العملية السياسية في مصر....شيء من الخوف وكثير من القلق

يطرح الإعلامي والأكاديمي المعروف حسن نافعة في هذه المقالة تساؤلات عن الطريق الذي تسلكه مصر بعد سقوط مبارك والمخاوف التي أخذت تنتاب المصريين إزاء مستقبل بلادهم، مشددا على أن النهج السياسي الحالي سيؤدي حتما إلى إجهاض الثورة المصرية.

الكاتب، الكاتبة : Hassan Nafaa



"هى مصر رايحة على فين؟": سؤال وجدته يتردد على كل الألسنة ويُطرح فى كل الأمكنة وكأنه لم يعد هناك سؤال غيره يستحق أن ننشغل به جميعاً طوال هذا الصيف. ولا جدال فى أن الإلحاح على طرحه على هذا النحو يعكس، وبوضوح تام، شيوع حالة من القلق الجماعى، ومن عدم اليقين، وربما من الخوف من المستقبل، لذا أظن أنه سؤال يستحق أن نتوقف عنده اليوم بالشرح والتحليل، لعلنا نتعرف على أسباب الحالة التى تعيشها مصر فى تلك الأيام ونتلمس معا سبل تجاوزها أو الخروج من مأزقها. وفى تقديرى أن لهذه الحالة ثلاثة أسباب رئيسية:


السبب الأول: يتعلق بغموض مفهوم المرحلة الانتقالية وعدم وضوح نطاق المدة الزمنية التى ستستغرقها، فقد تسبب هذا الغموض، الذى يشك البعض فى أنه متعمد، فى شيوع إحساس عام بأن المجلس العسكرى يماطل فى تسليم السلطة، إلى درجة أن البعض أصبح على قناعة تامة بأنه لن يتخلى عنها مطلقا!


السبب الثانى: يتعلق بتباين النهج المستخدم فى إدارة هذه المرحلة من جانب الطرف الممسك بزمام السلطة، أى المجلس العسكرى، مقارنة بالنهج المتوقع أو المأمول من جانب القوى الشعبية التى فجرت الثورة أو التفت حولها بعد اندلاعها، فقد تسبب هذا التباين فى ظهور فجوة بين الأداء الرسمى والطموح الشعبى راحت تتسع باطراد. السبب الثالث: يتعلق بالأداء الهزيل لنخبة سياسية يفترض أن تعبر عن القوى صاحبة المصلحة فى التغيير عقب نجاح الثورة فى الإطاحة برأس النظام، وتفجر الخلافات بينها حول شكل النظام السياسى الذى يتعين أن يحل محل النظام الذى سقط رأسه وسبل بنائه، فقد تسببت هذه الخلافات فى تشويه صورة الثورة لدى الرأى العام، وفى شل قدرتها على إحداث التغيير المطلوب، والحيلولة دون تمكينها من تحقيق كامل أهدافها حتى الآن.

ملاحظات ووقفات

ولأن المقام لا يتسع هنا لتحليل مفصل، نكتفى بسرد الملاحظات السريعة التالية:


الصورة د ب ا
"اعتمد المجلس العسكرى فى إدارة هذه المرحلة منهجاً إصلاحياً يقوم على تغيير متدرج فى أضيق الحدود، والتضحية برأس النظام وبرموزه الأساسية، ولكن مع الإبقاء على أسسه وسياساته وتوجهاته الرئيسية دون تغيير جوهرى"

​​الملاحظة الأولى: تتعلق بمفهوم المرحلة الانتقالية وبمدتها الزمنية المفترضة، فمن المعروف أن المجلس العسكرى كان قد أعلن عقب توليه مقاليد السلطة رسميا فى 11 فبراير أنه ينوى إعادة تسليمها إلى مؤسسات منتخبة ديمقراطيا خلال فترة زمنية لن تتجاوز ستة أشهر. وقد انقضت الآن سبعة أشهر دون أن يحدث أى تقدم حقيقى على هذا الطريق، بل دون أن تجرى انتخابات من أى نوع. ومن المتوقع، وفقاً للقواعد المعمول بها حالياً، أن تبدأ الإجراءات الخاصة بالانتخابات البرلمانية فى نهاية الشهر الحالى، وأن تنتهى بحلول منتصف شهر ديسمبر القادم. وسيتعين على الأعضاء المنتخبين فى البرلمان الجديد حال قيامه اختيار لجنة من مائة عضو، خلال فترة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ انعقاده، لوضع دستور جديد للبلاد، يتعين أن تنتهى من صياغته تمهيداً لطرحه للاستفتاء خلال فترة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ الإعلان عن تشكيلها. وإذا سارت الأمور على هذا النحو المرسوم يتوقع أن يتم إقرار الدستور الجديد بحلول نهاية عام 2012.

