هوية تركيا الثقافية..غربنة أتاتوركية وشرقنة إردوغانية

أدت الموجة الأتاتوركية النابعة من الأعلى والرامية لتحديث المجتمع التركي إلى إخفاء ثروة ثقافية هائلة وراء ستار العصرنة في تركيا. وبوصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة عام 2002، برزت بيئة ثقاقية جديدة سهّلت ظهور الهوية الشرقية "المكبوتة" مقابل الهوية الغربية "المفروضة". موتلو يتكين تسلط الضوء في رؤيتها النقدية التالية على أكثر من عقد من التفاعل السياسي-الثقافي ضمن المشهد الأدبي-الفني التركي في ظل حكم إردوغان.

الكاتبة ، الكاتب: Mutlu Yetkin

كما الحال في الشرائح المثقفة الأخرى، يحلو للمفكرين والمثقفين الأتراك الانغماس في نقاشات موضوع الهوية. الشق الأعظم في هذا النقاش، الذي يركز على السؤال حول الهوية التركية، هو التوتر بين "الهوية الغربية المفروضة" و"الهوية الشرقية المكبوتة". ففي أعين الكثيرين، فإن الضرر الإضافي، الناجم عن جهود الموجة الكمالية (المنسوبة لكمال أتاتورك)، النابعة من الأعلى والرامية لتحديث المجتمع، هو ضرر أدى إلى إخفاء ثروة ثقافية هائلة وراء ستار التحديث.

لكن هذا الانقسام بحد ذاته ظل متروكاً دون نقاش حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سنة 2002، والذي جاء بأجندة سياسية عالمية جديدة كانت تأمل في تقديم إسلام معاصر ومعتدل ينتمي إلى ما بعد الحداثة. وبعد أن قام الحزب باقتلاع كل سياسة أتى بها النظام القديم، فإن كسر المعتقدات السائدة الذي جاء به رجب طيب إردوغان شكل بيئة خصبة لبيئة مثقفة جديدة سهّلت عودة بروز الهوية الشرقية "المكبوتة"، التي كانت في حالة تضاد مع الهوية الغربية المفروضة.

 الإتيان بالعصرية من الشرق

ومن هذا اللاوعي الجماعي انبثقت فكرة طموحة وهي استكشاف إمكانية الإتيان بالعصرية من الشرق، والذي عكسته الإدانة المستمرة لإرث السياسات الثقافية القمعية إبان الموجة الكمالية. وبالرغم من أن انتماء الدولة إلى الشرق ما زال أمراً غير محسوم – ابتداءً من التأملات اللعوبة للحاصل على جائزة نوبل أورهان باموك حول تمزق الوعي التاريخي التركي وحتى رثاء اختفاء الصفة العالمية لاسطنبول من قبل ألِف شفق – إلا أن هناك حنيناً إلى الماضي العثماني، الذي أصبح موضوعاً محبوباً في المشهدين الفني والأدبي.

كما أن تدفق رأس المال العالمي إلى جانب ازدياد اهتمام الشركات الوطنية الكبرى بافتتاح المتاحف والمساحات الفنية حوّل أسطنبول إلى قبلة صاعدة للفنون والثقافة، وهو أمر ناجم على الأغلب من التطورات المالية التي يفخر بها إردوغان.

فازت سرتاب إيرينر بمسابقة "يوروفيجن" للأغاني عن تركيا عام 2003. photo: AP Photo/Alastair Grant
ركوب موجة الحنين إلى ماضي تركيا العثماني في بداية الثمانينيات ومكانة تركيا الدولية مؤخراً في عالم الفن: مرتدية زياً يشبه زي الحريم، فازت سرتاب إيرينر بمسابقة "يوروفيجن" للأغاني عن تركيا، منهية بذلك سجل تركيا المتراجع في هذه المسابقة.

لقد كان هذا الفخر لا محدوداً لديه، لدرجة إعلانه أن الأزمة المالية العالمية "ستمرّ مروراً عابراً على تركيا". وبعد سنة 2006، تحولت اسطنبول إلى مدينة محبوبة، إذ وجد الفنانون الأتراك أنفسهم ضمن أكثر الفنانين مبيعاً في الساحة الفنية العالمية، وانبثقت المتاحف التي ترعاها الشركات الكبرى في كافة أنحاء المدينة. وفي نهاية هذه المرحلة، كانت اسطنبول تخطو بخطى واثقة نحو التحول إلى قطب جديد في الشرق الأوسط.

