ما هو دور الدين في المجتمع المصري؟

توجهت أنظار العالم إلى مصر لتراقب سير أول انتخابات حرة تجري فيها منذ ثلاثين عاماً. ولكن ما هو دور الدين في المجتمع المصري؟ وما هو تأثيره المحتمل على سلوك الناخبين؟ هذا ما يجيب عنه جوزيف مايتون في مقالته التالية.



ارتفعت المصاحف عالياً، وتعالت معها صيحات مثل "لا إله إلا الله"، تردد صداها في الشوارع المصرية خلال مرور مئات من السلفيين الذين راحوا يؤكدون على هوية مصر الإسلامية، وعلى ضرورة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيها. حدث ذلك في نهاية شهر يوليو (تموز) عندما خرج السلفيون للتظاهر، و كان ذلك أول تعبير علني عن الاتجاهات الأصولية في مصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني).

الصورة د ب ا
نوعية جديدة من العنف: خلال احتجاجات الأقباط في مصر ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة حدثت مواجهات عنيفة دامية راح ضحيتها 27 شخصاً.

​​كانت المظاهرة استعراضاً قوياً لقدرة الإسلاميين على التنظيم: فمعظم المشاركين فيها نُقلوا في حافلات إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة –وفي بعض الأحيان جاء بعضهم من مناطق تبعد مئات الكليومترات عن العاصمة المصرية. كان ذلك اليوم بداية ما يمكن أن نطلق عليه بـ"الصدع الإسلامي" الذي أصاب المجتمع المصري كله. ولهذا لم يكن مفاجئاً رد فعل اليسار الذي كان يكافح قبلها بثمانية شهور لإبراز مزاياً الدولة المدنية.

في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) استعرض الإسلاميون قوتهم مجدداً عندما جاؤوا "لنصرة" القوات المسلحة التي أطلقت النار على المتظاهرين الأقباط وقامت بدهس بعضهم، مما أدى إلى مصرع 27 مسيحياً. تسلّح الإسلاميون آنذاك بالعصي والحجارة، وساروا متجهين إلى قلب القاهرة ليهاجموا المجموعات القبطية. كان ذلك دليلاً آخر على القوة ذات الثقل الكبير التي يمتلكها السلفيون.

أما السؤال الذي يطرح نفسه والذي لا بد أن نجيب عنه فهو: ما دور الدين في المجتمع المصري الآن؟ هذا السؤال لا بد من الإجابة عليه بالنسبة للبلد ككل، وأيضاً – وهذا ربما يكون أكثر أهمية وحسماً – بالنسبة للطبقات الفقيرة، وكذلك بالنسبة للشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى في المجتمع المصري الذي يصل تعداد سكانه إلى نحو ثمانين مليون نسمة، فهذه الطبقات هي التي ستحسم في نهاية المطاف نتيجة الانتخابات. ورغم ذلك فإن وسائل الإعلام لا تهتم إلا قليلاً بالسؤال التالي: كيف تنعكس السياسة القائمة على الدين، وكيف تنعكس العقيدة على حياة المصريين اليومية؟

"الإسلام هو الحل"

الصورة دويتشه فيله
"الإسلام هو الحل" - لافتة دعائية لحزب "الحرية والعدالة": "إن الاستناد على الإسلام تكتيك سياسي لا يمكن أن يقاومه المصريون إلا نادراً، ولهذا فهو منتشر في كافة القطاعات"، يقول مايتون.

​​

كثيراً ما نقرأ في الصحف أن "حزب الحرية والعدالة"، الذراع السياسي للإخوان المسلمين الذي تأسس قبل شهرين، بدأ يستخدم شعار "الإسلام هو الحل" قبل الانتخابات البرلمانية التي بدأت في الثامن والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني). ورغم أن القانون المصري لا يسمح باستخدام شعارات دينية، فإن الحكومة وقوى اليسار الليبرالية لا تستطيع أن تفعل الكثير لمنع استخدام هذا الشعار، وهو ما يبين كيف يستطيع الإخوان المسلمون الذين يتصرفون بحنكة أن يؤثروا على المناخ السياسي لصالحهم من خلال استخدام جملة واحدة. إن الاستناد على الإسلام تكتيك سياسي لا يمكن أن يقاومه المصريون إلا نادراً، ولهذا فإن استخدامه منتشر في كافة القطاعات.

ووفقاً لرأي باسم صبري، وهو مفكر ليبرالي قام بدراسات حول المجتمع المصري والسياسة في مصر، فإن الطبقات الدنيا في مصر كثيراً ما تفهم الدين باعتباره أسمى ما في الحياة. ويضيف صبري أن الدين يساعد بطرق عديدة في "تزويد الناس ببوصلة أخلاقية يستخدمونها كثيراً في زمن الاضطرابات والحيرة، ولا سيما الآن في عصر يجدون أنفسهم فيه متأثرين بعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة ومختلفة كل الاختلاف، عصر يتيح لهم تنوعاً في النماذج الثقافية والاجتماعية التي يمكنهم أن يعيشوا وفقها". محمد على سبيل المثال حرفي بسيط، يعمل على كسب قوته كعامل باليومية في أحد أحياء القاهرة الفقيرة، وهو يقول عن أهمية الدين بالنسبة له: "الإسلام يمنحني قوة تساعدني على الحياة، وأنا أريد زعماء سياسيين يقاسموني رأيي، وهو أنه شيء مُشرّف أن يكون المرء مسلما".

