الثقافات الإعلامية وتحديات العولمة

ما هي نتائج المنافسة بين الفضائيات الغربية والعربية؟ يقدم أوليفر هان أستاذ الصحافة في جامعة دورتموند الألمانية تحليلا للوضع الحالي ويقترح تعاونا إعلاميا وثيقا متعدد الثقافات

الصورة: إريش بروست هاوس
أوليفر هان

​​

في حقبة تتميز بالتطور المطرد للعولمة – وخاصة إثر العمليات الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول في أميركا وما تبعها من حروب شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد ما سمي بالدول الأوغاد – راحت اللقاءات بين الثقافات الإعلامية العربية والغربية تتكرر بصفة أكثر فأكثر تكاثفا.

وتقود هذه اللقاءات إلى تحولات هيكلية في مجال الاتصالات في وقت الأزمات لدى وسائل الإعلام العالمية وبصفة خاصة لدى القنوات الفضائية العابرة للحدود. وداخل الصراع الاقتصادي على الأنباء غدت المحطات التلفزيونية الغربية المهيمنة على السوق تشهد مزاحمة تزداد كل يوم تطورا من طرف القنوات التلفزيونية العربية الجديدة مثل "الجزيرة" (الدوحة/قطر) وقناة "أبو ظبي" التابعة لمجموعة Emirates Media (أبو ظبي/ الإمارات العربية المتحدة)، و "العربية" وCNBC Arabiya التابعة للسلسلة الإعلامية الأميركية Cable Broadcasting Company ( وكلاهما في دبي بالإمارات العربية المتحدة).

وقد اتضحت قدرات تطورهم للكثير من القنوات التلفزيونية الغربية منذ فترة سابقة على حرب العراق لسنة2003 فمضت تبعا لذلك في عقد أواصر تعامل معها. ففي ألمانيا تتعامل قناة الـZDF مثلا مع الجزيرة و القناة التلفزيونية "الدويتشة فيلله" مع قناة "أبو ظبي". بينما يجري التفكير حاليا لدى القناة الأولى ARD في ربط صلات تعامل مع "العربية".

هل ينجر عن هذا اللقاء بين الثقافات الإعلامية الغربية والعربية إلى جانب التحولات الهيكلية على مستوى سوق الإعلام تحسنا نوعيا أيضا على طرق الاتصال في وقت الأزمات؟ وهذا السؤال يطرح نفسه على مستوى الصحافة العالمية كما على مستوى العلاقات السياسية الدولية أيضا.

الإخراج الدرامي في التلفزيون

إن "النقل المتواصل لدى القنوات الجديدة العربية منها والغربية يلتزم كليا تقريبا بنقل مباشر وآني لأحداث غدت بحكم شمولية العولمة تكتسي أهمية كونية، ويوحي للمستهلك عن طريق هذا النقل بقرب جسدي وتفاعل نفسي مع أحداث وخطابات تقع في الواقع في مناطق بعيدة عنه.

ويعمل الحشو التعبيري في شكل صور وأشرطة صوتية مكرِّرة وكذلك التسمية الغرافيكية التي تظهر على الشاشة على تدعيم الانطباع بالقرب الدائم من الحدث والتفاعل النفسي المباشر معه. داخل هذه الجمالية التلفزيونية القائمة على الإخراج الدرامي في مجال اتصال الأزمات لدى الوسائل الإعلامية الجديدة العربية والغربية منها على حد السواء تنسرب أشكال استعراضية قادمة من مجال الأنباء الرياضية وكذلك من أساليب أفلام الأكشن التي تحتفي كثيرا بالمفاعيل التقنية.

وقبيل بدء الاجتياح الأميركي للعراق في سنة 2003 على سبيل المثال كانت أغلب القنوات التلفزيونية تعرض على مستهلكي الإعلام شريطا إعلانيا متواصلا على نحو درامي وضربا من تقرير العد التنازلي المثير.

حرب تلفزيونية باردة؟

وبالمقابل هناك فوارق ذات دلالة تتجلى في الزوايا المختلفة التي تتناول منها النزاعات القائمة في الشرقين الأدنى والأوسط من طرف المحطات التلفزيزنية الغربية المهيمنة على السوق من جهة وقنوات الإعلام التلفزيوني العربية الجديدة من جهة ثانية. وهو أمر لا يخفيه كلا الجانبين، بل يوظفه كل من جهته لصالح دعايته الخاصة:

في حرب العراق سنة 2003 كانت قناة الجزيرة تسعى لكسب ود المشاهدين وهي تعدهم بالتركيز على المواقع التي تسقط فيها قنابل الأميركيين، بينما كانت السي آن آن تركز فقط على المواقع التي تقذف منها القنابل. إن المزاحمة على معدلات إقبال المشاهدين تروّج لزاوية نظر الضحية وتشهّر بتلفزيونات المعتدي.

