العصيان المدني بديلاً للحرب المقدسة

في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني حلت الذكرى السنوية لهجمات مومباي، التي راح ضحيتها 173 شخصا. المسلمون في مومباي أيضاً دانوا هذا العمل الإرهابي آنذاك، وفي مقدمتهم أنصار الفقيه الإسلامي الإصلاحي أصغر علي إنجينير. غيرهارد كلاس يلقي الضوء على تداعيات هذه الهجمات على أوضاع المسلمين في الهند وفرص التعايش السلمي بين أتباع ديانات الهند المختلفة.

الفقيه الإسلامي الإصلاحي الهندي أصغر علي إنجينير، الصورة: خاص
لسيرته الحسنة مُنح أصغر علي إنجينير في عام 2004 جائزة نوبل البديلة، سوية مع سوامي أغنيفيتش، وهو إصلاحي هندوسي ومعارض للقوميين الهندوس

​​ أثار الهجوم الإرهابي، الذي وقع في الهند من 26 وحتى 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 الرأي العام العالمي بشكل لم يسب أن تحقق على خلفية أي اعتداء إرهابي آخر. بل وحتى أنه بات يُقارن في الهند بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على برجي مركز التجارة العالمي. المسلمون في مدينة مومباي الهندية، الذين طالما كانوا هدفاً لهجمات القوميين الهندوس المتشددين ووقعوا أيضاً ضحية لهجمات مومباي، أدانوا الهجوم ونظموا سوية مع معتنقي الديانات الأخرى احتجاجات ومسيرات سلمية، على غرار مركز دراسات المجتمع والعلمانية، الذي يديره الفقيه الإسلامي الإصلاحي أصغر علي إنجينير Asghar Ali Engineer.

"الإرهاب ليس بدين"

تقول كوتوب كيدواي، مساعدة أصغر علي إنجينير وساعده الأيمن: "إن أربعين في المائة من الضحايا كانوا من المسلمين". وتؤكد كيدواي إنه من الضروري فصل الدين عن الإرهاب بشكل صارم. وتقول المسلمة التي تتبع المذهب السني: "عن الإرهاب ليس له دين ولا يعرف الأصدقاء أو الإخوة". وتضيف قائلة: "إنهم لم يهاجموا طائفة دينية بعينها، وإنما هاجمونا جميعاً".

تفجيرات مومباي، الصورة: ا.ب
أثارت تفجيرات مومباي في عام 2008 الرأي العام العالمي، حيث شبهت بهجمات الحادي عشر من سبتمبر

​​ دخل أصغر علي إنجينير المولود في عام 1939 في خلاف مع مذهبه الأصلي مذهب البهرة الداودية الشيعي. وينتمي إلى فريقه الجديد أيضاً هندوس وأتباع بعض الديانات الأخرى. وسواء كانوا من المسيحيين أو السيخ أو الهندوس أو اليهود فإن أصغر علي إنجينير يقابل جميع المتدينين وغير المتدينين باحترام، فهو أشهر فقيه إسلامي إصلاحي في الهند.

"إن كل البشر، وحتى النساء، عليهم أن يتمكنوا من العيش بكرامة ويتمتعون بالقدر نفسه من حقوق الإنسان"، بهذا القول يجابه أصغر علي إنجينير كل أولئك، الذين يستنبطون من القرآن قيامة الرجل على المرأة. ويضيف قائلاً: "على المرأة أن تكون قادرة على تقرير مصيرها بنفسها وتحديد مستقبلها، وفي هذا أرى روح القرآن".

هدف للبهرة الداودية

ولهذا السبب يضع إنجينير حتى الشريعة موضع التساؤل، لأنها فسرت القرآن في مرحلة تاريخية محددة، حين كان المجتمع مصبوغاً بالإقطاعية. عن هذا يقول: "علينا اليوم أن نعيد النظر في كل قوانين الشريعة". لكن نشاطه هذا جعل من أصغر علي إنجينير هدفاً لأتباع البهرة الداودية. ويقول الفقيه المصلح مستذكراً: "حاولوا اغتيالي خمس مرات". لكن الجناة لم يتمكنوا من إرهابه أو تخويفه. ومنذ عقود كثيرة من الزمن ينظم إنجينير حلقات دراسية ومؤتمرات، كما أنه في حوار دائم مع ممثلي المنظمات الدينية والاجتماعية والسياسية.

