الأوروبيون فقط هم الأكثر ملاءمة حالياً للقيام بدور الوساطة في سوريا

يرى ناصيف نعيم، الباحث القانوني الألماني من أصول سوريّة، في تعليقه الآتي أن موقف الغَرْب كَكُل، بمَن فيهم الألمان، ضد النظام السوري هو موقف أدى إلى تصعيد الحرب الأهلية في سوريا وأن الخاسرين هم أبناء الأقليات في البلاد، كالمسيحيين.

الكاتبة ، الكاتب: Naseef Naeem



سوريا، بلد والدي ووالدتي، تتّجه بخُطىً متسارعة نحو الهاوية دون أن َيقْدِر أحد على الوقوف في وجه هذا الانحدار. فنظام القضاء والإدارة والشرطة قد انهارَ بشكل شبه كامل، مما قد يشكِّل بداية عملية تقسيم للتراب الوطني وفقاً للانتماءات الطائفية والعرقية. على أن الأوروبيين بشكل عام، والألمان على وجه الخصوص، لم يفهموا بعد أنّ هذه الحرب حرب شاملة لا تَرحَم، تحرق الأخضر واليابس في البلاد دون أي رادع أو ضابط. رغم ذلك، فإن الأوروبيين فقط هم الأكثر ملائمة حالياً للقيام بدور الوساطة في سوريا، إذا لم يكن الوقت قد فات على أي شكل من أشكال الوساطة.

 

للإحاطة بجوانب هذا الصراع على المرء أن ينظر إليه من منظار لعبة بوكَر يَشُنّ حول طاولتها الجميع حرباً على الجميع. أول من يجلس على طاولة البوكر هي المعارضة المسلحة. هذه المجموعة، التي تتشكل في معظمها من جنود منشقين ومتطوعين مسلحين والتي تفتقد إلى قيادة موحدة مركزية الهيكل، تلعب بكل ما تملكه وتُلْقِيه على الطاولة، ولا مفرّ لها من ذلك، لأنها تعرف أن أمامها إحدى طريقين لا ثالثة لهما، فإما إسقاط النظام أو الهلاك المُحَقَّق.

 

من وجهة نظر التركيبة الطائفية لسوريا كبلد متعدد الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق، يطغى على هذه المجموعة الطابع الإسلامي السني المحافظ. علاوة على ذلك فإن الفهم العام للشعب السوري لدى المعارضة المسلحة ينبثق بالدرجة الأولى من التأطير السياسي للأغلبية العددية السنية، بما معناه أن الأغلبية السنية هي صاحبة الحق في حكم سوريا.

المقاتلون المعارضون للنظام في حلب، أ ب
تصاعُد للعنف بلا حدود: "للإحاطة بجوانب هذا الصراع على المرء أن ينظر إليه من منظار لعبة بوكَر يَشُنّ حول طاولتها الجميع حرباً على الجميع"، بحسب ما كَتَب ناصيف نعيم.

​​

علاقة النظام بالمسيحيين والعلويين

 

على طرف مقابل من طاولة البوكر يجلس النظام الحاليّ، الذي يتشكل في المقام الأول من المسلمين العلويين، الذين يمثلون أقلية عَدَدِيّة في سوريا ولكنهم يسيطرون على كامل جهاز الدولة السورية منذ تأسيسها تحت الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى. التداخل بين العلويين والنظام هي مسألة متعددة الأطراف ترتبط على وجه الخصوص بديناميكية اتخاذ القرار في الدولة والمصالح القريبة والبعيدة المرتبطة بتلك العملية. هذا الترابط هو السبب في أن الوحدات العسكرية والميليشيات الموالية للنظام تتألف من العلويين بشكل أساسي. كما أن النهج العنيف للنظام في تعامله مع جماعة "الإخوان المسلمون" والاتجهات الإسلامية عموماً، خاصة أثناء ردة فعله ضد انتفاضتهم وتمردهم في حماة، لم يَدَعْ للعلويين أي خيار آخر سوى التكاتُف والتعاضُد مع بعضهم البعض في مواجهة كل أشكال المعارضة، إذ أنهم يعلمون بأنه سينتقم منهم شر الانتقام في حال سقوط النظام، حتى لو كانوا من غير المستفيدين من النظام بشكل مباشر.

