ربما أصبنا الجنون!

هل العالم على حافة الجنون؟ إلام سيقود التعصب الديني؟ وما هي المصادر التي تنتج هذا التعصب والتشدد الديني؟ هذا ما يناقشه كتاب أوللا بيركفيتس "ربما أُصبنا بالجنون ـ الاسترشاد وسط تطرف مقارن"، فرج أبو العشة قرأ الكتاب ويقدمه لنا

الصورة: أ ب

​​
أطروحة صمويل هانتنغتون عن"صدام الحضارات" تبقى نظرية مفبركة من اختلاق تفكير استراتيجي رغبي، وليست تشخيصا منهجيا لواقع حقيقي. فالواقع إن العالم يعيش حضارة واحدة مفتوحة ولكن بثقافات متعددة. والثقافة ليست هي الحضارة، كما إن الدين ليس هو كل الثقافة. ففي كل ثقافة يتفاعل الغيبي والعقلاني،الخرافي والعلمي.

لكن يمكن الحديث عن صدام أصوليات وليس أديان. فمصطلح الأصولية(إبستيمولوجيا) يحتضن التأويلات الدينية الغيبية، وكذلك العلمانية والعلمية والقومية والفلسفية، وغير ذلك؛ أي كل فكر يطرح نفسه بحسبانه إيديولوجية شمولية تمتلك وحدها الحقيقة، سواء كانت هذه الحقيقة المفترضة من قماشة دينية غيبية أو وضعية أو عرقية...الخ

وفي الحديث عن الأصوليات الدينية،حصرا، يبدو أن العالم يفقد تماسكه العقلاني، أو"ربما أصبنا بالجنون" حسب عنوان كتاب المؤلفة الألمانية أوللا بيركيفيتس،الذي صدرت ترجمته العربية آخر العام الماضي عن "منشورات الجمل".

قراءة تحليلية للأصولية

أوللا بيركيفيتس تستعير عنوان كتابها، كما تقول، من تعبير لجارون لانير مستحدث مصطلح "الواقع الافتراضي".وهي تنفذ في ضيق العبارة/العنوان: "ربما أُصبنا بالجنون" إلى اتساع الرؤية. رؤية القراءة التحليلية التي تنشد المقاربة الموضوعية للوقائع محمولة على لغة شعرية تلابس التاريخ والفلسفة والسياسية.

وتتكئ على السرد الروائي، فيما تلاحق الأسئلة في بحثها عن مكامن العطب في المصادر المنتجة للأصوليات: في جوهر الخطيئة التي تحولت إلى ذنب فضاع كل شيء حسب هابرماس. وفي تغرّب الأخلاق والقيم والعدالة والإنسانية في الغرب، الذي قتل الله ودفنه، وقد أفلح المجتمع في قتل نفسه ودفنها،على حد تعبير المؤلفة.

وهنا أبحث حيث "لم تعد ثمة معرفة ولا حكمة،معلومات فقط. لم تعد توجد جماعة، وإنما تنظيم فقط. وحين يتحول هذا العالم الواسع إلى اقتصاد تقني، فإنه يلتهم ويبيع، يهضم ويفرز.." إذ "أصبحت العلوم الطبيعية جزءا من علوم اقتصاد السوق،فاسدة مثل السوق نفسه".

فيض عقلاني وفيض روحاني

ومقابل الغرب تبدو "الحقيقة المضفي عليها الموضوعية هي بوجه عام الحقيقة التي تشكل الأساس لكل معيار؟"، أما في الشرق فـ"يعتبر المعيار خادعا.."بمعنى إذا كان الإنسان هو معيار الأشياء كلها في الحضارة اليونانية، فإن الموضوعية العلمية هي معيار الحضارة الغربية، بينما يعتبر الشرق"ما لا يقاس هو الحقيقة الحق".

هنا، في الغرب ،فائض هائل من العقل.وهناك،في الشرق، فائض هائل من الروح.والروح التي أنجبت، من جد واحد(إبراهيم) ثلاثة أنبياء لثلاث ديانات كبرى، اخترقت الغرب. وذلك لا يعني أن الغرب عقل بلا روح أو أن الشرق روح بلا عقل. صحيح روح الغرب لم تنجب نبيّا من صلبها لديانة كبرى تخصها من ألفها إلى ياءها،واكتفت بتبني السيد المسيح في طبعات مذهبية متعددة؟!

لكن ذلك لم يمنع عقلها من أن ينجب نبيّا مجردا (غير مشخصن) لديانة كبرى كعبتها السوق، ورسالتها الحداثة، بالمعني الابستيمولوجي الواسع لمفهوم الحداثة، التي كانت الثورة الفرنسية فتحها المبين، حيث بُني في أيامها الأولى معبدا لعبادة العقل!!

الجهاد والحيرم: حروب مقدسة!