عصام شرف
"المجلس العسكرى لايزال يتعامل مع حكومة شرف بنفس الطريقة التى كان يتعامل بها الرئيس المخلوع مع الحكومات السابقة"

​​لكن المشكلة، التى قد تثير جدلاً حاداً بين مختلف القوى السياسية فى مرحلة لاحقة، تكمن فى خلو الإعلان الدستورى بصيغته الراهنة من نص يلزم المجلس العسكرى بتاريخ معين أو مهلة محددة لإجراء الانتخابات الرئاسية. وفى هذه الحالة سيكون أمام المجلس العسكرى الاختيار بين بديلين لا ثالث لهما، الأول: إجراء الانتخابات الرئاسية قبل الانتهاء من صياغة الدستور الجديد. والثانى: إرجاء هذه الانتخابات إلى ما بعد دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ. ولأن البديل الأول سوف يفضى حتماً إلى تعقيدات سياسية ودستورية، ليس أقلها إجراء انتخابات رئاسية قبل الاستقرار على شكل النظام الجديد وما إذا كان رئاسيا أم برلمانيا، فمن المتوقع أن يكون البديل الثانى هو الأرجح. وإذا صح هذا الاستنتاج فمعنى ذلك أن مصر ستظل بلا رئيس منتخب حتى نهاية مارس عام 2013، وتكون المرحلة الانتقالية قد استغرقت أربعة أضعاف الفترة التى كان المجلس قد حددها لنفسه فى البداية، وسيكون على مصر فى هذه الحالة أن ترضخ للحكم العسكرى لفترة إضافية لن تنتهى قبل عام ونصف من الآن! وهو ما يشكل أحد أهم أسباب القلق الذى يشعر به المصريون حاليا.


الملاحظة الثانية: تتعلق بالمنهج المستخدم فى إدارة المرحلة الانتقالية، فقد اعتمد المجلس العسكرى فى إدارة هذه المرحلة منهجاً إصلاحياً يقوم على تغيير متدرج فى أضيق الحدود، والتضحية برأس النظام وبرموزه الأساسية، ولكن مع الإبقاء على أسسه وسياساته وتوجهاته الرئيسية دون تغيير جوهرى. ولأن الثورة رفعت شعار إسقاط النظام، برموزه وسياساته وتوجهاته الداخلية والخارجية، وعدم الاكتفاء بإسقاط رأسه، فقد كان من الطبيعى أن تحدث فجوة، راحت تتسع باستمرار، بين طموح الثوار والواقع الذى فرضه المجلس العسكرى، وهو ما يفسر عودة المظاهرات "المليونية" إلى ميدان التحرير. دليلنا على ذلك أن المجلس العسكرى قاوم المطالب الخاصة بتغيير وزارة أحمد شفيق التى كان الرئيس المخلوع قد كلفها قبل رحيله، وقبل على مضض تعيين عصام شرف رئيسا للوزراء، وأصر على الاحتفاظ فى وزارته الأولى بأكبر عدد من وزراء النظام القديم، مهدرا بذلك وقتا طويلا قبل أن يسلم بضرورة إجراء تغييرات تحظى بقبول جزئى من جانب الرأى العام. ثم تكرر النهج نفسه مع حركتى المحافظين الأولى والثانية، فى إشارة لا تخطئها العين على أن المجلس يعتمد نفس المعايير القديمة فى تعيين المحافظين.

