البابا بندكت السادس عشر... تيَهان عن درب البابوية في ذاكرة الأتراك الجماعية

سيبقى بابا الفاتيكان الألماني المستقيل طوعياً بنديكت السادس عشر في ذاكرة مسلمي تركيا الجماعية لاهوتياً تاه عن درب الارتقاء إلى مقام البابوية، فهو لم يصبح في نظرهم بابا بما تحمله الكلمة من معنى، ولم يبلغ مرتبة سلفه البولندي، خاصة بعد أن جرح بكلامه عام 2006 مشاعر العالم الإسلامي بتعييره الدين الإسلامي بأنه لم يسهم في تقدم الحضارة الإنسانية، وذلك رغم الانطباع بأنه قد تعلم درسًا من أخطائه باستعداده لإعادة تشكيل العلاقة الكاثوليكية-الإسلامية، كما يسلط الضوء على ذلك الصحفي التركي كريم بالجي.

الكاتبة ، الكاتب: Kerim Balci

يرى الأتراك القضايا العالمية في أغلب الأحيان من منظور السياسة المحلية الخاصة بهم. هكذا قورن التنحّي غير المتوقع للبابا بنديكت السادس عشر باستقالات راهنة لسياسيين في تركيا ممن اضطروا إلى التخلّي عن مناصبهم بسبب أشرطة فيديو فاضحة.

لذا فقد قيل بوجود شريط فيديو غير معروفٍ أيضًا دفع البابا إلى اتخاذ قراره (والأرجح أن الشريط غير موجود أصلاً). وذُكر أنه "تم إجباره على تولّي المنصب، ثم تم إجباره على التخلّي عن المنصب". هذه هي الآراء المطروحة في الشارع التركي عن تنحّي البابا الطوعي.

"الفاتيكان المتآمر"

الفاتيكان الخفيّ والتنازع على السلطة تحت قباب كاتدرائية القديس بطرس والبابا المسكين المنتخب الذي لا سلطة له ولا حاشية مقرَّبة منه – هذا أسلوب فهمٍ تركي لتآمر الفاتيكان السرِّي وهو أقدم من نظرة الأتراك إلى الفساد في دولتهم.

أثناء زيارة البابا لتركيا في أواخر عام 2006، والتي كان ينظر إليها باعتبارها خطوة للتصالح بعد خطابه المثير للجدل في ريغنسبورغ، عمَّت المكتبات التركية كتب متدنية المستوى تقلـِّد كتب دان براون، أحدها كان لمؤلف يُدعى يوجل كايا ويحمل عنوان: "من سيقتل البابا في اسطنبول؟"

احتجاجات في باكستان عام 2006 على خطاب البابا في جامعة ريغنسبورغ الألمانية في نفس الشهر والعام. أ ب
الكلمة التي ألقاها البابا بندكت السادس عشر في جامعة ريغنسبورغ الألمانية في أيلول / سبتمبر 2006 جرحت مشاعر العالم الإسلامي بتعييره الدين الإسلامي بأنه لم يسهم في تقدم الحضارة الإنسانية وأثارت غضب المسلمين.

​​ربما كان يوجل كايا لا يعرف مدى حساسية مسألة محاولة اغتيال البابا. إذ اعتبرت محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1981 التي ارتكبها القومي التركي المتطرّف محمد علي أغجا بمثابة تحقق ما يُعرف بسر فاطمة الثالث. وتعود النبوءة التي أبقاها الفاتيكان طويلًا طي الكتمان إلى ثلاثة أطفالٍ رعاةٍ من مدينة فاطمةٍ البرتغالية في أوائل القرن العشرين.

ووصلت النبوءة إلى الرأي العام في سنة 2000 عبر عدة قنوات كان منها الكاردينال الألماني جوزيف راتسينغر (وهو الاسم الأصلي للبابا بنديكت المستقيل مؤخراً بشكل طوعي)، الذي نصح البابا يوحنا بولس الثاني آنذاك بالاستفادة من نبوءة "السر الثالث" باعتبارها تصديقًا للإرادة الإلهية في اختيار البابا لخدمة الكنيسة حتى توافيه المنية بفعل الإرادة الإلهية.