كما لعبت الموسيقى دوراً في هذه الحمى، إذ رحبت موسيقى البوب العالمية بما يسمى بـ"الأصوات الجديدة من اسطنبول"، وهي ماركة تضم مجموعة من الفنانين الذين صورهم المخرج الألماني من أصول تركية فاتح أكين في فيلمه "عبور الجسر". هذه الموجة كانت محمولة على ظهور فرق موسيقية مثل "بابا زولا" و"ريبليكاس"، التي سعى أعضاؤها إلى إبداء تقديرهم للإبداع الذي كان سائداً في موسيقى "سايكيديليك" في سبعينيات القرن الماضي. وخارج تركيا، كان الأتراك المغتربون أمثال برهان أوكال المقيم في سويسرا وإلهان إرشاهين المقيم في نيويورك في مقدمة الإنتاج الثقافي التركي في الخارج، من خلال مزجهم الشخصي بين الألحان الشرقية والغربية.

الغرب مقابل الشرق

أما الحكومة فلم تكن منفتحة بنفس القدر الذي كانت تعلن فيه عن هؤلاء اللاعبين الثقافيين في الخارج، من خلال حملات ثقافية متعددة، بدءاً بـ"الموسم التركي" الكبير في باريس وانتهاءً بالأسابيع السينمائية التركية في عدد من العواصم الأوروبية.

وفيما لم يتردد الناطقون باسم حزب العدالة والتنمية في الحديث عن سياسة "الكيل بمكيالين" التي يتبعها الغرب، والذي ينظر إلى الفنون والثقافة كخلفية لدعم جدله الانتقامي والوطني، غابت عن نظرهم في الوقت نفسه حقيقة أنهم، ومن وجهة نظر مستهلكي الثقافة المتمدنين الغربيين، لا يكادون يملكون القوة الناعمة التي كانوا يتمتعون بها في منطقة البلقان والشرق الأوسط. لكن رغم ذلك، لم تنجح حتى احتفالية "اسطنبول عاصمة الثقافة" المرائية في إفساد الجو الاحتفالي العام.

الأنماط الهجينة والتمازج وصناعة الجديد والعالمية والعولمة المحلية والغرب مقابل الشرق والإسلام مقابل العصرية – كل هذه المواضيع جسدتها أغلب أعمال الفنانين الأتراك، الذين ركزوا عليها حتى سنة 2013. لكن في حقيقة الأمر، كان الجميع على علم بأن هذا الاحتفال الذي طال انتظاره كان مدفوعاً في جزء منه بالنقاش الدائر حول العولمة، وأن هذه الإثارة ربما ستكون زائلة. ومعظم مخرجات هذا النتاج الثقافي الكبير كانت لها قصة ترويها.

Turkish Prime Minister Recep Tayyip Erdogan (right) and his wife Emine greet supporters during a rally in Istanbul, Turkey 16 June 2013 (photo: picture-alliance/dpa)
Shattering the "last remnants of the AKP's tolerant and moderate façade": while Turkish police clashed with demonstrators in Istanbul on 16 June and security forces tried to prevent activists from relaunching protests in the Gezi Park, the government made it clear that it would crack down on any further protests

السياح والثقافة التركية

الاستعراض الذي قدمته سرتاب إيرينر في مسابقة "يوروفيجن" للأغاني، مرتدية زي الحريم، والذي يجسد أكثر الجوانب إغراءً في الاستشراق، إضافة إلى رقصة النار الأناضولية، سوّقت صورة الأناضول كمهد للأخوة في أكثر من مثال واضح. لكن من جهة أخرى، فإن المزيج بين الرقص الصوفي والموسيقى الإلكترونية، التي جسدها ميركان ديدي، استغلت بصورة أكبر الشغف الغربي بجلال الدين الرومي والصوفية وطرحت أسئلة حول الهوية الأصلية لها. غير أن الكثير أثبت أن المادة التي استمدت منها الفعاليات الثقافية التركية نهضتها كانت ذات أغراض سياحية بقدر ما كانت تخدم "شرقنة" تركيا، مثل عروض الرقص الشرقي المصاحبة للعشاء في مطاعم منطقة غالاتا، حيث يدفع السياح لمشاهدة ما يظنون أنه يمثل جزءاً كبيراً من الثقافة التركية.

