تفاؤل واضطراب

داكا، عاصمة بنغلادش، التي يقدر عدد سكانها بستة عشر مليون نسمة، منهكة من جراء الفقر والفيضانات والفساد والنزاعات الاجتماعية والسياسية. كيف للفن المعاصر أن يتطور في ظل ظروف كهذه؟ تقرير سيمونة فيللة.

المصور البنغلاديشي الشهير غلام قاسم في معرض شبكة دريك، الصورة: عبير عبد الله
يسعى المبادرون بشبكة دريك إلى الرد على التقارير المصورة المتحيزة، التي تنقلها الوكالات الدولية من بنغلادش، وذلك من خلال نشر صور خاصة بها أكثر دقة، تتناول المجاعات والفيضانات الكبيرة والكوارث الأخرى.

​​داكا، عاصمة بنغلادش، التي يقدر عدد سكانها بستة عشر مليون نسمة، منهكة من جراء الفقر وفوضى السير والفيضانات والفساد والنزاعات الاجتماعية والسياسية. كيف للفن المعاصر أن يتطور في ظل وضع تطغي عليه الجريمة والوحشية والفوضى؟ تقرير سيمونة فيللة.

تعتبر داكا من أكثر المدن الكبيرة فوضويةً في جنوب آسيا. حيث يتابع الملايين من البشر حياتهم وصراعهم من أجل البقاء وذلك في الأماكن العامة وفي شوارع المدينة: الطعام، الصلاة، النوم، رضاعة الأطفال، العلاج البدائي للأسنان وحتى قضاء الحاجة.

فما زالت بنغلادش تعاني من تبعات حرب الإستقلال عن باكستان في عام 1971، ومن الفساد ومن إنبعاث القوى الأصولية.

تطور في ظل ظروف صعبة

يمر الفن المعاصر منذ تسعينيات القرن الماضي بمرحلة انتقالية تتسم بنفس المقدار من التفاؤل والإضطراب. ويفصح الفن عن سوء هذه الأحوال من خلال الأعمال الفنية التركيبية (Installation)، والصور الفوتوغرافية، وفن الرسم، وأعمال الفيديو ومختلف العروض الحية (Performance).

فيتم تناول الشأن السياسي والتوترات الثقافية والأبعاد الاجتماعية-الإقتصادية بشكل مباشر. إجمالاً، بوسع المرء أن يقول أن أوساط داكا الفنية الناشئة تتطور في ظل ظروف صعبة، لتشكل تجمعاً فنياً حيوياً ذا اعتداد جديد بالنفس، وهوية خاصة تميزها عن باقي مدن جنوب آسيا.

تُقدِمُ داكا مجموعة لا يستهان بها من أماكن العرض إذا ما قورنت بالمدن الأخرى في المنطقة. فإلى جانب المعارض التجارية والمرافق العامة هناك أيضاً المبادرات الخاصة. تنظم مثلاً، منذ عام 1994، كل من ماهبوبور رحمن وطيبة بيغوم ليبي مشاريع جريئة على غرار المعارض التي تتجول عبر نيبال، بوتان، الهند وبنغلادش.

وبناءً على هذه التجربة أسستا في عام 2003 ورشة عمل بريتو العالمية للفنانين Britto International Artists' Workshop. ويدعى سنوياً فنانون ومثقفون في إطار هذه المبادرة، بغية إنعاش التبادل الفني والحوار الثقافي في مدينة داكا وفي المناطق النائية على السواء.

جيل غاضب من الفنانين الناشئين

إلى جانب معارض المدينة، تقدم المؤسسات الثقافية التابعة لمختلف بعثات التمثيل الأجنبية، برامج سينمائية ومسرحية متنوعة، وتقيم المعارض الفنية وتحيي الندوات الأدبية. ويقدر فنانو داكا صالات معهد غوته وأليانس الفرنسية بشكل خاص، والأخيرة لرحابة أماكن العرض فيها، حيث توفر مساحةً جيدةً لمشاريع فنية تركيبية وعروض حية طموحة.

يعرض بينالي آسيا أعماله بشكل دوري في أكاديمية بنغلادش الوطنية للفنون الجميلة في داكا منذ عام 1981. إلى جانب المشتركين من البلدان الآسيوية، دعي مؤخراً فنانون من مناطق الباسيفي ومن أفريقيا.

لكن من دواعي الأسف، أنه لم يتسن حتى الآن لهذا المشروع الحكومي، الذي يقوم للمرة الحادية عشر، أن يكوِّن بصمات فنية متميزة للمعرض. بذلك ينقص معرض بينالي آسيا كل سمات المعرض العالمي للفن المعاصر حتى الآن. ولذا لا يعيره الإعلام العالمي سوى قليل من الإنتباه.

يجدر كذلك الإهتمام بعمل وكالة دريك Drik للمصورين الصحفيين المحليين، التي اتخذت من داكا مقراً لها منذ عام 1989. إذ يسعى المبادرون بهذه الوكالة للرد على التقارير المصورة المتحيزة والمحمومة بالأحداث المثيرة، التي تنقلها الوكالات الدولية من بنغلادش، وذلك من خلال نشر الوكالة لصور خاصة بها أكثر دقة، تتناول المجاعات والفيضانات الكبيرة والكوارث الأخرى.

