ثمار الربيع العربي.... تحرر وطني ونهضة عربية ثانية

يؤكد الباحث الفرنسي المعروف والمتخصص في العالم العربي جان بيير فيليو في مقاله هذا أن الحركة الديمقراطية التي شهدها العالم العربي عام 2011 ليست الأولى من نوعها في تاريخ العرب الحديث، بل إنها تحمل معها الآمال التي ارتبطت بحركة النهضة العربية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

الكاتبة ، الكاتب: Jean-Pierre Filiu



إن الانتفاضة الديمقراطية التي يشهدها العالم العربي مازالت في بداياتها، وشأنها شأن كل التحولات التاريخية ستتعرض أيضا لنكسات وثورات مضادة وخيانات وتعثرات. لكننا اليوم شهود على نهضة عربية لن تعرف التراجع، وعلى انتصار جيل، عازم على أخذ زمام القدر بيديه. نهضة تحمل بين طياتها أيضا الآمال المتعثرة والطاقة التحررية لحركة النهضة العربية، أو لأول حركة تحررية كبرى أعقبت حملة نابوليون على مصر ولفظت أنفاسها مع الحرب العالمية الثانية.

كانت تلك "الحقبة الليبرالية للفكر العربي"، كما أسماها المؤرخ المعروف ألبرت حوراني، الجواب السياسي والثقافي على التغلغل الغربي في العالم العربي، وهو تغلغل عايشه العرب كعدوان عسكري وانهزام للحضارة العربيةـ الإسلامية في الآن نفسه. لقد تعرضت الإمبراطورية العثمانية لهزة كبيرة، حتى إن الأسر الحاكمة في مصر وتونس انتهجت خطا إصلاحيا، في استقلال عن سلطة الباب العالي. وفي هذا السياق دخل أول دستور حيز التنفيذ في العالم العربي على يد صادق باي في تونس سنة 1861، يؤكد على الفصل بين الدين والدولة.

الصورة ويكيبيديا
"الانتفاضات الشعبية هي ثمرة لعلاقات الصراع بين نظام حكومي مسؤول وآخر تسلطي"

​​وبفضل انتشار تقنية الطباعة في العالم العربي انتشرت عشرات من الجرائد والمجلات، والتي لم تحمل فقط أفكارا ومعلومات جديدة للقارئ، بل أيضا لغة جديدة وواسعة الانتشار يمكن مقارنتها اليوم بالقنوات التلفزية التي تلتقط عبر الأقمار الصناعية، وبدل جيل الفيسبوك كانت هناك طبقة متعلمة، كوسموبوليتية، جمعتها في الغالب علاقات متوترة بالسلطات الدينية المسملة منها والمسيحية، وقد وجدت أفكارها صدى في الأوساط العربية المقيمة في أوروبا وأمريكا.

سنة 1881 فرضت فرنسا نظام الحماية على تونس وفي السنة نفسها كسرت بريطانيا المقاومة المصرية ومعها رغبة الخديوي في الإصلاح. وعام 1919 ألقت السلطات البريطانية القبض على أعضاء في حزب الوفد كان من المنتظر أن يشاركوا في مؤتمر سلام في باريس، وتسبب ذلك في انتقاضة شعبية. انتفاضة شعبية تشبه كثيرا، خصوصا ما يتعلق بسلوكها الجمعي ومناطقها والطبقات الاجتماعية التي شاركت فيها، الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظام مبارك في فبراير عام 2011.

ورغم القمع الدموي لثورة عام 1919 إلا أن الإنجليز وجدوا أنفسهم سنوات بعد ذلك مضطرين للاعتراف بالاستقلال المصري. أما الثوار الليبيون فقد كان بإمكانهم العودة إلى الصمود القوي لعمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي بين سنوات 1911 و1931. ولم تكن المقارنة بين القدافي و السلطات الفاشية مجرد شعار،
فا "الأخ القائد" عمد هو الآخر إلى ضرب القبائل الليبية بعضها ببعض ونهج سياسة عدائية ضد بنغازي، كما أن الثمن الذي دفعه الشعب من أجل تقوية نظام مطلق لم يكن قليلا.