 

على طاولة البوكر تجلس أيضاً الأقلياتُ الدينية، وخاصة المسيحية، التي استفادت من نهج النظام شبه العلماني في حكم الدولة. على أنه ليس من الصحيح الادعاء بأن المسيحيين يحظَوْن في سوريا بمعاملة خاصة أو أنهم يُفَضَّلون عن غيرهم، بل الحقيقة هي أن الدولة السورية لا تمارِس اضطهاداً ضد المسيحيين، وإنما تضمن لهم درجة عالية من الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية وإدارة شؤونهم، أي أنها تعاملهم على قدم المساواة مع المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات. هذا ما أدى إلى شعور المسيحيين بالأمان في الحياة اليومية من جهة، وإلى ابتعادهم بعض الشيء عن المُعتَرك السياسي وعدم اكتراثهم بالقمع السائد من جهة أخرى.

 

مخاوف المسيحيين

 

ولكن، منذ بداية الانتفاضة، لم يتبقَّ أي شعور بالأمان لدى المسيحيين السوريين، حيث ثارت مخاوفهم بشكل خاص مع تزايد دور الجماعات الإسلامية المسلحة ذات الرايات السوداء في النزاع، فتلك الجماعات لا تعترف بالتعددية الطائفية الخاصة بالبلاد. وقد زاد مِن قلَقهم عجزُ المعارضة المسلحة عن النَّأْي بنفسها بمصداقية عن هذه الجماعات الجهادية. من هنا تَعَمَّق الشعور لدى جميع الأقليات في سوريا بأن الإنتفاضة هي انتفاضة إسلامية سُنِّيّة، مرتبطة بالفكر الجهادي المتطرف.

ناصيف نعيم
د. ناصيف نعيم، متخصص بالقانون الدستوري من جامعة غوتِنْغِن الألمانية، وهو من أصل سوري وينتمي إلى طائفة السريان الأرثوذكس.

​​

فضلاً عن ذلك، فإن الدعم غير المشروط الذي تتلقاه المعارضة المسلحة من القوى الإقليمية يزيد مخاوف الأقليات من تحوُّل سوريا إلى عِراق آخر أو أفغانستان أخرى. فالدُّول السُّنيّة في المنطقة، كالمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر، تريد إقصاء العلويين عن الحكم مهما كلَّف الأمر. علاوة على ذلك فقد تفاقم الوضع بالنسبة لتركيا على إثر دعم النظام السوري لسلطة حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا.

 

وعلى النقيض من الدول السُّنيّة في المنطقة يجلس شيعة إيران والعراق ولبنان على طاولة البوكر كأنصار للنظام. فالشيعة في هذه الدول يؤدون، حسب اعتقادهم، واجب مساعدة العلويين إخوتهم في الطائفة، رغم اختلافهم معهم في مفهوم الدولة العلمانية. إضافة إلى ذلك لا ينبغي الاستهانة بالبُعد التاريخي والديني للصراع بين الشيعة والسنة. فالشيعة، أتباع أهل البيت وعائلة النبي الذين قتَلتهم في الماضي قُوَّاتُ خلفاء الأمويين، أي من يشكلون الأصل التاريخي لأهل السنة حالياً، لن يسمحوا للسُّنّة بإلحاق الهزيمة بهم للمرة الثانية في التاريخ، أي لن يسمحوا لهم بذبحهم من جديد.

