هل أوروبا حلم مشترك؟

شهدت تركيا خلال السنوات الأخيرة انفتاحا سياسيا واجتماعيا ملحوظا ويمكننا الحديث اليوم عن مناخ ديموقراطي يربط بين المواطنين ذوي التفكير الديني أو العلماني. تحليل الباحثة في العلوم الاجتماعية نيلوفر غوله.

نيلوفر غوله، الصورة: CADIS
نيلوفر غوله: الجدل حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي يصب في عملية دمقرطة الدولة.

​​

كون مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قد بدأت في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول على عكس ما كان متوقعا أمر يشكل خطوة هامة، لكنه لا يعني وصول الجدل إلى حد النهاية. لكن هذا الجدل لن يدور على مستوى الجهاز التنفيذي للاتحاد في بروكسيل بل على الأصعدة القومية.

وقد أصبح فهم فكرة أوروبا الديموقراطية في هذه الأثناء قائما على القناعة بوجوب إنشاء أوروبا من القاعدة وبموافقة السكان أنفسهم. ونتيجة لذلك تطلب الأمر طرح قضايا مثل البت في الدستور الأوروبي أو في انضمام تركيا إلى الاتحاد على شعوب دول الاتحاد الأوروبي مباشرة.

وينشط على نحو خاص خصوم الانضمام عبر ترتيب الاستفتاءات الشعبية عاقدين الأمل في أن يكون قرار أغلبية سكان أوروبا بعد عشرة أعوام مطابقا لقناعتهم.

لكن هذه الأعوام العشرة تشكل من وجهة نظر الأتراك فترة زمنية كافية بغية تحقيق التغييرات الاجتماعية الضرورية. فبعض المثقفين يزعمون بأن تركيا ستحقق قدرا كافيا من الاستقرار الديموقراطي مما سيقلل كثيرا من درجة رفض طلب تركيا للانضمام.

بذلك تكون "الفرصة الأوروبية" التي خلقت حوافز هذا التغيير قد حققت أغراضها. قد تكون هذه الفكرة مغالية في التفاؤل، لكنها تعكس أيضا ثقة المثقفين الأتراك في ديناميكية عمليات التحول التي بدأت تأخذ مفعولها في بلدهم.

عامل مساعد للتحول

أجبرت هذه الفرصة الأوروبية تركيا على إعطاء تعريف جديد لمفهوم المواطنة الجمهوري. هذا وتستند الإيديولوجية الجمهورية للدولة القومية التركية على عامودين هما العلمنة المفروضة على المجتمع فرضا والقومية المبنية على فكرة انصهار الأقليات.

لكن الدمقرطة تعني الانتقال إلى العلمنة على قاعدة الاتفاق وليس بناء على وقوع ضغط من سلطات الدولة والجهاز العسكري. والملاحظ بالفعل أن تركيا شهدت في العقود الأخيرة انهيارا "للجدار القائم" على الرغم من تواصل النزاعات بين المتطرفين الدينيين والطبقة العلمانية المهيمنة على الدولة.

المقصود بالجدار الحدود التي كانت قائمة بين الطبقات الوسطى والعليا من سكان المدن المتعلمين وذوي النزعة الغربية وبين الطبقات البسيطة والوسطى من السكان المتدينين النازحين من مدن واقعة في الأناضول.

وقد جعل وجود ميكانيكية كبيرة للتحول الاجتماعي الكثيرين من أفراد تلك الطبقات البسيطة قادرين على النهوض بأنفسهم إلى مرتبة اجتماعية أعلى. هذا أدى إلى خلق اتصال مباشر بين الشرائح المجتمعية والتوجهات الثقافية المختلفة.

من خلال هذا الاتصال الذي لم يتحقق إلا برفقة نزاعات حادة أصبح كل من الطرفين الاجتماعيين أي الإسلامي والعلماني يتعاطى مع الطرف الآخر وهذا عمد إلى الحد من هيمنة التيار العلماني السائد. هذه العملية تنطلق من وجود مناخ ديموقراطي يربط بين المواطنين ذوي التفكير الديني أو العلماني مما يجعل كلا الطرفين على استعداد للتخلي عن أرضية القناعة بحيازة الحق المطلق.

تطور المجتمع المدني

على هذه القاعدة أصبح بالإمكان على حزب العدالة والتنمية المتسم بنزعة إسلامية معتدلة أن يصل في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 إلى سدة الحكم. في نفس الوقت مكّن هذا التطور تعبئة المجتمع المدني لغرض الدفاع عن حقوق الإنسان وتكريس الإصلاحات المرتبطة برغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وقد انعكس هذا التطور بصورة مجموعة من القرارات الصادرة عن البرلمان التركي انصبت في تكييف النظام القانوني التركي مع معايير الاتحاد الأوروبي. من الخطوات الهامة في هذا السياق إلغاء عقوبة الإعدام في أغسطس/آب 2002، بذلك تكون تركيا أول دولة مسلمة تتخذ هذا القرار.

ولم تتخذ تركيا القرار المذكور لمجرد هدف التكيّف مع القانون الأوروبي فحسب، علما بأن الحكم بالإعدام على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان كان معلقا في ذلك الحين. فالذين وقفوا ضد أحكام الإعدام أرادوا من خلال ذلك أيضا اتخاذ موقف ضد القوميين نظرا لأن قرار إلغاء الحكم بالإعدام تضمن اعترافا ولو غير مباشر بحقوق الأقلية الكردية.

قضية إبادة الأرمن

من التابوات الأخرى للتيار القومي التركي بالإضافة إلى التيار الإسلامي والقضية الكردية مصير الأرمن. ففي هذا المجال أيضا نشط عدد كبير من المثقفين وعلماء التاريخ ، على الرغم من شدة الضغوط وإجراءات التهديد والتخويف.