وكانت غاية هذه المناورة إلغاء حجج الذين كانوا يطالبون بتنحّي البابا بسبب تقدمّه في العمر. أما فكرة ترسيخ الولاية البابوية بهذه الطريقة، فكانت إما فكرة ذكية طرحها راتسينغر خليفة البابا أو فكرة البابا نفسه.

"بندكت لم يخرج من عباءته السابقة "

على الأقل من وجهة نظر المواطن التركي العادي لم يملأ البابا بنديكت السادس عشر أبدًا المكان الذي تركه سلفه. فقد عاد إلى ارتداء نعال البابا الحمراء التقليدية، ولم يغيِّر شيئًا بحيث بقي البابا بالنسبة لتركيا ذا وجهٍ بولندي. هذه الصورة انحفرت عميقًا في ذاكرة الأتراك الجماعية.

كان البابا بنديكت السادس عشر بالنسبة لهم لا يزال على وشك أن يصبح بابا. إلا أنه سيبقى في ذاكرة الأتراك باعتباره شخصًا ضاع في خضم هذه الصيرورة، فلم يستطع أبدًا الخروج من عباءته السابقة، وهي عباءة الكاهن الألماني الدكتور جوزيف راتسينغر (وهو: هو نفسه قبل أن يصبح بابا).

ومثال على ذلك جمعية النفع العام التي تحمل اسم "مؤسسة جوزيف راتسينغر: البابا بنديكت السادس عشر" والتي أسسها مجموعة من طلابه، والموارد الرئيسة لهذه المؤسسة تأتي من بيع النصوص البابوية الخاصة ببنديكت السادس عشر، بيد أن هدف المؤسسة المعلن هو "ترويج علوم اللاهوت وفق رؤية جوزيف راتسينغر".

"رؤية جوزيف راتسينغر" اعترته خلال الكلمة التي ألقاها في جامعة ريغنسبورغ في أيلول / سبتمبر 2006، وقد جرح بها مشاعر العالم الإسلامي بتعييره الدين الإسلامي بأنه لم يسهم في تقدم الحضارة الإنسانية، وبدت كلماته وكأنها أتت بشكلٍ عارض.

​​

عواقب خطاب البابا في جامعة ريغنسبورغ 

وبهدف التغطية والتراجع عن استناده إلى القيصر البيزنطي مانويل الثاني باليولوج، سافر البابا بنديكت السادس عشر إلى اسطنبول متجنبًا هناك آيا صوفيا كمكانٍ محتملٍ للصلاة والتقى في المسجد الأزرق بمسلمين من المدينة حيث قاموا بصلاة صامتة، ولى فيها البابا وجهه صوب القِبْلة.

وكان لهذه اللفتة آثار بعيدة المدى تمامًا مثل انتقاداته السابقة، حيث رأى الأتراك في هذه الصلاة المشتركة أهميةً كبيرةً جدًا، ومع أنهم لم "يغفروا" له تمامًا خطاب ريغنسبورغ، إلا أنَّ الانطباع لدى الكثيرين كان بأنَّ البابا قد تعلم درسًا مؤلمًا من أخطائه وأنه بات مستعدًا لإعادة تشكيل علاقة التبادل بين العالمين الكاثوليكي والإسلامي.

ولم يكن هذا الانطباع خاطئًا تمامًا، فقد زار البابا بندكت (بنديكتوس) السادس عشر مديرية الشؤون الدينية، في حدثٍ غير مسبوقٍ في تاريخ تركيا. وقررت المديرية أنْ تشارك في المنتدى الكاثوليكي-الإسلامي، الذي انعقد اجتماعه الأول في الفاتيكان في عام 2008.