لقد أضحى التعليم الحقيقي في مصر - التي شهدت تدهوراً مستمراً في مستوى التعليم في الآونة الأخيرة - يُقدم في المساجد والكنائس حيث يقوم الشيوخ والقسس بتلقين الناس قيماً أخلاقية ترتكز على الدين، سواء الإسلامي أو المسيحي. الملايين من المصريين يتابعون هذه الخطب وتلك المواعظ. وكثيرون من هؤلاء الملايين لا يعرفون شيئاً اسمه المدونات، كما لا يملكون حساباً على التويتر أو الفيسبوك، ولا يعرفون سوى الأخبار التي يبثها التلفزيون الرسمي الذي تهيمن عليه الرقابة. إنها في الحقيقة ثغرة تقوم الجماعات الدينية في البلاد بملئها. وخلال المراحل التالية في الانتخابات قد يكون ذلك عاملاً حاسماً في اختيار أو عدم اختيار المرشحين.

"كلنا نسيج واحد"

أسماء محفوظ، الناشطة السياسية التي رشحت نفسها لمجلس الشعب، تعرف سلطة الدين على المصريين. فبينما كانت تقدم عزاءها لامرأة مسيحية كانت منهارة تماماً في ليلة التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) إثر المواجهات التي حدثت بين المسيحيين والمسلمين وقوات الأمن، راحت أسماء تحدّث المرأة عن أهمية التلاحم بين المسلمين والمسيحيين، ثم قالت لها: "كلنا نسيج واحد، ولا بد أن نعمل معاً وأن نسلم بإرادة الله". فيما بعد شرحت أسماء محفوظ أهمية الدين بالنسبة للمصريين بالكلمات التالية: "للدين أهمية قصوى. هذا الدور لا بد من فهمه والاستفادة منه، إذا أردنا أن نحسن التعايش المشترك بين المصريين." والمشكلة في مصر تكمن في أن اليساريين الليبراليين يدركون كافة الأشياء المهمة لمستقبل مصر السياسي، مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير عن الرأي وإنهاء المحاكمات العسكرية بالنسبة للمدنيين، غير أنهم، على ما يبدو، يخفقون في الوصول إلى الطبقات الدنيا في مجتمع مقسم إلى طبقات اجتماعية متباينة كل التباين.

الصورة ا ب
مكانة خاصة للإسلام: "هناك مرشحون في الانتخابات البرلمانية ينظرون إلى الدين باعتباره قاعدة وأساساً للقرارات السياسية".

​​غير أن المقاربة الصحيحة للإسلام والاستفادة منه في السياسة، وكذلك العثور على الطريق الذي يمكن من خلاله مخاطبة قلوب وعقول الطبقة التي تميل إلى التفكير المحافظ، قد يكون أمراً حاسماً في تقرير ما إذا كانت مصر ستصبح في المستقبل دولة علمانية، وإنْ بصبغة إسلامية، أو ما إذا كانت المجموعات الإسلامية المحافظة – التي نشرت في مصر تفكيراً محافظاً يتضخم منذ عقود - هي التي ستتولى دفة الأمور.

والواقع أن الدين يضطلع بدور مهم للغاية في مصر، ولهذا لا يمكن إخراس صوته هناك. بل إن هناك من المرشحين في الانتخابات البرلمانية من ينظر إلى الدين باعتباره قاعدة وأساساً للقرارات السياسية.

ووفقاً لداليا زيادة، المرشحة البرلمانية والناشطة منذ سنوات طويلة في مجال حقوق الإنسان، فإن ذلك يتسبب في مشاكل كبيرة. وترى الناشطة أن على من يكافح تدين المتطرفين الإسلاميين لا بد أن يتحلى بالنزاهة والإخلاص، من ناحية أخرى على المرء أن يوضح أنه لا يكافح تدين الناس.

لا مكان لديكتاتورية جديدة

"علينا أن نذهب للناس ونقول لهم الحقيقة. إننا نتسم بالصدق والاستقامة"، تقول المرشحة عن حزب الحرية والعدالة في القاهرة، وتضيف: "لا نستطيع أن نعدهم بالسماء على الأرض. لا أحد في الأرض يستطيع ذلك، ولهذا من المهم أن نكون مخلصين صادقين. عندئذ سيفهمنا الناس وسيقدمون لنا الدعم".

وتقر المرشحة الإخوانية بأن مصر مجتمع عميق التدين، غير أن زيادة - وقبل إجراء الانتخابات التي ستحدد من يقوم بصياغة الدستور الجديد - تبدد مخاوف البعض بخصوص أن تسير مصر في اتجاه التدين المحافظ على غرار النموذج السعودي أو الإيراني. "نعم، نحن متدينون، ولكني لا أعتقد أن المصريين ساذجون إلى درجة تصديق الذين يعدوهم بأن يأخذوهم على الطريق المؤدي مباشرة إلى الله، فنحن لن نستبدل الاستبداد السياسي بالديكتاتورية الدينية، لأنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. لا مكان لديكتاتورية جديدة في مصر".

لقد توجهت أنظار العالم إلى مصر لتراقب في الثامن والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) عندما ذهب ملايين من المصريين إلى صناديق الانتخابات. بعض المسؤولين في واشنطن والعواصم الغربية يشعرون بالقلق والتوتر، ولعلهم ينتظرون ما لن تتحقق أبداً. فإذا جاءت النتيجة كما يتوقعون، فإن من المهم أن تحصل المجموعات السياسية الصغيرة أيضاً على حق المشاركة في القرار السياسي داخل الائتلاف الحكومي المتوقع أن يتم تشكيله. إن العلاقة بين الدين والديمقراطية في مصر ما بعد مبارك ستكون علاقة شائكة، ولكن على ما يبدو فإن من الممكن التوفيق بينهما.

 

جوزيف مايتون
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هاشم العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011

الصحفي الأمريكي جون مايتون يرأس تحرير موقع Bikyamsr.com في القاهرة، وهو يكتب بانتظام مقالات عن مصر والشرق الأوسط.