 

"إما أنا أوْ لا شيء"

 

وكأنّ هذا الوضع الداخلي والإقليمي المتفجر القائم على لعب كل الأطراف بورقة "كل شيء أو لا شيء" أو "إما أنا أو لا شيء" لا يكفي مَرَارة، دخلت أطراف أخرى دولية، وبشكل خاص الأمريكان والروس- المدعومون من الصينيين- على خط الصراع في سوريا. فالأمريكان يرون في هذا الصراع فرصة سانحة لإنهاء أي نفوذ إيراني في المنطقة. على هذا الأساس فإن الولايات المتحدة على ما يبدو مستعدة لاستخدام كل الوسائل من أجل تحقيق هذا الغرض، حتى أنه لا مشكلة لديها بقبول نظام إسلامي متشدد بعد الأسد.

 

هذا التكهن يدفع إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأمريكية تواصل، من خلال موقفها من الصراع في سوريا، الاستراتيجية التي بدأتها منذ حرب العراق عام 2003، وهي استراتيجية التوقف عن دعم أو حتى قبول الأنظمة الأوتوقراطية في منطقة الشرق الأوسط، حتى وإن شكلت تلك الأنظمة مفتاح الاستقرار في المنطقة لعقود من الزمن. وهذا يعني قبول الولايات المتحدة بحالة عدم الاستقرار وتفتت نظام الدولة في المنطقة العربية.

 

أما بالنسبة للروس فالقضية بادئاً ذي بدء هي مسألة تصفية حسابات مع المملكة العربية السعودية وغيرها من القوى السُّنّية التي دَعَمَت، من وجهة النظر الروسية، المتمردين في الشيشان وغير ذلك من الأعمال الإرهابية في روسيا. الروس يعرفون كذلك أنه بنهاية النظام السوري ستنتهي حقبة نفوذهم في الشرق الأوسط، وهي الحقبة التي يعود تاريخها إلى العهد السوفييتي.

الأخضر الإبراهيمي ، بيكتشر أليانس
العجز السياسي في الصراع السوري: "مواقف الدول الكبرى هذه تدفع إلى القول بأن الأمم المتحدة عاجزة تماماً عن فعل أي شيء بخصوص الصراع في سوريا، إذ أنها لا تَعْدو عن أن تكون أكثر من متفرّج على لعبة البوكر السورية"، وفقاً لرأي ناصيف نعيم.

​​

مواقف الدول الكبرى هذه تدفع إلى القول بأن الأمم المتحدة عاجزة تماماً عن فعل أي شيء بخصوص الصراع في سوريا، إذ أنها لا تَعْدو عن أن تكون أكثر من متفرّج على لعبة البوكر السوري. هذا الدور الذي لن يتغيير من خلال تعيين الأخضر الإبراهيمي كوسيط أممي جديد. أما الأوروبيون فإن القلق والخوف والتردد يساورهم حتى الآن على طاولة البوكَر. وأكثر ما يمكنهم فعله حتى الآن يتمثل في إظهار الغضب والاشمئزاز من دور القوى الأخرى في الصراع. ومع ذلك، فالأوروبيون ربما يكونون الوحيدين الذين بإمكانهم بالفعل القيام بدور الوساطة في الحرب الأهلية السورية، إذا استطاعوا أن ينأَوْا بأنفسهم عن كل المواقف المعلنة ويبدؤوا بالبحث عن طريقهم الخاص بهدف الوصول بالدرجة الأولى إلى حالة من حالات الهدنة بين الأطراف المتحاربة.

 

هذا يتطلب بشكل رئيسي إحياء قواعد الفن الدبلوماسي، أي الوقوف على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع الداخلية والإقليمية والدولية. فهذه الأطراف جميعها هي جزء من المشكلة، وبذا لا يمكنها المساهمة في إيجاد حل محايد لهذا الصراع، إذ أنها ستقاتل حتى النهاية.



ناصيف نعيم
ترجمة: علي المخلافي
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: فاينانشال تايمز ألمانيا/ قنطرة 2012