''وصول الإسلاميين للحكم لا يعني بالضرورة مؤشراً سلبياً لحقوق الإنسان''

في عديد من دول الربيع العربي يدور الجدل في الوقت الحالي حول إعادة كتابة الدستور وتنظيم العلاقة بين الدين والدولة ودور الشريعة في المجتمع. حول هذه الموضوعات تحدثت أنيت هيلفيج مع الحقوقية التونسية إيمان غلاله آرندت من معهد ماكس بلانك للقانون الدولي الخاص في هامبورغ.



لقد خرج حزب "النهضة" الإسلامي المعتدل منتصراً نصراً بيّناً في انتخابات الجمعية التشريعية في تونس. كيف تقيمين سياستهم حتى الآن؟

إيمان غلاله آرندت: لقد أحدثت تصريحات "النهضة" إرباكاً كبيراً في البداية لأنها كانت تتضمن في جزء منها تهديدات، كما أن تصريحات قادة الحزب كانت تتعارض مع أعلنه أعضاء آخرين من الحزب. ولهذا شعر المواطنون بالقلق العميق، وهو الشعور الذي راود بقية الفاعلين السياسيين أيضاً. فعلى سبيل المثال هاجم صادوق شورو، وهو أحد المتشددين في حركة النهضة داخل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، أشخاصاً تظاهروا ضد الحكومة، مستشهداً بآية من السورة الخامسة من القرآن حتى يؤكد صحة انتقاده. ووصف المتظاهرين بأنهم كافرون مصيرهم جهنم.

وبالطبع فإن استخدام الحجج الدينية ووصم الخصم السياسي بالكفر يصيب الناس بالقلق. كما أن البلبلة تنتشر بين الناس عندما يتحدث رئيس الوزراء حمادي الجبالي عن "الخلافة السادسة"، لأنه من غير الواضح ما هي الأهداف الاجتماعية التي يريد الوصول إليها.

لقد طالب حزب النهضة في البداية بوجوب أن تكون الشريعة مصدراً للتشريع، غير أنه تراجع لاحقاً عن موقفه. لكن مثل هذه التصريحات تحديداً هي التي تصيب الناس بالبلبلة والقلق، وهي التي تؤدي إلى صعوبة تقييم الحزب الذي يتبني ولا شك مبادئ معينة، ولكن على الحزب أن يتعلم أن يكون براجماتياً لأنه أصبح يتولى الآن مسؤولية الحكم. ما زال حزب النهضة يفتقد في الوقت الحالي خطاً واضحاً.

في النقاشات الغربية يُنظر إلى الشريعة في الغالب باعتبارها لا تتوافق مع مبادئ دولة القانون. كيف تنظرين إلى التوافق بين الشريعة وحقوق الإنسان في دول الربيع العربي؟

د. إيمان غلاله آرندت
إيمان غلاله آرندت: "يستطيع الإسلاميون أن يكونوا ديمقراطيين. غير أنني أرى أن الخطر هو أن يقلصوا من حقوق الإنسان، لا سيما حقوق المرآة، عندما يصلون إلى الحكم".

​​غلاله آرندت: علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشريعة قد تطورت خلال التاريخ على يد الفقهاء الذين كانوا يراعون الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية والاقتصادية السائدة آنذاك. هناك فارق بين ما يُنظر إليه في الشريعة الإسلامية على أنه مبدأ وحقيقة مطلقة، وتلك الأجزاء من الشريعة التي هي في طور التطور. في تونس تم إلغاء تعدد الزوجات في عام 1956، ولكن لم يزعم أحد آنذاك أن ذلك يمثل قطيعة مع الشريعة الإسلامية. على العكس تماماً، لقد استند المشرعون على مبادئ الشريعة وأعلنوا أن القانون يصب في مصلحة التقدم.

لقد تم الاعتراف آنذاك بأن وضع المرأة الاجتماعي قد تغير وأن من مصلحة المرأة، وكذلك من مصلحة الأسرة بأكملها، أن يتناسب – وفقاً لذلك - وضع المرأة القانوني مع هذا التغيير. عندما يصل الإسلاميون إلى الحكم فهذا لا يعني بالضرورة مؤشراً سلبياً بالنسبة لحقوق المرأة وحقوق الإنسان – الأمر يتوقف على الإرادة السياسية للحاكم. فمن الممكن أن تستند على الشريعة الإسلامية، وأن تكون تقدمياً للغاية وذلك بتأويل المصادر القانونية الإسلامية تأويلاً ديناميكياً والسماح بإجراء إصلاحات في إطار الشريعة.