كما دفع البابا بنديكت السادس عشر المجلس البابوي للحوار بين الأديان (PCID) إلى آفاق جديدة من خلال منحه مكانته السابقة المستقلة ثانية. المجلس الذي تنضم إليه أيضًا الهيئة البابوية للعلاقات الدينية مع المسلمين، كان قد وُضِع في عام 2006 من قبل البابا بنديكت السادس عشر تحت إشراف رئيس المجلس البابوي للثقافة وحُرم بالتالي من استقلاليته.

إلا أنَّ المجلس حصل في عام 2007 على رئيسٍ خاصٍ تمثل بشخص الكاردينال جان لويس توران، وأصبح بالتالي فعّالًا بشكلٍ مشابهٍ على الأقل لفترة ولاية البابا يوحنا بولس الثاني. ومع ذلك ما زالت الهيئة البابوية للعلاقات الدينية مع المسلمين تفتقر إلى الاستقلالية، خلافًا للهيئة البابوية للعلاقات الدينية مع اليهود.

وشهدت أواصر الروابط الكاثوليكية-الإسلامية في فترة وجود بنديكت في البابوية أكثر من اختبار: مرةً من خلال قتل رجل الدين الكاثوليكي أندريا سانتورو في عام 2006 في مدينة طرابزون التركية، ومرةً أخرى في عام 2010 من خلال قتل الأسقف لويجي بادوفيسيه، النائب الرسولي للأناضول.

لكن الفاتيكان لم ينتقد بعد الحدثين الحكومة التركية كما لم ينتقد الإسلام التركي، لا بل أنَّ عائلات رجال الدين المقتولين جعلت من آلامها دافعًا لفتح مسارات حوار جديدة بين الأديان.

 زار البابا بندكت السادس عشر لبنان في سبتمبر/ أيلول 2012 واحتشد الآلاف من المسيحيين لاستقباله. أ ب
في زيارة البابا بندكت السادس عشر للبنان في سبتمبر/ أيلول 2012 حثّ المسلمين والمسيحيين على تجنب الحروب وعلى العيش بسلام.

​​

استعداد للحوار؟

إلا أنَّ المشاركين المسلمين في الحوار مع البابا بنديكت السادس عشر بدوا في نهاية المطاف أكثر اهتمامًا بالحوار بين الأديان من البابا نفسه.

وبينما كان يوحنا بولس الثاني قد اضطر آنذاك للانتظار عقدين من الزمن للحصول على إجابة العالم الإسلامي على إعلان بيان "علاقة الكنيسة في عصرنا بالديانات غير المسيحية" (Nostra Aetate) من عام 1964 فيما يتعلق بالتبادل بين الأديان، حاول بنديكت السادس عشر أن يكون يكون إيجابياً تجاه شبكة من مسلمين مستعدين لتبادل الحوار يتبوؤون مناصب قيادية في أنحاء العالم.

وتم بالتالي تأسيس المنتدى الكاثوليكي-الإسلامي استنادًا إلى رسالةٍ مفتوحةٍ وقَّع عليها 138 رجل دين إسلامي دعوا فيها إلى السلام والتعاون بين الكنيسة الكاثوليكية والعالم الإسلامي. لم يلقَ الحوار تأييدًا من قِبَلِ مديرية الشؤون الدينية وحسب، وإنما أيضًا من منظماتٍ دينيةٍ مهمةٍ مثل حركة غولن التركية.

لم يحاول أحدٌ قتل البابا في اسطنبول. بيد أنه ونظرًا لاستعداد الأتراك لتقبُّل نظريات المؤامرة، لن يكون من المستغرب أنْ نرى قريبًا كتبًا رائجةً في المكتبات التركية، تحمل عناوين من قبيل "من الذي أجبر البابا في روما على الاستقالة؟"


كريم بالجي
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ/ قنطرة 2013

كريم بالجي كاتب ورئيس تحرير مجلة "توركيش ريفيو" (Turkish Review).