وكان الهجوم الأخير على أصغر علي إنجينير قد شُن في عام 2000. وتحدثت الصحف وقنوات التلفزة عن ذلك، بينما أعلن الكثير من المثقفين النقديين تضامنهم مع الفقيه المصلح. ولسيرته المستقيمة مُنح أصغر علي إنجينير في عام 2004 جائزة نوبل البديلة، سوية مع سوامي أغنيفيتش، وهو إصلاحي هندوسي ومعارض للقوميين الهندوس.

أما مكان نشاطه منذ عقود فهو مدينة مومباي البالغ تعداد سكانها 18 مليون نسمة، والتي تعد المركز الاقتصادي لشبه القارة الهندية، وأكثر المدن الهندية توجهاً لأسلوب الحياة الغربية. وأكثر من أي حاضرة هندية أخرى تعرضت مومباي في العقدين الأخيرين للكثير من الهجمات الإرهابية والمذابح لأسباب دينية.

ضد الإرهاب ومن أجل التسامح

في احدى محاضرات الفقيه الإسلامي الإصلاحي الهندي أصغر علي إنجينير، الصورة: CSSS
يدير أصغر علي إنجينير مركزه لدراسات المجتمع والعلمانية في مومباي، ويعتمد في نضاله ضد الأصولية على التقاليد الهندية في التعامل مع مختلف الديانات

​​

ومنذ أكثر من 15 عاماً يحكم حزب شيف سينا الهندوسي اليميني المتطرف، أو ما يُسمى كذلك بـ"جيش الإله شيفا". ويعتبر حزب شيف سينا مسلمي الهند بمثابة "الطابور الخامس" لعدوه الأول باكستان. وليس من قبيل الصدفة، بل من أجل هذا السبب يدير أصغر علي إنجينير مركزه لدراسات المجتمع والعلمانية في مومباي، ويعتمد في نضاله ضد الأصولية على التقاليد الهندية في التعامل مع مختلف الديانات. عن هذا يقول إنجينير: "بفضل ثقفتنا المختلطة يتميز الإسلام في الهند عن مثيله في الدول العربية".ويوضح الفقيه الإصلاحي قائلاً: "إن المسلمين هنا لا يشكلون سوى أقلية، الأمر الذي دفع حتى العائلات المسلمة التي حكمت الهند إلى أن تكون معتدلة في تدينها، لأن غالبية الشعب تنتمي إلى ديانة أخرى".

إن للحضارة والثقافة الهنديتين اثر قوي على الإسلام، وبالتحديد كما ترك الإسلام بالعكس بصماته على الثقافة الهندية. إن تقليد الثقافة المختلطة لا يزال حاضراً حتى يومنا هذا. عن هذا يقول إنجينير بقناعة تامة: "على الرغم من التأثير الكبير للأصولية الهندوسية فإن غالبية الهندوس لم يتأثروا بذلك"، ويضيف قائلاً: "إن غالبية الهندوس محترمون وعلمانيون جداً".

لكن كوتوب كيدواي تنظر بارتياب إلى المستقبل، فهي تخشى من أن الاعتداءات المكبوتة والتي تبقى من دون عقاب، على مسلمي الهند وأماكنهم الدينية يمكن أن تدفع الجيل الفتي منهم إلى التطرف. وعلى أي حال فإن منفذي هجمات مومباي أيضاً هذه الحوادث من أجل تبرير فعلتهم. وتضيف كيدواي قائلة: "أحدهم ذكر أثناء مقابلة تلفازية تدمير مسجد بابري عام 1992 والمذبحة التي نُفذت بحق المسلمين في غوجارات في عام 2002. وطالب بإنهاء الفظائع التي ترتكب بحق المسلمين".