تبحث المؤلفة في"الطبخة المخلوطة بأكملها "باسم الجد إبراهيم وأبنائه.فمفهوم الجهاد (الحرب الإسلامية المقدسة) يقابله مفهوم حيرم(الحرب اليهودية المقدسة) لكن الحيرم اليهودي، أي الحرب المقدسة: "التي جعل الإله إسرائيل تخوضها للمرة الأولى ضد الكنعانيين لتمتلك الأرض المقدسة،غير معروفة لدى الغرب إلى حد كبير".

وكما خاض اليهود باسم الحيرم نضالهم ضد اضطهاد الروم وتوّجوه بأسطورة المسادا المقدسة،بهدف جعل: "اضطهاد الروم لا يطاق فتصبح الانتفاضة أمرا لا يمكن تجنبه"، كذلك ـ كما ترى الكاتبة ـ"يخوض المحاربون المسلمون اليوم جهادهم بنفس الهدف." وسواء سمينا أفعال العنف هذه جهادا أو حيرما أو إرهابا،تظل فعلا إنسانيا،عرفه تاريخ البشرية بمختلف أعراقها ودياناتها وثقافاتها.

فقد"كان إضفاء المثالية على قتل الطغاة جزءا من الأخلاق السياسية لليونانيين والرومان.." وهكذاـ حسب الكتاب ـ فإن،التطرف والعنف والقتل والإرهاب والكراهية العنصرية، هي ممارسات بشرية، سواء عند اليهود والمسلمين، أوعند المسيحيين، كما في:"الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش،ودكتاتوريات الاستعمار والعولمة التي مارست العنف والحروب الامبريالية هنا وهناك وهنالك.." وكذلك مارستها أيديولوجيات سياسية علمانية:الفاشية والنازية والشيوعية.....!

القاسم المشترك الأعظم بين النزعات العنصرية

تتساءل الكاتبة: "ما هو المشترك بين العنصرية الغربية والإسلامية واليهودية الراديكالية؟!" وتجيب: هو"التطرف والتستر على التاريخ: كانت الهتلرية تطرفا، ومن العفريت نفسه، والشبح والنبض نشأت الثورة الإسلامية،الخمينية، ذاك الحريق الكبير الذي انتقلت عدواه إلى العالم الغربي.."

ويظل الرحم الولود للتطرف هو دائما فترات الأزمات وانعدام الاهتداء والاقتلاع من الجذور، حيث يصبح عندها تأويل الدين وبعث الإيديولوجيات الشمولية (الفاشية/النازية/الشيوعية.) أفضل مصدر لاستخراج رخصة "مقدسة" للقتل والكراهية العنصرية، سواء كان ذلك على أيدي الخوارج والحشاشين، ووصولا إلى ابن لادن في زمن العولمة.أو كان ذلك على أيدي إرغون وشتيرن وعمير قاتل رابين، وصولا إلى شارون في زمن إسرائيل الصهيونية.

وكذلك أيضا قام ويقوم المسيحيون المتطرفون باسم السيد المسيح/نبي السلام، باستخراج رخصة"مقدسة" للقتل والكراهية العنصرية" أكان ذلك في زمن محاكم التفتيش وإبادة الهنود واسترقاق السود،أو في زمن إمبريالية الحداثة والحروب الكبرى والهولوكوست، وصولا إلى أصولية"اليمين الديني الجديد" الحاكم اليوم في البيت الأبيض، حيث "يقوم وعاظ التلفزيون، ضباط الكتاب المقدس، جنود يوم الأحد، بالدعاية بميزانية كبيرة لكسب المشايعين، يتوعدون، يبشرون، يحملون الآخرين على تغيير دينهم.."

أوللا بيركيفيتس، وهي يهودية الأصل، تعبر،في كتابها، عن احترامها للأديان الإبراهيمية الثلاثة على السواء، وقد اجتهدت في أن تكون أحكامها غير منحازة. وهي عندما تسلط نقدها الجذري،على الممارسات المشينة للأديان الثلاثة، لا تستهدف اليهودية والمسيحية والإسلام في جوهرها الديني الروحي، وإنما تستهدف الممارسات المشينة لليهود والمسيحيين والمسلمين التي جرت وتجري باسم الدين وفقا لتفاسير تخضع لخيال ومخيلة ومصالح أولئك المفسرون.

عرض فرج أبو العشة، كاتب ليبي الأصل مقيم في ألمانيا

الكتاب: ربما أُصبنا بالجنون ـ الاسترشاد وسط تطرف مقارن.
المؤلف: أوللا بيركيفيتس
الناشر: منشورات الجمل،الطبعة الأولى،2003 كولونيا/ألمانيا

المؤلفة أولا بيركيفيتس كاتبة وممثلة وهي مديرة دار نشر زوركامب في فرانكفورت