لكن في أحد أيام شهر مايو 2013، وأثناء استعداد حزب العدالة والتنمية لوضع حد لـ"المسألة الكردية"، انفجرت الفقاعة. كما أن العقلية التي كانت تملي على الحزب قراراته في السنوات الماضية بدأت تتعرض للمساءلة، خاصة بسبب ملاحظات إردوغان وأفعاله العدائية والإقصائية تجاه عدد من الفئات، بما فيها جزء حيوي من المجتمع كان يرى حرياته تنتهك من قبل حكومة ذات طموحات سلطوية في زي ليبرالي. وفيما بدا وكأن إردوغان قد أقنع الجماهير قبل ثماني سنوات بأنه قد ترك نزعاته المتطرفة وراءه لصالح موقف "ديمقراطي محافظ"، إلا أن ما قدمه أوضح بأن الأقنعة قد سقطت.

احتجاجات منتزه "غيزي" والمشهد الثقافي

الطاقة التي أطلقتها احتجاجات منتزه غيزي، والتي انتشرت في كافة أنحاء البلاد كالنار في الهشيم، أسقطت آخر بقايا التمثيلية التي كان يمثلها حزب العدالة والتنمية حول كونه معتدلاً ومتسامحاً. كما أن النتيجة – تسعة قتلى وآلاف الجرحى – كشفت مقدار تعجرف إردوغان والوضع المزري لوسائل الإعلام التركية فيما يتعلق بتطبيق المعايير الأخلاقية والمهنية الصحفية. فبينما كانت أجزاء من اسطنبول تحترق بكل معنى الكلمة، اختارت بعض القنوات الكبرى، مثل "سي إن إن تورك" – الشريك التركي لقناة "سي إن إن" الإخبارية العالمية – بدلاً من ذلك عرض بعض المسلسلات والأفلام الوثائقية (أو في حالة بعض القنوات الأخرى، بث مقابلة مع إردوغان نفسه، بذل فيها المذيع كل جهده لإدانة الاحتجاجات).

عندما اختفى مفعول التنويم المغناطيسي وآفاق الناس من حلمهم المنحطّ، تحولت احتجاجات "غيزي" إلى لحظة سحرية، إذ كانت اسطنبول، تحت غطاء المدينة المحبوبة، قد أصبحت ساحة تجارب لحزب العدالة والتنمية ومكاناً يبني عليه عالماً مريراً من الإسمنت وملجأً نيوليبرالياً محسناً. وبينما اتسعت دائرة الاحتجاجات، استمرت أعمال الهدم والتحسين في حي ترلباشي، وهو حي مهمش على الجانب الأوروبي من اسطنبول، مضيفةً مشروعاً آخر إلى سلسلة مشاريع التجديد الحضري التي أطلقها حزب العدالة والتنمية.

Newly married couple Nuray (left) and Ozgur chant slogans in Gezi Park on July 20, 2013 in Istanbul after being married at the Sisli district's municipal building (photo: OZAN KOSE/AFP/Getty Images)
Rejecting the AKP's "flawlessly gentrified neo-liberal haven": according to Mutlu Yetkin, Gezi showed was that there is room in Istanbul’s urban reality for a "genuine, defiant and fresh art that does not seek to be amplified by global agendas or governmental ambitions"

وبعقيدة تنمية حضرية مبنية على بناء المزيد من مجمعات التسوق الأكبر والأحدث والأكثر لمعاناً في كافة أرجاء المدينة، تعامل حزب العدالة والتنمية بحساسية مفرطة مع كل مساحة خضراء في اسطنبول، إلا أن منتزه "غيزي"، وكما كرر المحتجون ملايين المرات، ليس عبارة عن مجموعة من الأشجار وحسب. لكن إصرار إردوغان على هدم هذا المتنفس الأخضر الصغير كان القشة التي قصمت ظهر البعير. وما شكل صدمة أكبر من ذلك كان احتمال توقف ضخ الاستثمارات الأجنبية كردّ على حالة عدم الاستقرار التي خلقتها تصرفات الحكومة التركية، وهي استثمارات حيوية للحفاظ على صورة "اسطنبول المحبوبة"، إذ كيف يمكن لحكومة تتصرف بهذا الشكل أن تكون قادرة على أن تلهم أي نوع من التجديد في المشهد الثقافي؟