وتؤكد كيدواي قائلة: "علينا أن نعي أخيراً أنه يجب علينا أن نلتفت أيضاً إلى صراعاتنا الداخلية في الهند، وإلا سيقوم آخرون بالاستفادة من هذا ويحاولون استقطاب شبابنا في منظماتهم".

العدالة الاقتصادية كتكليف ديني

لكن المسلمين في الهند ليسوا تحت وطأة عنف القوميين الهندوس وحسب، وإنما لا يحصلون سوى على فرص تعليم قليلة فقط، مقارنة بالغالبية الهندوسية. كما أنهم يعيشون أوضاعاً أكثر فقراً ويعانون من التمييز في الوظائف العامة. ويرى إنجينير أن تغيير هذا الوضع يعد بالنسبة إليه جزءاً من تكليفه الديني، فالإسلام يؤكد أيضاً على العدالة الاقتصادية.

إن قراءة أعمال الفيلسوف البريطاني برتراند رسل وكارل ماركس تركت آثارها على العمل الذي كرس إنجينير حياة لأجله. ووفق رأي إنجينير فإن كارل ماركس لم يدن الدين بحد ذاته –ومضمونه الديني أيضاً-، بل وظيفة الدين الاجتماعية. ويذهب إنجينير إلى ما ذهب إليه كارل ماركس في أن الدين يمكن أن يصبح أداة للطغيان، حين يتم استخدامه من أجل إدامة أوضاع الظلم، بدلاً عن تغييرها.

وفي كتابه "الإسلام والثورة" يقدم أصغر علي إنجينير رؤية لفقه التحرر، الذي يُعين للدين وظيفة اجتماعية أخرى، توصي بالعدالة ليس في الآخرة فقط، وإنما في الدنيا وفي عالمنا هذا أيضاً. وبهذا فإن أصغر علي إنجينير لا يراهن على حرب مقدسة، وإنما على أفعال تخلو من العنف للعصيان المدني من أجل الوقوف في وجه أشكال العنف المباشر والممنهج. أما بالنسبة إلى كوتوب كيدواي فإن أصغر علي إنجينير يعد بمثابة قدوة كبيرة، وتعلق على ذلك قائلة: "أحياناً أدعوه بالصوفي الجديد، وأحياناً أخرى بغاندي حقيقي".

غيرهارد كلاس
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

هجمات مومباي الإرهابية:
"عسكر طيبة" وراء أحداث "سبتمبر الهندية"؟
دأب الجيش الباكستاني على مدى سنوات طويلة على دعم جماعات باكستانية تتسم بالتشدد والتطرف لتوظيفها ضد الهند. واحدى هذه الجماعات جماعة "عسكر طيبة"، حيث يشار إليها بأصابع الاتهام بالوقوف وراء هجمات مومباي الإرهابية، عاصمة الهند الاقتصادية. يوخين فوك يلقي نظرة على هذه الجماعة ودورها المحتمل في هذه التفجيرات.

هجمات مومباي:
تطوّر نوعي في عمليات الإرهاب الدولي؟
أدَّت سلسلة الهجمات التي تعرَّضت لها مدينة مومباي الهندية إلى شلِّ الحياة العامة في هذه العاصمة الاقتصادية. والآن لا بدّ من مقارنة هذا الخطر الذي نجم عن هذه الاعتداءات بهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، حسب رأي المعلق توماس بيرتلاين.

الإرث الديني والاستعماري في شبه القارة الهندية:
سياسة "فرق تسد"
طفت إلى السطح من جديد التنافرات السياسية والدينية في شبه القارة الهندية مع هجمات مومباي في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. فتاريخ هذه الخلافات ومقدمتها تعود إلى حقبة الاستعمار البريطاني للمنطقة، كما يوضح المؤرخ يورغ فيش.