما يتبنى الهنود الحمر كليشيهات هوليوود التقليدية عن الوحش النبيل كصورة للذات، يقدم سكان أستراليا الأصليون فكرة رومانسية عنهم، بأن أنماط الحياة ةالتفكير لديهم تختلف عن مثيلاتها في الغرب. فالعلاقة الروحية بالأرض والتعامل الحذر مع الطبيعة يؤخذان كحجج حين يطلبون تعويضات من أصحاب المناجم أو مربي الأغنام. ولم تُفضِ العولمة إلى انتشار التصورات والقيم الغربية فحسب، بل إن أهم بُعد في تأثيرها هو الانتشار العالمي للسلع الغربية. ففي هذا المجال بالذات سبق الاستعمار العولمة. ثلاثة أنواع من السلع ساعدت الاستعمار الأوروبي التوسعي على اكتساح الأسواق المحلية: العتاد العسكري، المنسوجات، والكماليات. هذه الأنواع الثلاثة من السلع، والتي صنفها الفيلسوف الاجتماعي فولفغانغ هاوغ Wolfgang Haug من برلين، ووضعها تحت صنف "الإغراءات القوية"، التي تربط بين الجاذبية والإفادة المثلى مع بعضها البعض. ومن المحتمل أن تكون مثل هذه السلع قد عملت على تفكيك تواتر الأعراف والعلاقات الاجتماعية بشكل أكبر تأثيراً من كل تدخل عنيف في البنى السياسية والاجتماعية السائدة في تلك المجتمعات.

بعض تلك المجتمعات، التي تم تصنيفها خطأ بـ "البدائية"، لم تعمد إلى منع تلك السلع للحفاظ على تقاليدها وأعرافها بل أدخلتها في حياتها اليومية. فهناك أشياء كثيرة مثل الأقمشة الحريرية وأنياب الفيلة وبعض الأسلحة الأوروبية والقطع النقدية الفضية لشركات تجارية هولندية والكثير من الأشياء الغريبة الأخرى قد دخلت إلى العديد من الثقافات (الحضارات) بالشرق الاندونيسي وجمعت في معابدها المقدسة. ففي عمليات مشابهة تمت في خمسينات القرن العشرين، وجدت بعض الأواني الفخارية المرغوبة، والتي كانت تصنع بمنطقة "فاسترفالد" الألمانية، وعبر طرق ملتوية، طريقها إلى قبائل البوليا بالكونغو. ولايتم استعمال بعض منتوجات السلع الأوروبية لمثل هذه الأغراض في الأرياف فقط بل وفي بعض المدن الافريقية كذلك. مثل هذه المنتوجات تلقى انتشارها الواسع للوجاهة التي تعطي لمالكيها. فمن لايملك ثلاجة أو تلفزيون أو مطبخاً عصرياً في بيته، فيلجأ إلى استوديوهات التصوير التي لديها كواليس مناسبة. وكما أبرزا عالما الإثنولوجيا هايكة بيرند Heike Behrend و توبياس فندل Tobias Wendl في معارض أقاماها حول التصوير في استوديوهات في بعض البلاد الأفريقية، بأن مثل هذه الأشياء لا تُعَبِر عن رغباته لتحقيق أحلام وهمية فقط بل هي استخفاف بالذات وتهكم على تأثيرات العولمة. وهذا شبيه بتلك الأسرة الفخمة التي يتم تصميمها في أشكال سيارات المرسيدس (ليموزين) بمدينة "كانو" شمال نيجيريا، وحيث تتفاخر ورشات النجارة المتخصصة بتصميمها. هذه الأسرة المزودة بأضواء وبالنجمة الحقيقية للسيارة تلقى مشترين من الطبقة الراقية.

الاكتساب وتغيير المدلولات

أصبحت الشخصيات ذات الشعبية من أمريكا وشرق آسيا، والتي نشرتها صناعة السينما على أوسع نطاق، كجيمس بوند ورامبو وبروسلي، خاضعة للاكتساب وتأويل المدلول الثقافيين. وإذا أخذت هذه الشخصيات مكان أبطال العصر القديم في الحكايات المرئية في العصر الحديث، فقد أُدخِلَت أرواح وأنصاف آلهة في عالم التصورات الدينية في أفريقيا وأوقيانيا وأمريكا الجنوبية. فمثلاً خدم جيمس بوند في جيش المئة والأربعين ألف روح، الذي ساعد جنود الروح المقدس التابعين للنبية المحلية أليس لاكوينا Alice Lakwena في أوغندا، في بعض الانتصارات على القوات الحكومية. أما في البرازيل فقد أدخل أتباع "عبادة الجنون التوفيقية synkretistische Besessenheitskulte" من أمثال جماعات كوندومبلي وأومباندا، بعض الشخصيات الحديثة من عالم السينما إلى جانب آلهة أوريشا لقبائل اليوروبا في أفريقيا الغربية، وكذلك بعض القريسيين من الكنيسة الكاثوليكية، ألى مجموعة آلهتهم.

ويُعد دمج بعض الأبطال الوهميين، من صناعة الترفيه الأمريكية، في طقوس بعض الديانات المحلية ونظمها، من أوضح الأمثلة على تكيف المسار الثقافي الذي تخضع له عناصر من الثقافة الغربية الحديثة في ظل العولمة. هذه العناصر تتحول إلى مواضع لعملية تغيير المدلولات المبدعة بدلاً من أن تساهم في قولبة ثقافات العالم. فتحويل سيارة فخمة إلى نعش أو سرير، يعني غض النظر عن الإيهام بقيمتها العملية على حساب إبراز القيمة الرمزية لها. ووضع كل من رامبو وجيمس بوند في زمرة الأرواح والقديسيين والآلهة، ومناداتهم للمساعدة في كفاح الشر الحقيقي، يكشفان الأبعاد الدينية التي تقوم عليها أساساً فكرة خلق هذه الشخصيات الاسطورية الفنية. وتأخذ الأفكار والسلع والإيقونات الأوروبية أبعاداً جديدة في المدلول، بعد أن يتم تغريبها بكل ما في الكلمة من معنى وإفراغها من محتواها، وإعلانها مُلكاً لمن تبناها، فتدخل بذلك العناصر العالمية والمحلية في مركبات فيولر خليط من هياكل ثقافية أبعد ما تكون عن القولبة والروتينية، إنه تجسيد للتوترات المثمرة بين الثقافات.

ترجمة: محمد أمين المهتدي (عن فكر وفن 76)

المصدر: Kunst & Unterricht, Juni 2002