الرغبة في الحياة المتجسدة في الإبداع

إن احتجاجات منتزه "غيزي"، التي غذتها مشاعر ومواقف حقيقية، بدت وكأنها تمثل انفجاراً من الأسفل، وتحولت إلى مسرح لعدد من العروض الفنية المتنوعة، سواء كانت تجمعات عشوائية أو أناشيد مقاومة أو عروض لحظية للإبداع في الشارع يصعب تصنيفها في خانة معينة. هذه العروض قد لا يمكنها لوحدها أن تمهد لحقبة جديدة، إلا أن هذا الانفجار، الذي يصعب حصره في أي اتجاه سياسي معين، لم يأت ببيانات أو شكل خارجي خاص به، فقد كانت احتجاجات "غيزي" عبارة عن تحالف لمواطنين غير سعداء رسخته مشاعر الاحترام المتبادل والتضامن. ورغم ذلك، وبينما أزالت الاحتجاجات الغشاوة عن "روح" العدالة والتنمية، فإنها طرحت تساؤلات حول الحاجة لتعليمات جديدة في النطاق الثقافي.

 إن جماليات المعارض الفنية حول المقاومة، والتي استضافها عدد قليل من المعارض في اسطنبول (كثير منها يقع في مناطق نائية على الجانب الأوروبي من المدينة) كانت قادرة على إبراز ما وصل إليه الفن المدعوم من قبل مؤسسات الدولة من ترويض وضجر وانعدام الإبداع. وفي نهاية الأمر، فإن الحوار الذي كان دائراً بشكل كبير حول الشرق والغرب لم يلامس الحقيقة إلا ملامسة ضئيلة. حتى لائحات الأغاني التي عُزفت في "غيزي"، والتي جمعتها عدد من المنشورات، كانت قادرة على إبراز الرغبة في الحياة المتجسدة في الإبداع الذي لا يستسلم في "غيزي". فمن أناشيد الاحتجاج التي غنتها جوقة بوغازيشي للجاز، إلى ألحان موسيقى "دابستيب"، أبرزت هذه الموسيقى التحدي المليء بالدعابة الموجهة، والأهم من ذلك أنها أعادت تعريف الحدود بالنسبة لموسيقى الاحتجاج في تركيا.

شرطة مكافحة الشغب تفرق متظاهرين خلال مسيرتهم إلى حديقة غيزي للاحتجاج بتاريخ 15 / 06 / 2013. photo: Reuters
شرطة مكافحة الشغب تفرق متظاهرين خلال مسيرتهم إلى حديقة غيزي للاحتجاج بتاريخ 15 / 06 / 2013. photo: Reuters

ما أظهرته احتجاجات "غيزي" في حقيقة الأمر هو أن هناك فسحة في الواقع الحضري والحقبة المعاصرة التي نعيشها للفن الحقيقي والمتحدي والجديد، الذي لا يبحث عن التضخيم من خلال أجندة عالمية أو طموحات الحكومة. أما أحاديث "الشرقنة"، من أكثرها سطحية لأكثرها جدية، فرغم أنها تبدو وكأنها تقسو على نزعات التحديث القمعية بداخلها، إلا أنها محرومة من زاوية نقدية حقيقية، ذلك أنها موجهة لجمهور (وترغب في خلق جمهور في حال غيابه) يبحث عن الانخراط في حوار عقيم بفهم محدود للحدود الشاسعة للثقافة وحالة السياسة. إن النقاشات التي انبثقت حول موضوع الشرق والغرب زدات الموضوع إبهاماً بدل توضيحه.

أما الانخراط في اللحظة، من جهة أخرى، فيمكن أن يجلب منفعة أكبر من التركيز على قضايا الهوية أو كل ما يتم تقديمه على أنه وقود للتفكير على طاولة التوجهات العالمية. قد تكون تلك حقيقة منسية منذ فترة طويلة، إلا أن الفن يبقى ضرورياً، فهو قادر على هزّ الجماهير وإلهامها دون اللجوء إلى السطحية أو الشعبوية.

 

 

موتلو يتكين

ترجمة: ياسر أبو معيلق

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: بابل ميد/ قنطرة 2014