هل يهدد هذا الأمر بحرب باردة بين الثقافات الإعلامية الغربية والأخرى العربية التي ترمي كل من جهتها بجذورها في ثقافات مشاهديها الخاصين؟

وهكذا فإن استعمال وترويج الأخبار القادمة بالأساس من وسائل إعلام من الثقافات والفضاءات اللغوية الأجنبية وكذلك تصنيفها وتعيير قيمتها تفترض معرفة دقيقة بالمحيط الذي يفرزها.

لقد غدا معروفا منذ المرحلة الأولى لنشأة البحوث العلمية في ميدان تواصل الثقافات أن الثقافات والحضارات تنحو إلى التمايز في ما يخص أنظمة التواصل الخاصة بكل منها، لكنها في الآن ذاته ما فتئت تتصل وتحتك ببعضها البعض.

إن السياقات الثقافية المحيطة وأنظمة التواصل تحدد لوسائل الإعلام إطارالشروط المحددة لاشتغالها. وبالتالي فإن المحطات التلفزيونية الغربية والمحطات العربية الجديدة لا تشتغل داخل فضاءات ثقافية مغلقة ومنعزلة، بل داخل محيطاتها الثقافية الخاصة وفي ظل أنظمة التواصل الخاصة بمشاهديها.

وعلى هذا الأساس تنشأ الرؤى المتباعدة في التقارير الصحفية التي تتناول نفس النزاعات في منطقة الشرق الأدنى والشرق الأوسط. وإن موضوعية النقل الإعلامي التي ينادي بها كلا الطرفين لا يمكن تثمينها إذن إلاّ من خلال خلفية الإطار الحاضن لدى كل منهما. هذا النوع من موضوعية النقل الإعلامي هو ما يسميه العلماء الأخصائيون بموضوعية السياق.

قتل هادف أم جريمة قتل؟

أما إذا ما دخلت موضوعيات سياقية مختلفة في مواجهة صدامية مع بعضها فإن ذلك يكون مؤشرا على اعتمال تعطلات ثقافية في التواصل الثقافي. وغالبا ما يعود سبب ذلك إلى ترجمات مغلوطة للمعادلات اللفظية في لغة الأنباء بين الثقافات الغربية والعربية.

في التقارير الإعلامية الخاصة بالشرق الأوسط تستعمل قناة "الجزيرة" لتسمية مرتكبي العمليات الانتحارية من الفلسطينيين مثلا نفس العبارة العربية التي يسمى به من يقع ضحية في قتال حربي؛ أي "شهيد " و "شهداء" بما يعني أن "متوفيا " يساوي "شهيدا". هذا المصطلح سيفهم في العالم الغربي كتعبير عن انحياز إلى الطرف الفلسطيني.

وفي المقابل تتبنى السي آن آن على سبيل المثال في أغلب الأحيان عبارات مراوغة متحدرة من القاموس العسكري لتعبر عن عمليات الاغتيالات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد عناصر إرهابية محتملة بـ‚target Killing’ ("قتل هادف") عوضا عن تسميتها بصفة صحيحة بـ’Assassination’ (جريمة قتل).

وإضافة إلى ذلك هناك تعطلات في نسق التواصل الثقافي تنتج عن مواقع انخرام في التواصل على مستوى العلاقات الدولية. إن مثل هذا المأزق التواصلي هو التعبير الثقافي عن السلطة التي يمارسها كل طرف على ظاهرة الإرهاب العالمي الغامض الملامح. فما يعتبره هذا الطرف إرهابا يمكن أن يسمى لدى الطرف المقابل نضالا تحرريا. وما يسمى لدى العديد من وسائل الإعلام الغربية، وبصفة أدق الولايات المتحدة الأميركية ب"مكافحة الإرهاب" يعبر عنه في التقارير الإعلامية لبعض وسائل الإعلام العربية بـ"الحرب الأميريكية ضد الإرهاب المزعوم".

وقد سمي الاجتياح الأميركي للعراق سنة 2003 ‚War of Liberation’ (حرب تحرير) من طرف العديد من وسائل الإعلام الغربية، وبالمقابل دعتها بعض وسائل الإعلام العربية بـ’War of occupation’ (حرب احتلال).

عولمة أم تعاون إعلامي متعدد الثقافات

في إطار "العولمة" (رولاند روبرتسون)، أو بتعبير آخر في إطار استراتيجية التلاؤم التي تسعى إليها المؤسسات الإعلامية التي تشتغل على مستوى أسواق الترويج الجهوية والمحلية، تحاول محطات إعلامية تلفزيونية جديدة عربية وغربية على حد السواء بلوغ جمهور إضافي من المشاهدين خارج نطاق فضائها اللغوي والثقافي الخاص. ولكي تتوصل إلى تحقيق هدف مضاعفة أرباحها تريد إضافة إلى برامجها التلفزيونية المنتشرة على نطاق عالمي باللغة العربية أو الإنكليزية أن تسوق للطرف المقابل محتويات إعلامية بلغته الخاصة.

