كاتب ألماني يقدّم مزة لبنانية

زار ميشائيل كليبرغ في إطار فعاليات الديوان الغربي الشرقي بيروت حيث التقى بصديقه اللبناني عباس بيضون. نتيجة الزيارة هو الكتاب: "الحيوان الذي يبكي - يوميات رحلة لبنانية". شتيفان فايدنر يقدمه لنا

غلاف الكتاب

​​زار الكاتب الألماني كليبرغ في إطار فعاليات الديوان الغربي الشرقي بيروت حيث التقى بصديقه اللبناني عباس بيضون. نتيجة الزيارة هو الكتاب: "الحيوان الذي يبكي - يوميات رحلة لبنانية". شتيفان فايدنر يقدمه لنا

ماذا ستكون الحصيلة إذا ما قرن المرء بين كاتب ألماني وآخر من المشرق؟ ديوان غربي-شرقي بطبيعة الحال! إلاّ أن ديوان غوتة المستوحى من الشاعر الفارسي حافظ قد غدا له الآن 200عاما من العمر، وبودّنا لو نعرف ما الذي ستفرزه اليوم تجربة استنبات غربية مشرقية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

ميشائيل كليبرغ من مواليد سنة 1959 والذي يعدّ من الكتّاب الأكثر شهرة من بين أبناء جيله قد أنجز هذا النوع من الاقتران مع الشاعر اللبناني عباس بيضون من مواليد سنة 1938، وكانت النتيجة ظهور "الحيوان الذي يبكي - يوميات رحلة لبنانية". هذا الكتاب هو ثمرة اللقاء الأول من مشروع اللقاءات الأدبية في إطار فعاليات الديوان الغربي الشرقي الذي سبق لقنطرة أن تطرقت إليه من قبل.

بداية الرحلة بالنسبة لكليبرغ كانت لقاء مع أحكامه المسبقة. الخوف العادي من الطيران قد تضاعف هنا مع ذلك الخوف الآخر الذي يوحي به وجود مسافرين آخرين من ذوي "وجوه الإرهابيين"؛ وتتحول امرأة حامل إلى منفّذة عملية انتحارية تخبئ في حزامها عبوة متفجرات. إلاّ أنّ التخيلات الناجمة عن الخوف ليست سوى تعبير عن رهبة ما قبل البداية، وإذا اليوم الأول في طقس الشتاء المعتدل ببيروت يوقظ ذكرى إقامة سابقة في روما قبل عشرين سنة.

لو أنّ ذلك التواصل الذي حصل في روما يعيد نفسه هنا ببيروت، أو يوهم بذلك على الأقلّ فسيكون بإمكان هذه الإقامة أن تغدو سعيدة – هكذا راح الكاتب الملقى به فجأة في بلد غريب يحدّث نفسه.

لكنّ النظارة التي كان الكاتب الشاب ينظر من خلالها في مامضى إلى روما قد غدت الآن مكدّرة بترسّبات العمرلدى كليبرغ المتزوج وأب العائلة. ذلك ما يلاحظه المرء من خلال العناصر الغريبة التي تنسرب بصفة مطردة داخل معايناته واستيعابه لبيروت والتي تحتل من حيث الكم ما يقارب عن نصف الكتاب. ذكريات، أحلام، وتداعيات سينمائية مفصلة مستساغة للقراءة لكن ليس هناك ما يبرّر أهميتها تقريبا في هذه النصّ، أو بعض مشاهد مع الإبنة الصغيرة (3 سنوات) من تلك التي يمكن أن تحدث في أيّ مكان آخر حيث يرى المرء مشاهد خراب من مخلفات الحرب أو قططا سائبة – أي ما يمكن أن يرى في نصف الكرة الأرضية تقريبا.

أكثر أهمية من هذا كله تظلّ تلك المقاطع الوصفية التي تتفاعل بصفة مباشرة مع الوقائع المعاشة في بيروت وبخاصة مع الأشخاص الذين يلتقي بهم الكاتب. هناك أولا "قرينه" عباس بيضون الذي يوصف هنا بصفة دقيقة ومفعمة بالودّ في الآن نفسه. وهو، وكما التقط ذلك كليبرغ بصفة دقيقة، حالة متميّزة لا بالنسبة للعين الأوروبية فقط، بل كذلك داخل محيطه الثقافي الخاص؛ واحد من الصحافيين ذوي الرؤية النقدية ومن أجود شعراء جيله؛ نلتقي به هنا لدى كليبرغ كإنسان في المقام الأول.

هناك أيضا الروائي رشيد الضيف أحد أصدقاء عباس بيضون ممن نلتقي بهم في هذا العرض، وهو وإن لم يكن على نفس المستوى من اللطافة كبيضون، فإنه يتراءى بالمقابل ذا بعد سرّي مشوق، وكليبرغ يشمله، هو أيضا، بودّه وتعاطفه.

أما الوجه الثالث، وربما الأكثر إثارة والذي يمكن أن تكون المقاطع المخصصة لتصوير شخصيته أكثر ما وسم هذا الكتاب بطابع الجودة، فهو يوسف عساف؛ مسيحي لبناني قد أخذ على عاتقه خلال سنوات الحرب تنشيط معهد غوته بمبادرته الخاصة ودون ضمانات أو حماية. في سيرة عصاف وزوجته الألمانية يتحسس كليبرغ مادّة لعمل روائي. ومن خلال هذا الزوج يتراءى التاريخ الألماني والتاريخ اللبناني متداخلين بطريقة سحرية داخل نسيج موحّد.

عساف هذا يبدو على طرفي نقيض مع عناصر المجتمع الراقي ببيروت، أولئك المتمرسون بكلّ دقائق ثقافة ما بعد الحداثة من مواطني جمهورية الآداب(République des lettres ) متعددة الجنسيات الذين كانت لكليبرغ علاقة بهم والذين يغيّرون استعمال اللغات بنفس السهولة التي يغير بها آخرون ملابسهم. لدى هؤلاء العرب يبدوالأفق الفكري للغرب هو الأفق ذاته تقريبا الذي يتحركون داخله.

بإمكان المرء طبعا أن يلوم كليبرغ الآن عن كونه لم يبذل جهدا كافيا لاكتشاف المؤثرات المحليّة والجذور الثقافيّة الخاصة التي تكمن خلف الواجهة الكوسموبوليتيّة لهذه الشريحة من المثقفين العالميّين. لكن هناك نوع من الحكمة خلف عدم محاولة هذا الأمر، إذ سيكون ذلك شبه مستحيل خلال مدة إقامة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة أسابيع. وهكذا فإنّ هذا الكتاب يبدو إلى حد ما شبيها بأطباق المفتّحات اللبنانية (المزة): إنها لا تمثل وجبة أساسية في الحقيقة، لكنها تهدئ الجوع.

بقلم شتيفان فايدنر، صحفي ومترجم ألماني ورئيس تحرير مجلو فكر وفن
ترجمة علي مصباح