وقد بدأ النقاش يحتدم اليوم في صفوف أوساط واسعة من الناس حول المصطلح الأكثر دقة لتلك الوقائع سواء لقب ذلك بالتشريد أو التطهير العرقي أو بالمذابح أو القتل الجماعي.

ولا شك أن الإقرار أخيرا في عقد مؤتمر حول القضية الأرمنية في اسطمبول أواخر شهر سبتمبر/أيلول يشكل في حد ذاته تحولا بالغ الأهمية، علما بأن أن عدة أحكام كانت قد صدرت قبل ذلك عن المحاكم بمنع عقد ذلك المؤتمر. فهذا الأمر يكرس نجاح جهود جماعية في التحرر من نهج النقاش المفروض عليها من الدولة وفي إرغام أصحاب التيارات القومية التركية على مواجهة وقائع ماضيهم.

ليس المقصود هنا إظهار صورة لمجتمع خال من المشاكل بل الهدف هو التأكيد على أن المجتمع التركي ما زال في بداية الطريق نحو تحديد ومناقشة المشاكل التي كانت في الماضي عرضة للإهمال والإنكار والنسيان.

هذا الأمر يسري أيضا على النزاع الدائر حول حقوق المرأة وعلى أعمال القتل تحت شعار رد الشرف والاعتبار. فالمنظمات النسوية تتطرق إلى هذه الجوانب السلبية وتطالب في مناقشات علنية تعديل القوانين المعنية في هذا السياق.

هذا النهج في تسييس مواضيع لم تكن محل طرح في السابق وإبرازها في إطار تعددية الآراء داخل المجتمع يشكل قاعدة لبنية تتسم بالديموقراطية، مما يجعلنا نعتبره بالتالي نهجا "أوروبيا".

الماضي أم المستقبل؟

من المدهش أن تظهر اليوم في تركيا في وقت يتحقق فيه الاقتراب من معيار "المقدرة على تعاطي الديموقراطية" أيضا حجج مناوئة للانضمام .

ومن مدعاة الدهشة الفائقة لدى الجناح الديموقراطي المؤيد لأوروبا أن هذه الحجج المطروحة بلهجة حادة بل حتى عدوانية تلقى صدى إيجابيا. هذا ولم يبدأ النقاش التركي "الداخلي" حول الانضمام إلا في المرحلة التي تلت أداء تركيا للواجبات المفروضة عليها بما في ذلك إزالة العراقيل التي كانت تعترض طريقها نحو أوروبا.

السؤال عما إذا الأمر يستوجب ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أم لا خلق مشاعر الخوف باحتمال فقدان ما هو تقليدي وقوى ساعد الرغبة في الحفاظ على الحدود الراهنة. فاستخدمت حجج متصلة بالمعطيات الجغرافية والتقاليد الدينية والتاريخ ومفاهيم المدنية بهدف التشديد على وجود فروق لا يمكن تخطيها في العلاقة بين الحضارتين ولتوجيه النقاش الدائر حول طلب تركيا بالانضمام نحو اتجاه جديد.

وفي أغلب الحالات يتم تصوير أوروبا على أنها وحدة نابعة من الماضي المشترك والقيم الثقافية المشتركة أكثر من كونها مشروعا يختص بالمستقبل. وهذا الأمر يلاحظه المرء خاصة لدى دول لم تكن منتمية إلى صلب حركة الوحدة الأوروبية مثل أسبانيا والبرتغال واليونان.

أما تركيا التي لا يعتبر فيها الانتماء الأوروبي جزءا أصيلا لا يتجزأ من تراثها التاريخي فهي تتبنى هذا الانتماء من أرضية الاختيار وتعتبر ذلك مشروعا سياسيا وفرصة مواتية لخلق إطار سياسي يعطي تعريفا جديدا للقواسم المشتركة ولنقاط الاختلاف على حد سواء.

أما في رؤية الدول الأوروبية فيبدو أنه لا توجد فروق بين الانتماء الأوروبي والمشروع الأوروبي. حيث ترى هذه الدول في الاتحاد الأوروبي ما يعني الصيغة الختامية المتكاملة للانتماء الأوروبي المتضمن التبعية للدين المسيحي.

على ضوء هذه القاعدة يتضح ترشيح تركيا للعضوية وكأنه يشكل تهديدا لأوروبا وتصعيدا للقلق السائد بشأن الحفاظ على الانتماء والحدود. لكن هناك "حلما مشتركا" أصبح مستهدفا من خلال التشبث المتزايد بالهوية الأوروبية. بذلك يلوح وكأن الثراء الذي يتسم به التراث الأوروبي موجه ضده شخصيا وضد الأفكار الأوروبية والقيم المبنية على فكرة الانتماء العالمي.

بقلم نيلوفر غيله
ترحمة عارف حجاج
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005
صدر المقال في جريدة نويه تسورشر تسايتونغ

نيلوفر غوله باحثة في العلوم الاجتماعية تركية الأصل مقيمة حاليا في باريس.

قنطرة

ملف تركيا والاتحاد الأوربي
يخيم على النقاش حول القيم الحضارية والإسلام مرارا وتكرارا السؤال ، فيما إذا كانت تركيا تابعة للاتحاد الأوروبي أم لا

الهوية الإسلاموية
نيلوفر غوله، الباحثة الاجتماعية التركية الأصل، تحلل التغيرات التي تشهدها هوية المسلمين حاليا وتقول إن ظاهرة الحجاب هو أبرز دليل على الاحتكاك بالحداثة وليس العكس