نداءات ملحة للتطرق إلى الذات في الفضاءات المغربية

ثمانون سنة بعد ظهور "رسالة إلى شاعر شاب" للشاعر الألماني راينه ريلكه أصدر الكاتب المغربي عبد الله الطايع كتابا استلهم له عنوانا من كتاب ريلكه. أنطولوجيا جمعت بين طياتها أصوات ثمانية عشر كاتبا يتوجهون بعبارات ذات وقع مؤثر إلى شباب بلاده. الناقد الأدبي الألماني كريستوف لايستن يرى أن الكتاب يعكس التركيبة القائمة على التعدد والتنوع للمجتمع المغربي في بداية القرن الحادي والعشرين ويقدم لموقع قنطرة قراءته لهذه الرسائل.

الكاتبة ، الكاتب: Christoph Leisten

أن تُتخذ رسائل ريلكه منطلقا لكتاب يتوجه أساسا إلى جمهور مغربي قد يبدو للوهلة الأولى أمرا مفاجئا لكل من ليست له معرفة بالحجم المدهش للمعارف التي تنطوي عليها ثقافة هؤلاء المغاربة: وعلى العموم تمتلك الفئات المثقفة المغربية مستوى من المعرفة بثقافة وآداب بلدان أوروبا الوسطى أكبر مما عليه الأمر بالنسبة لحالة المعرفة في الاتجاه المعاكس. وعلى أية حال فإن اسم ريلكه -كأحد أهم الشعراء الألمان- أبعد عن أن يكون غريبا عن هؤلاء القراء الشبان.

تمثل رسائل ريلكه وثيقة عن فترة تأزم اجتماعي وثقافي، وهي تحُضّ في إطار هذه الفترة المتأزمة على الانخراط في عمل مثابر يتحلى بالأصالة والتفكير المتجه إلى الذات. وهذا بالضبط هو المنطلق الذي تقوم عليه أنطولوجيا عبد الله الطايع التي يُرتجى لها أن تحظى باهتمام شريحة واسعة من القراء المغاربة ومن القراء في بلدان أوروبا الوسطى أيضا.

حَضٌّ على الانخراط في العمل المسؤول

ما يستحق الذكر في المقام الأول هو هذه الشريحة الواسعة من الأصوات الأدبية التي تجسد للقارئ الغربي بصفة مدهشة مدى التنوع والاختلاف الذي يتسم به تفكير المثقفين المغاربة اليوم، خاصة في ظل التغيرات المطردة التي يشهدها العالم العربي اليوم. وبالرغم من الاختلاف الذي يتسم به محتوى النصوص المجمعة فإنها تظل مرتبطة وموحدة جميعها بنبرة التشجيع على الانخراط في الفعل المسؤول المشبع بروح الصدق والمثابرة.

غلاف النسخة الألمانية لكتاب "رسائل إلى شاب مغربي" Passagen Verlag, Wien 2013
صدرت "رسائل إلى شاب مغربي" باللغات الفرنسية والعربية والألمانية وجمعت بين طياتها أصوات 18 كاتبا يتوجهون بعبارات ذات وقع مؤثر إلى شباب بلادهم.

ومع أنه لا يخفى أن هذه الأنطولوجيا قد تعرضت أيضا بصفة متكررة إلى بعض المواضيع المتعلقة بالمحرمات الاجتماعية كالمثلية الجنسية والفساد والخنوع والتقيد الأعمى بالتقاليد، غير أن الكاتبات والكتاب لم تكن تحركهم في ذلك رغبة في كسر المحرمات كغاية في ذاتها.

ومنذ البداية جاءت الرسالة الافتتاحية الحماسية للطاهر بن جلون خالية من الإسهاب في التفجع وفي الدعوات الأخلاقية، بل ركزت في الأساس على نداء ملح للتطرق إلى الذات، على قاعدة ثقافة ثرية ومتنوعة التركيبة مثل تلك التي تميز الفضاء المغربي، وعلى أساس من الوعي بذلك الموروث التقليدي، لكن بشجاعة وبخيال مبدع وأصالة في المقام الأول.

هناك رابط مشترك يوحد بين كل المساهمات وهو الدعوة إلى الاحتراس -فيما يتعلق بالتطلعات الاجتماعية والآفاق المستقبلية الخاصة- من الانزلاق في ضرب من الاحتضار وفي أسر الإحساس بالقهر. "حاولْ أن تفعل شيئا عوضا عن أن تظل تريد أن تفعل شيئا"، يقول هشام طاهر لقرائه، بينما تحض رشيدة المرابط على "أن تجد فكرتك الخاصة" التي تؤتي ثمارها في الحياة وتهيء للمستقبل، عوضا عن التقوقع في الخنوع.

إن نجاح هذه النداءات يعود أساسا إلى التنوع الذي أتت عليه صياغاتها. فإلى جانب الرسائل ذات الطابع الروائي المتخيَّل الواضح -مع ما تحمله من طابع ملاصق للواقع على نحو كبير للغاية- هناك أيضا رسائل موجهة إلى متلقّين واقعيين. وإلى جانب الرسائل التي جاءت في شكل رسائل أدبية، هناك نصوص سردية مثل مساهمة عبد الحق سرحان الذي يتحدث عن الحلم العديم الفائدة بالتحول إلى عضو داخل آلة سلطوية مجهولة الهوية.