هكذا ضاع وقت ثمين كان يمكن توظيفه بشكل أفضل للدفع فى اتجاه التغيير المطلوب بقدر أقل من الخسائر، فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن العلاقة بين المجلس العسكرى والحكومة لاتزال غير منضبطة، ولا تتناسب مطلقا مع المفهوم الصحيح لحكومة انتقالية يقع على عاتقها أخطر مهمة سياسية فى تاريخ الحركة الوطنية، ألا وهى القيام بعملية نقل سلمى منظم للبلاد من حالة الشرعية الثورية إلى حالة الشرعية الدستورية، لأدركنا حجم وأسباب ما يشعر به الرأى العام من قلق فى هذه الأيام. فالمجلس العسكرى لايزال يتعامل مع حكومة شرف بنفس الطريقة التى كان يتعامل بها الرئيس المخلوع مع الحكومات السابقة، وفى غياب برلمان يراقب أداء السلطة التنفيذية فى هذه المرحلة. لذا بدت العودة إلى ميدان التحرير كبديل وحيد متاح لممارسة شكل ما من أشكال الرقابة والضغط على السلطة التنفيدية بجناحيها.


العلم المصري
" في غياب برلمان يراقب أداء السلطة التنفيذية فى هذه المرحلة. لذا بدت العودة إلى ميدان التحرير كبديل وحيد متاح لممارسة شكل ما من أشكال الرقابة والضغط على السلطة التنفيدية بجناحيها"

​​الملاحظة الثالثة: تتعلق بتشرذم القوى صاحبة المصلحة فى التغيير، فالقوى التى وحدتها كراهية النظام القديم، تفرقت بمجرد نجاحها فى إسقاط رأس هذا النظام، ولم تتمكن من المحافظة على تماسكها حتى إسقاط ما تبقى منه والاتفاق على القواعد الأساسية لبناء النظام الجديد. ولا جدال فى أن النهج الإصلاحى الذى اعتمده المجلس العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية لعب دورا فى تعميق هذا الانقسام، والذى بدأ مع تشكيل لجنة لتعديل الدستور، بدلا من هيئة تأسيسية لصياغة دستور جديد، وتصاعد مع الاستفتاء وما جرى فيه من توظيف مكثف للدين، إلى أن وصل إلى ذروته باحتدام الجدل حول الدستور أم الانتخابات أولاً.

ورغم الجهود العديدة التى تبذل لتجاوز هذا الجدل العقيم إلا أنها لاتزال متعثرة حتى الآن، فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن نجاح الثورة فى إسقاط رأس النظام أحدث انقلابا فى مواقف وتوجهات النخب والرموز التى ارتبطت به، خاصة الإعلامية منها والفكرية، ودفعها للدخول إلى ساحة المزايدة على الثورة والثوار، لأدركنا حجم وخطورة الخلط الذى حدث فى الأوراق وأدى إلى خلق حالة ضبابية تعذر معها التمييز بين القوى صاحبة المصلحة فى التغيير الحقيقى وقوى الثورة المضادة. ولا جدال فى أن هذا الوضع ساعد على إحداث الكثير من البلبلة لدى الرأى العام، وأطلق العنان لاتهامات غير مسؤولة، بالتخوين تارة وبالتكفير تارة أخرى، ومهد الطريق نحو استقطاب خطر بين القوى التى تنتمى إلى تيار الإسلام السياسى والقوى الأخرى، وكان من بين أكثر المصادر إثارة للقلق على الثورة والبلبلة لدى قطاعات واسعة من الرأى العام.

لكل ما تقدم، يبدو لى أن إدارة المرحلة الانتقالية، التى من المتوقع أن تطول بأكثر بكثير مما كان مقدرا لها، بنفس النهج المستخدم حتى الآن، سوف تؤدى حتما ليس فقط إلى إجهاض الثورة وإنما إلى ظهور أزمات كبرى جديدة قد تستعصى على الحل، لذا تبدو الحاجة ماسة إلى إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية بطريقة مختلفة تماما.

 

حسن نافعة

حقوق النشر: المصري اليوم 2011

 

الدكتور حسن السيد نافعة هو الرئيس السابق لقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ويعمل أستاذًا بها منذ العام 1978.