دروس ساحة ''تقسيم'' في اسطنبول

لا يشكك المحلل السياسي التركي البارز طه أكيول في إنجازات رئيس الوزراء إردوغان، فهو نجح في إخراج تركيا من «عنق الزجاجة» الاقتصادي، وأطاح هيمنة العسكر على الساحة السياسية وسعى في حل القضية الكردية سعياً جريئاً وجدياً. لكنه يطالب الحكومة التركية أن تُقوِّم أداءها وتسأل نفسها أين أخطأت، فيما لا تخفى الأبعاد الاجتماعية والسياسية للاحتجاجات الاخيرة.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

تركيا كلها، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تحديداً، مدعوة إلى أن تدرك نتائج ما بدأ في ساحة تقسيم من احتجاجات وانتشر مثل النار في الهشيم في كل المدن والمحافظات. أبدى نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينش، تفهُّمه لغضب الناس، وقال إن التظاهر حق مشروع وإن الحوار مع المتظاهرين كان افضل من إغراقهم بغاز الفلفل.

كذلك فعل رئيس بلدية إسطنبول قادر طوباش الذي أقر بأن بلديته أخطأت، ولم تُحسِن شرح المشروع لأهل المدينة قبل أن تبادر إلى اقتلاع الأشجار. هذا كله كلام مصيب وجميل، لكنه محصور في موضوع حديقة «غزي بارك»، في وقت رمت التظاهرات والاحتجاجات إلى أهداف أوسع وأشمل، إذ استــــهدفــت ســـياســـات الحكومــة وشـــخصية أردوغـــان.

وهذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها التركي العادي غير المسيَّس إلى الشارع خروجاً عفوياً ليحتج ويتظاهر، وهو أمر خطير وليس بالبساطة التي يزعمها بعضهم. وحريّ بالحكومة أن تُقوِّم أداءها وتسأل نفسها أين أخطأت، فيما لا تخفى الأبعاد الاجتماعية والسياسية للحوادث الأخيرة.

الرئيس التركي غول ورئيس الوزراء التركي إردوغان وعقيلته في حفل احتفال الجسر الثالث فوق مضيق البسفور في اسطنبول. Getty images أ ف ب
"لا يطعن أحد في إنجازات أردوغان، فهو نجح في إخراج تركيا من «عنق الزجاجة» الاقتصادي، وجمّل صورتها في العالم، وأطاح هيمنة العسكر على الساحة السياسية وسعى في حل القضية الكردية سعياً جريئاً وجدياً. ولكن، إثر نجاحاته هذه كلها، ازدادت قسوة مواقفه"، كما يرى طه أكيول.

​​

إردوغان نجح في إخراج تركيا من «عنق الزجاجة"

لا يُطعن أحد في إنجازات أردوغان، فهو نجح في إخراج تركيا من «عنق الزجاجة» الاقتصادي، وجمّل صورتها في العالم، وأطاح هيمنة العسكر على الساحة السياسية وسعى في حل القضية الكردية سعياً جريئاً وجدياً.
ولكن، إثر نجاحاته هذه كلها، ازدادت قسوة مواقفه وتفاقم القمع. ومثل هذا الجنوح نحو القمع متوقع في الدول الديموقراطية التي تزيد فيها مدة حكم المسؤول عن ثلاث دورات انتخابية، كما يقول الباحثون في الاجتماعيات والسياسة. فدعمُ الشارع للحاكم طوال ولايات متتالية يمنحه الانطباع بأنه الأفضل وبأنه «منزَّه» عن أخطاء غيره، وأن في إمكانه أن يستأثر بالحكم والقرار من غير مشاورة أحد في أي موضوع.

وهذا «التشخيص» يطابق حال أردوغان الذي «راكم» الأعداء السياسيين عوض أن يقلصهم في العقد الماضي، وصارت مواقفه المتشددة تهدد عملية كتابة دستور جديد للبلاد، بسبب إصراره على أن ينفرد وحزبه بالرأي في كثير من القضايا، وهو يرفض مناقشة رأي المعارضة أو محاورتها، ويلوح باللجوء إلى صناديق الاقتراع والاستفتاءات، ويخلط بين دعم المواطنين سياساته الاقتصادية وسياسات الحزب الواحد من أجل الاستقرار السياسي من جهة، وبين افتراض تأييد الأتراك كل ما يقوله (أردوغان) ولو كان يتناول الدستور أو تخطيط المدن أو حتى تغيير مناهج التعليم.

مظاهرات ضد الحكومة في اسطنبول في 5 يونيو حزيران 2013. Getty images  أ ف ب
"هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها التركي العادي غير المسيَّس إلى الشارع خروجاً عفوياً ليحتج ويتظاهر، وهو أمر خطير وليس بالبساطة التي يزعمها بعضهم. وحريّ بالحكومة أن تُقوِّم أداءها وتسأل نفسها أين أخطأت، فيما لا تخفى الأبعاد الاجتماعية والسياسية للحوادث الأخيرة"، كما يرى طه أكيول.

​​

دروس "ربيع اسطنبول"

لا ريب في أن أردوغان ضاق بمواقف المعارضة وتعدد الآراء، وفي حسبانه أن انفراده بالرأي يختصر الوقت، لأنه في النهاية سيختار الأفضل للشعب ولتركيا... والدليل أنه «يحصد» على الدوام أصوات الناخبين. هذا منطق قاصر، فالغالبية العددية لحزب ما في البرلمان لا تعني أن ينفرد بالقرار السياسي والشؤون الحياتية، كما لا تعفيه من واجب الاستماع إلى الآخرين والأخذ بمشورتهم، والسعي إلى إقناعهم بواسطة الحوار.

ولا ريب في أن تصريحات نائب رئيس الوزراء ورئيس بلدية إسطنبول في محلها، وهي تبشر بخير. ولكن، وهذا مدعاة أسف، لم نسمع مثل هذا الكلام من أردوغان، وهو أمر مقلق. فرئيس الوزراء يبدو متمسكاً برأيه، كأنه لم يأخذ عبرة مما حصل.

وحريٌّ به أن يدرك أن قمع المحتجين زادهم غضباً وساهم في رفع عددهم في الشارع، وأن يلاحظ أن الأمور عادت إلى مجاريها حين انسحبت قوات الأمن من ساحة تقسيم.

تحمل الحوادث الأخيرة دروساً لا يستهان بها، على أردوغان استخلاص نتائجها، وإلا عليه ربما أن يعزف عن مشروع الترشح لرئاسة الجمهورية في المستقبل القريب.

 

 

طه أكيول
حقوق النشر: الحياة اللندنية 2013

طه أكيول كاتب في صحيفة «حريات» التركية، 3/6/2013، إعداد يوسف الشريف.