كما أسست وكالة دريك في عام 1998 "مؤسسة جنوب آسيا للتصوير Pathshala - The South Asian Institute of Photography وهي عبارة عن مركز خاص بها لتعليم التصوير الصحافي.

وتنظم الوكالة منذ عام 2000 بالتعاون مع شركائها "شوبي ميلا" أول مهرجان كبير للتصوير الفوتوغرافي في آسيا. حيث يبحث الفنانون الناشئون في أشكال العرض الرائجة بشكل نقدي، ويضعون التجارب التاريخية سويةً مع الأحداث المعاصرة في مركز الإهتمام، بينما يبتعدون في الوقت عينه عن لغة فن عالمية ليقتربوا من لغة ذات صبغة إقليمية-محلية.

سخرية من سيطرة الرجل

الهجاء السياسي يتخلل هذه اللغة. هجاء يصوبه الفنانون ضد الفساد، والمثالية غير المناسبة، والتطرف الديني والاضطهاد الاجتماعي للنساء.

تمثل أعمال كل من نيلوفار شامان، عطية إسلام آن، وطيبة بغوم ليبي، شهادات على استرجاع فنانات بنغلادش لثقتهن بالذات. وتمثل سلسلة أعمال "المرأة والمجتمع"، لعطية إسلام آن، سخرية من أسطورة الرجل المهيمن وهجوماً في ذات الوقت على النظام الأبوي الذي لا يرى النساء إلا كأغراض جنسية.

كما تُعتبر قضايا الظلم الاجتماعي واضطهاد النساء، من المواضيع السائدة في أعمال نيلوفار شامان. حيث تتناول الفنانة إشكالية التفاوت الطبقي العام والتسطيح في مجتمع يواجه فيه جيش متزايد من الفقراء مجموعة صغيرة نسبياً من الأغنياء.

الثقافات الفرعية كأساطير الحياة اليومية

اشتهر شيشير بهاتاشيرجي من خلال رسمه الكاريكاتور السياسي في الثمانينيات. حيث فرضت رسوماته نفسها من خلال التزامه الإجتماعي الراسخ وسخريته اللاذعة وروح الفكاهة لديه. إذ تتعامل الرسومات الهزلية غالباً مع الواقع السياسي الجائر والملموس بشكل أشد نقداً من الفن الرسمي.

وتوجد سلسلة من الأمثلة على ذلك بالأخص في العالم الثالث، في الجزائر وفي تركيا أو في شيلي في عهد أليندي. تظهر الدكتاتورية العسكرية في الثمانينيات في سلسلة رسومات بهاتاشيرجي "تعال وشاهد اللعبة" على شكل مضحك-محزن: الشيطان في ثياب بشرية، ساسة يحملون السلاح ويلهثون وراء السلطة، وأبناء آوى ينهشون أجساد فتيات بريئات.

طابع الهجرة طاغ في بنغلادش. إذ نزح عام 1947 مسلمو الهند إلى شرق باكستان، جديدة العهد آنذاك، وبحث عشرة ملايين إنسان على الأقل، في عام 1971، أثناء حرب الإستقلال التي دامت عشرة أشهر، عن الأمان في الدولة المجاورة -الهند.

تروي فرحانة سيدا، خريجة مؤسسة باتشالا، في أعمالها الوثائقية المتعددة الوسائط، عن المهاجرين البنغال في سينغافورة أو كما في مشروع "ديليواو" عن حياة المسلمين البنغال النازحين الذين يقطنون الأحياء الفقيرة في كلكوتا ودلهي.

شعور الغربة

القصص تشبه بعضها البعض. فهي تدور حول الشعور بالإقتلاع بسبب الهجرة، وحول عدم الانتماء والشعور بالرفض من قبل الآخر، وحول الأحلام المغلوطة. فيما تدعونا فرحانة سيدا، عبر تصويرها شبه الخجول، لرؤية كرامة ورباطة جأش المتضررين وهم في الدرك الأسفل.

حيثما يتواجد المرء في جنوب آسيا، يلامس صراعاً على البقاء، تدور رحاه في الشوارع وفي الأسواق. تماماً كالطقس الساحق، كذلك هو الدين هناك، يوجِّه الحياة بقوة لم يعد يعرفها الغرب ربما منذ عصر النهضة.

ما يَسِمُ حالة الفنانين في بنغلادش، هو ذلك الكم الكبير من النزاعات التي يواجهونها في محيطهم. وبعيداً عن الإهتمام العالمي، عرف فنانو البلد الناشئون، كيف يُدخلون منابع التاريخ واللغة والثقافة في صيرورة عملهم الإبداعي، وكيف يتظافرون معاً من أجل مقاومة الفراغ الثقافي السائد.

سيمونه فيلله
ترجمة يوسف حجازي
صدر المقال في صحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ
حقوق ترجمة النسخة العربية قنطرة 2005