حماسة وطنية

حمل الثوار الليبيون بالإجماع علم الاستقلال، ليس لأنهم يريدون العودة بالبلاد إلى عهد الملكية، ولكن لأن الملك ادريس نجح في توحيد طرابلس وبنعازي وفزان في وطن واحد. وفي كل البلدان تكتسي هذه الانتفاضة الديمقراطية طابع حركة تحرر وطني، فالأنظمة السياسية التي استغلت بلدانها كمصدر للكسب الشخصي لا تقل في شيء بنظر شعوبها عن النظام الكولونيالي. ومن هنا نفهم الحماس الكبير للمتظاهرين لما ينظم الجيش إلى صف الشعب وبحر من الأعلام الوطنية يرتفع لحظة الاحتفال في تونس والقاهرة وطرابلس بسقوط الديكتاتور.

عمر المختار الصورة ويكيبيديا
"الهدف الرئيس للنهضة العربية الأولى والثانية، الأمل في أن يتحقق الاستقلال الذي لطاما تأجل تحقيقه"

​​إن هذه الكرامة الوطنية التي تم اكتشافها من جديد تؤكد أيضا بأن التعامل مع القوى الأجنبية لن يتم بعد اليوم إلا على أساس من المساواة والاحترام المتبادل. إن ذلك هو الهدف الرئيس للنهضة العربية الأولى والثانية، الأمل في أن يتحقق الاستقلال الذي لطاما تأجل تحقيقه.

بين المسؤولية والتسلطية

الانتفاضات الشعبية هي ثمرة لعلاقات الصراع بين نظام حكومي مسؤول وآخر تسلطي. وفي العالم العربي نجح النظام التسلطي في السيطرة على مقاليد السلطة في العقود الماضية ، فالنظام المجنون للقذافي كان كارثيا بالنسبة لليبيا، لكنه تمكن عبره من البقاء أربعة عقود في السلطة. كما أن نظام حافظ الأسد وابنه بشار في سوريا استعمل ويستعمل منطق "فرق تسد"، كما أن علاقته الاستراتيجية مع إيران تدعم السلطة المطلقة لحزب البعث على البلاد، لكن سوريا أيضا تعيش ثورة شعبية، ومنذ شهور، ضد الطغمة الحاكمة.

أما البعد الوطني للانتفاضات العربية فقد تنامى بداخل حدود كل بلد ورغم الطابع الشامل للحركة التحررية فإن ذلك لا يشكك بوجود هذه الحدود، بل يؤكدها. فالثوار الليبيون ما كانوا ليستمروا في ثورتهم لولا الدعم الدولي، لكن مواطنين من طرابلس يدعمهم ثوار من مصراتة ومنطقة جبل نفوسة من حرروا طرابلس من براثن القذافي لعنة الله عليه.

أما الأنظمة التسلطية الأخرى، التي تهدد بإدخال البلاد في حرب أهلية فإنها لا تتأخر في اتهام المعارضة بالعمالة للغرب، ولعل أكثرهم اتقانا لذلك هو بشار الأسد. ويمكن لدعايته أن تؤثر بالسوريين، الذي شهدوا ما وقع للعراق بعد الغزو الأمريكي وكيف اضطرت سوريا لاستقبال مليون لاجئ عراقي هربوا من الصراعات الإثنية والدينية في بلدهم. وهذا هو السبب الذي دفع تنسيقيات الثورة في سوريا إلى رفع ثلاث لاءات قي برنامجها: لا للعنف ولا للطائقية ولا للتدويل.

وعبر ذلك تحاول المعارضة السورية أن تقف ضد سيناريو الرعب الذي يسوق له النظام، والذي يرى أن خطر النزاعات الدينية والطائقية المحدق بالبلاد سيسمح بتدخل دولي في البلاد. لكن عنف النظام بلغ اليوم حدا، أصبحت معه التنسيقيات تطالب المجتمع الدولي بهذا التدخل، من أجل وضع حدا للمذابح التي يرتكبها النظام السوري.

 

جان بيير فيليو
ترجمة : رشيد بوطيب
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: نيو تسوريشر تسايتونغ / قنطرة 2012

جان بيير فيليو أستاذ في معهد باريس للعولم السياسية وفي جامعة كولومبيا في نيويرك وجورج تاون قي واشنطن. وقد ترجمت كتبه حول العالم العربي ـ الإسلامي إلى لغات عديدة، آخر إصدارته يحمل عنوان "الثورة العربية: عشرة دروس عن الانتفاضة العربية".