وتريد كل من السي آن آن وقناة الجزيرة على سبيل المثال أن تكسب جمهورا إضافيا من المشاهدين خارج نطاق فضائها الللغوي والثقافي. فالجزيرة تعرض منذ ربيع سنة 2003 موقع إنترنت باللغة الإنكليزية أيضا كان قد تعرض لفترة من الزمن أثناء الحرب العراقية لحملات تشويش من طرف قراصنة معلاماتيون أميركيون من المناصرين للحرب.

وتنوي الجزيرة حسب تصريحاتها الخاصة أن تتوصل قبل سنة 2005 إلى إنجاز بث برنامج تلفزيوني باللغة الإنكليزية. وفي المقابل تفيد أنباء إعلامية بأن السي آن آن لديها الآن مشروع جاهز لبرنامج تلفزيوني باللغة العربية. وحاليا تعرض خدمات الارتباط الإلكتروني لمحطة السي آن آن صفحات إنترنت باللغة العربية.

هناك استراتيجية ثانية وتتمثل في التعاون الإعلامي متعدد الانتماء الثقافي على مستوى المؤسسات أو على المستوى الفردي. فعلى مستوى المؤسسات يمكن لمؤسستين إعلاميتين على الأقل من أصلين ثقافيين ولغويين مختلفين أن تؤسسا فرعا إعلاميا تابعا ينشط على مستوى عابر للحدود وذا بنية تحتية مختلطة. وتعرض هذه المؤسسة الإعلامية الفرعية لمشاهديها في محتوياتها الإعلامية ما يسمى بـ"regard croisé": "النظرة المتقاطعة".

وعلى غرار مثال المحطة التلفزيونية الثقافية الألمانية الفرنسية ARTE فإن تأسيس قناة تلفزيونية عربية أوروبية عابرة للحدود سيكون أمرا مستحبا للغاية، إلا انه يعتبر حاليا، وبحكم تغاير الأوضاع والتناقضات الهيكلية الكبيرة، أمرا غير واقعي للأسف.

تعاون عربي-ألماني

ومع ذلك فإنه على الأوساط الإعلامية العربية الجديدة والغربية أن تمر أخيرا من التفهم إلى المفاوضة التي تتجاوز مستوى تبادل التجارب أو المواد الإعلامية كما هو الحال بين "الجزيرة" والقناة الألمانية ZDF. لهذا الغرض فإن تعاونا مصغرا يطرح نفسه:

تعاون على المستوى الفردي؛ أي بين العاملين في حقل الإعلام. وإن المقترحات التالية قابلة للتحقيق وجديرة بالتفكير على أية حال:

لم لا يقع الربط بصفة وثيقة بين صحافيين، بل وأهم من ذلك بين مخرجي أفلام وثائقية من كلا المحيطين الإعلاميين داخل هيأة مشتركة وتمكينهم من إنجاز برامج مشتركة؟ لم لا تحدث جائزة ألمانية عربية للعاملين في الحقل الإعلامي؟ لم لا يتم تكوين صحافيين شبان بصفة مشتركة، ودعم تبادل متطوعين ومتربصين وعناصر للتكوين بين ألمانيا، بل وأوروبا عامة والبلدان العربية ضمن إطار جمعية أو حتى اتحاد مهني مشترك؟ لم لا يتم تأسيس مجلس إعلامي ألماني عربي يقوم أعضاؤه على غرار "حكماء إعلاميين" بتقديم توصيات لضمان نوعية جيدة لاتصال الأزمات، ويعرض برنامج مساعدات توجيهية لتفادي حالات سوء التفاهم بين ثقافات التواصل والإعلام المختلفة؟

بإمكان الحوار الإعلامي العربي الألماني أن يعطي دفعات باتجاه هذا النوع من الرؤى الإعلامية المستقبلية. وهو ما يفعله حاليا: فأثناء هذا الملتقى تعمل القناة التلفزية الألمانية المتجهة إلى الخارج "دويتشة فيلله" DW TV بالاشتراك مع شريكتها قناة أبو ظبي على إنتاج البرنامج الريادي الذي يحمل عنوان "Dialogue: East-West" ("الحوار الشرقي الغربي") والذي يعد سلسلة من المحادثات التلفزيونية المبرمجة لخريف سنة 2004 وتعتزم القناتان بثه حسب مواقيت غير متزامنة. أما بداية بث البرنامج الريادي فقد أعلن عنه لنهاية شهر مايو 2004. وإلى جانب ذلك تجري على هامش هذه الندوة مفاهمات بين قناتي ARTE و"العربية" حول تبادل محتمل للأفلام الوثائقية.

بقلم أوليفر هان
ترجمة علي مصباح

© أوليفر هان

أوليفر هان أستاذ الصحافة في جامعة دورتموند والنص محاضرة ألقاها أثناء الملتقى الإعلامي الألماني العربي الذي عقد في شهر مايو/أيار الماضي في أبو ظبي