ولكن الأمر يتوقف بالطبع أيضاً على مَن يقوم بعملية التأويل، أليس كذلك؟

غلاله آرندت: أوافقك تماماً. وهذا تحديداً هو مربط الفرس، وهو بالتأكيد السبب الذي يولد الخوف لدى الناس. ليس هناك نص صريح يؤمِّن وضع الأقليات والنساء والضعفاء في المجتمع. وضع هؤلاء يتوقف بدرجة أو بأخرى على النية الطيبة للفقهاء وعلماء الدين. فإذا كان الفقهاء ينظرون بمودة إلى تلك المجموعات فسوف يكون وضعها جيداً، أما إذا لم يكن هذا هو الحال، فإن الأشخاص الذين يتعرضون إلى الظلم لا تكون في أيديهم وسيلة قانونية للحصول على حقهم. إن المواطن يفتقد هنا الموضوعية والتوازن والأمن. ولكن يجب أن يثق المواطن في أن حقوقه مضمونة ومُصانة.

هل بإمكانك أن تذكري لنا مثالاً عملياً على ذلك؟

الصورة دويتشه فيله
"دستور لكل المصريين!" – يدور الصراع الحاد في الوقت الحالي في بلاد النيل حول صياغة دستور جديد، وخاصة بعد أن راح الإخوان المسلمون يطالبون بدور أكبر للدين وبعد أن أصدر المجلس العسكري الأعلي إعلاناً دستورياً مكملاً، معطياً فيه لنفسه حق الاعتراض على بنود الدستور الجديد

​​غلاله آرندت: لدينا مثال الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا في القاهرة. المحكمة تفرق في حكمها بين المبادئ الأزلية الثابتة التي لا يمكن تغييرها، وبين تلك المبادئ التي يمكن تغييرها بمرونة حتى تتفق مع الزمان والمكان. وهكذا لا يمكن التعرض في هذه الحالة إلى شؤون التوريث حيث أن هناك مصادر قرآنية تنص على أن المرأة ترث نصف ما يرثه الرجل. أي أن هذا المبدأ يُنظر إليه باعتباره مبدأ ثابتاً لا يتغير.

وهكذا يمكن رفض أي قانون يستهدف المساواة بين الرجل والمرأة في قانون الإرث باعتباره مخالفاً للدستور، لأنه سيكون مخالفاً لأحكام الشريعة. أما فيما يتعلق بمسألة الزي الإسلامي فإن المحكمة الدستورية أصدرت حكماً يقول إن تلك الأحكام خاضعة للزمان والمكان. ولهذا اعتبرت المحكمة، على سبيل المثال، قرار وزير التعليم بمنع التلميذات من ارتداء النقاب قراراً متماشياً مع الدستور.

اشتعل الجدل بعد الثورة في تونس حول الطابع الغربي للدستور الجديد. إلى أين يسير هذا الجدل؟

غلاله آرندت: لقد انتهي الجدل حول الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع بموافقة حزب النهضة على ألا يتم النص على ذلك في الدستور. معنى هذا أن المادة رقم 1 في الدستور ستحتفظ بشكلها الحالي الذي ينص فحسب على أن الإسلام دين الدولة. أي أن الشريعة لن يتم ذكرها في الدستور التونسي.

على العكس من تونس فإن ليبيا ليس لديها إطار مرجعي لكتابة الدستور، كما أن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني يكاد لا يكون لها وجود. هل من الممكن أن تصبح تونس نموذجاً في هذا المجال؟

غلاله آرندت: بالتأكيد من الممكن أن تصبح تونس نموذجاً. مثلاً في إعداد القوائم الانتخابية، إذ تم النص على التبادل الصارم بين الجنسين في أسماء المرشحين، أي رجل ثم امرأة، رجل ثم امرأة. هذا شيء أخذه الليبيون عن التوانسة. مثال آخر: في تونس ترشحت في الانتخابات صديقة لي، وهي أستاذة قانون، وبذلك جمعت خبرات كامرأة في المعركة الانتخابية، وهي تعمل الآن كمستشارة في "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" UNDP. إنها تقوم الآن بتنظيم ورش عمل وحملات لتوعية النساء اللاتي يريدن الترشح للانتخابات في ليبيا، وتعطيهن نصائح معينة لتقوية موقفهن كنساء وحتى تستطيع المرشحات الوصول إلى الناس.

إذن فإن تونس، كبلد مجاور، هي بالتأكيد نموذج. ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع الليبي، فهو مجتمع يعاني من نقص كبير في المؤسسات بعد فترة الحكم الفظيع للقذافي، بل ويعاني عموماً من نقص في ثقافة الجدل السياسي. ولكن ليبيا بها أيضاً شباب ونخبة متعلمة تعليماً راقياً تريد التغيير. ولذلك أنا أنظر إلى المستقبل بتفاؤل.