رؤية متعددة الأبعاد

لقد استطاع الطايع أن يتفادى الوقوع، من حيث المحتوى، في جعل هذا الكتاب يأخذ اتجاها آيديولوجيا أحادي الجانب. فقد حضرت داخله أصوات من تلك التي تمثل اتجاها علمانيا صارما، والتي تضع ضمن ذلك عدة مسائل دينية موضع سؤال، وإلى جانب هذه الأصوات توجد تلك الأخرى التي تركز بصفة دائمة على إمكانيات الإثراء التي تمنحها تلك التقاليد لمجتمع القرن الحادي والعشرين. وهذا أمر جيد طبعا. إنه أمر جيد، لأنه يعكس التركيبة القائمة على التعدد والتنوع للمجتمع المغربي في بداية القرن الحادي والعشرين. وبجمعه بين هذه المواقف المختلفة دون تسرع في إرادة التلقين، يمنح هذا المجلد مادة لخطاب مجتمعي يبدو أقل تعجّلا في محاولة العثور على إجابات عن الأسئلة الملحة، خلافا لما يبدو عليه الأمر في مناطق أخرى عديدة من العالم العربي.

في واحدة من أثرى المساهمات يقدم رشيد بنزين الخبير في العلوم الإسلامية قراءة معاصرة للقرآن. وقد مثلت هذه المقدمة في التأويل القرآني -التي وردت متيسرة الفهم على نحو بالغ حتى بالنسبة لجمهور الشباب من القراء- محطة بارزة في هذه الأنطولوجيا وتعرض مادة وافية الثراء حتى بالنسبة للقراء الغربيين.

وإلى جانب هذه الرسائل التي -بغض النظر عن تيسرها للفهم- تتجه أساسا إلى جمهور قراء من المثقفين، يظل هذا الكتاب يأخذ بعين الاعتبار أيضا وبحساسية مرهفة تلك الفئات الاجتماعية غير المحظوظة أو تلك التي تقع على هامش المجتمع.

"أَصغِ إلى فوضى الحياة من حولك"

الكاتبة المغربية سناء العاجي. Foto: privat
من خلال لغة شعرية تحث الكاتبة المغربية سناء العاجي قراءها وتشجعهم: "أَصغِ إلى فوضى الحياة من حولك"، كي تجد بالنهاية طريقك.

إحدى المساهمات الرائعة في هذا المجلد هي تلك التي قدمتها سناء العاجي. فبنبرة عالية الحماسة تحث الكاتبة قارئاتها وقراءها على ألا يدعوا أنفسهم ينغمسون في بكاء الذات وإلقاء الذنب على الآخرين، بل أن يبحث كلٌّ عن "حقيقته الخاصة": "أنا لست على رأي أن كل شيء قاتم شديد السواد في هذه البلاد. أرى الأبيض في كل مكان، لكنني أدرك وجود بقعًا سوداء كثيرة أيضا.(...) ساهمْ بنشاط في التغيير الذي تحلم به لهذه البلاد، ولا تعوّلْ كليا على أصحاب القرار. فمهما كان صدق نواياهم، فلن يمكنك أن تكون واثقا أبدا من أن أحلامك سترى نفسها تتحقق بواسطتهم".

وبحرارة، ومن خلال لغة شعرية تحث سناء العاجي قراءها وتشجعهم: "أَصغِ إلى فوضى الحياة من حولك"، كي تجد بالنهاية طريقك. رسالة سناء العاجي هي المساهمة الوحيدة التي جاءت من الشريحة الواسعة جدا للكتابة الأدبية باللغة العربية في المغرب، وهذه نقيصة في هذا الكتاب أثارت العديد من الانتقادات منذ صدوره، تماما مثل أن تفوز مشاركة الكتاب المقيمين اليوم في المهجر بحصة الأسد فيه.

ولقد كان من الأفضل فعلا لو أنه تم التركيز بشكل مكثف أكثر على تشريك الأصوات المعبرة باللغة العربية من البلاد التي ينتمي إليها كتّاب من أمثال ياسين عدنان وماحي بنْ بين ومحمد بنيس وحسن النجمي. فقد كان من شأن ذلك لا أن يوسع من مجال الكتاب بمزيد من الأصوات الإضافية فحسب، بل وأن يضمن له أيضا تأثيرا أكثر متانة وديمومة.

يظل كتاب "رسائل إلى شاب مغربي" يمثل على أية حال مشروعا ابتكاريا من درجة بالغة الأهمية من شأنه أن يساهم في تطوير الخطاب الثقافي في المغرب، وأن يسمح للقارئ الغربي باكتساب انطباع متميز عن التنوع الفكري المغربي، كما يظل في حاجة أيضا إلى تتمة من خلال منح مجال للتعبير لتلك الأصوات الأدبية التي ظلت إلى الآن لا تحظى بما تستحقه من اعتبار.

 

كريستوف لايستن

ترجمة علي مصباح

حقوق النشر: قنطرة 2014