يُنظر إلى حزب العدالة والتنمية التركي في كثير من الأحيان باعتباره نموذجاً للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام. هل هو بالفعل كذلك؟

الصورة دويتشه فيله
التعلم من الجيران التونسيين: بعد عقود من ديكتاتورية القذافي تُعقد في ليبيا في السابع من يوليو / تموز 2012 أول انتخابات حرة. بعدها سيقوم نواب البرلمان بصياغة دستور للبلاد وإعلان حكومة انتقالية.

​​غلاله آرندت: نعم، بكل تأكيد. صحيح أن تركيا لها تاريخ طويل مع العلمانية ليس موجود لدينا. إن زوجة الرئيس عبد الله غول مسلمة ترتدي الحجاب، لكن هذا ليس له أي أثر على السياسة أو على حقوق الإنسان أو الأقليات الدينية الأخرى. تمثل تركيا حتماً نموذجاً جيداً يستحق أن نسعى إليه وأن نستلهمه.

في مصر يدعو محمد البرادعي، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، إلى الاقتداء بالقانون الأساسي الألماني كنموذج للدستور الجديد، لا سيما فيما يتعلق بترسيخ الحقوق الأساسية مثل حق التعبير عن الرأي وحق ممارسة العقيدة. هل من الممكن أن يُطبق النموذج الألماني في دول أخرى؟

غلاله آرندت: أعتقد أن هذه الحقوق الأساسية مكفولة وراسخة في الدستور، ولكن علينا بالطبع أن نأخذ الإخوان المسلمين والسلفيين في الحسبان، وهم يتمتعون في مصر بنفوذ أقوى بكثير مما هو الحال في تونس مثلاً. وسوف يجد هؤلاء دائماً طرقاً أو ثغرات قانونية؛ فعلى سبيل المثال تنص مسودات عديدة للدستور على ضمان المساواة بين الرجل والمرأة، غير أنها تؤكد بصريح العبارة على أن هذه المساواة يجب أن تكون في إطار القيم الإسلامية.

لا أعتقد أن الحقوق الأساسية – التي ينص عليها الدستور الألماني – من الممكن أن تترسخ في الوضع الحالي وبهذا الشكل في الدستور المصري. وسواء أردنا أم لم نرد فإن الدستور سيتضمن الكثير من أنصاف الحلول. وعلى القوى العلمانية أيضاً أن تقبل بأن يجد النفوذ الإسلامي صدى له في الدستور. الإخوان المسلمون يشكلون الأغلبية في مجلس الشعب المصري، كما أن المجتمع متدين للغاية.

وما هي المخاطر القائمة بالنسبة لعملية الدمقرطة في بلاد الربيع العربي؟

غلاله آرندت: يستطيع الإسلاميون أن يكونوا ديمقراطيين. غير أنني أرى أن الخطر هو أن يقلّصوا من حقوق الإنسان، لا سيما حقوق المرآة، عندما يصلون إلى الحكم. رغم ذلك فإنني لا أعتقد أن تلك ستكون المشكلة الملحة في الوقت الحالي. الوضع الحالي في تونس، وفي مصر أيضاً، معقد للغاية، ما يتطلب حلولاً يتم التوصل إليها بالإجماع. على الفاعلين السياسيين أن يواجهوا المشكلات الاقتصادية أولاً، وهو ما سيجبرهم على تقديم تنازلات.

إنني أرى أن وضع الأقليات الدينية والمرأة، حتى وإنْ لم يتغير إلى الأفضل، فإنه على الأقل لن يسوء. فالإجماع مطلوب في هذا المجال أيضاً. ولكن، هل الإسلاميون العرب سيتصرفون في النهاية تصرفاً ديمقراطياً، أيضاً داخل أحزابهم؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام.

 

ولدت الحقوقية الدكتورة إيمان غلاله آرندت في القيروان بتونس عام 1975. درست في تونس وهايدلبرغ، وتتمحور أبحاثها العلمية حول القانون الخاص الدولي والوطني وكذلك قوانين الأسرة والإرث لدى الطوائف اليهودية والمسيحية في الدول الإسلامية. وهي تعمل في الوقت الحالي مع المجموعة البحثية التابعة لمعهد ماكس بلانك في هامبورغ والتي تدرس موضوع "شريعة الله في طور التغيير – مقارنة قانونية بين قانون الأسرة والتوريث في الدول الإسلامية".

 

أجرت الحوار: أنيت هلفيج
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012