مصر ''الجديدة''.....المواطنة بدلاً من الطائفية

تقدم التحولات الدراماتيكية في العالم العربي فرصة تاريخية لإرساء أساس قانوني جديد للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في البلدان العربية، لا سيما في مصر، مثلما يرى لؤي المدهون في تعليقه التالي.

الكاتبة ، الكاتب: لؤي المدهون

 

بكثير من الإعجاب والتعاطف تابع الناس في العالم كله كيف قامت الحركة الشبابية الديمقراطية العربية التي تحلت بالشجاعة والإخلاص بإزاحة النظام الفاسد المستبد في تونس ومصر. وكان مما لفت الأنظار في هذه الحشود الجماهيرية الأكبر في التاريخ المعاصر للشعوب العربية ما تميز به معظم المتظاهرين في تونس والقاهرة، غير المسيسين في معظم الإحيان، من سلميةٍ وصبرٍ وإصرار. هذا العناد المثير للإعجاب أجبر طاغية تونس المستمر في الحكم منذ عقود على الفرار إلى المنفى السعودي، وبعد مرور ثمانية عشر يوماً وجد زميله المستبد، الرئيس المصري "الأبدي" حسني مبارك، نفسه مجبراً على الرحيل.

لقد حدثَ في مصر - تلك "الدولة الراسخة" الأهم من الناحية الجيوسياسية في الشرق الأوسط والأكبر بين البلدان العربية - شيء تاريخي: بهتافات مثل "الشعب يريد إسقاط النظام" " و"سلمية، سلمية" و"من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية" و"الدين لله والوطن للجميع" احتفل المصريون بتحريرهم من وصاية الدولة القامعة، واستطاعوا بذلك أن يرسوا أساساً لنشأة مصر جديدة، وربما لتأسيس نظام عالمي جديد.

الدستور أولاً، ثم الانتخابات

الصورة د ب ا
""فرصة كتابة قواعد دستورية لا يمكن تغييرها تمنح حماية خاصة للحقوق الأساسية لكل المصريين والمصريات"ة للحقوق الأساسية لكل المصريين والمصريات

​​

بالطبع يجب في البداية على الحركة الديمقراطية الفتية التي تجمع تيارات عديدة أن تجد طريقاً للتعامل مع الميراث الثقيل الذي خلّفه الحكم المستبد الذي دفع البلاد إلى هوة البؤس والفقر. ولكن بجانب التحديات الاقتصادية، لا سيما مكافحة الفقر والفساد والرشوة والبطالة المتزايدة في هذه الفترة العصيبة من فترات الثورة، ينبغي على الحركة الديمقراطية أن تقوم بمهمة تشمل البلاد كلها، وأعني هنا التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وإرساء أساس قانوني لهذه العلاقة، وفي الحالة المثالية أن يتم ذلك في إطار دستور مدني يتم صياغته من قبل مجلس النواب وبمشاركة كافة القوى والجماعات في المجتمع المصري.

ويتمتع هذا الموضوع بأهمية مركزية بالنسبة لمستقبل مصر، لأن الفرصة المتاحة الآن فرصة فريدة وتاريخية؛ فرصة كتابة قواعد دستورية لا يمكن تغييرها تمنح حماية خاصة للحقوق الأساسية لكل المصريين والمصريات. هذا هو السبب الذي يجعل الحركة الديمقراطية تكافح الآن وبكل قواها من أجل عدم إجراء الانتخبات البرلمانية في خريف هذا العام، أي قبل إصدار دستور جديد. هذا الرأي يتبناه أيضاً محمد البرادعي الحاصل على جائزة نوبل للسلام. البرادعي الذي يقول إن الانتخابات البرلمانية يجب أن تُجرى بعد كتابة دستور جديد ديمقراطي. وبرأي البرادعي فإن القانون الأساسي في ألمانيا يتضمن كافة الحقوق الأساسية، مثل حرية الرأي وحرية ممارسة العقيدة الدينية، ولذلك يضيف: "إنني أرحب بشيء مماثل في مصر، لأن هذا أمر سيرضي الجميع، ولن يشعر أحد بالقلق من أن تسير البلاد في هذا الاتجاه أو ذاك."

النظام القديم كان يضرم نيران الصراعات الطائفية

الصورة د ب ا
"التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي تتيح فرصة تاريخية لإرساء أساس قانوني جديد للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في البلدان العربية، لا سيما في مصر"

​​

إن هذا الاتفاق المفاجئ بين أطراف الحركة الديمقراطية الشابة حول ضرورة وضع نظام أساسي ديمقراطي ليبرالي يُعتبر في المقام الأول تعبيراً عن نشوء وعي جديد في مصر؛ ويمكن القول تحديداً إن حقوق الإنسان الفرد، وكذلك "حقوق الآخرين"، قد اكتسبت قيمة جديدة، وهو ما يعني قطيعة تاريخية مع السرديات الإيديولوجية السائدة في الشرق الأوسط. هذا شيء غير معتاد ويثير الاستغراب في الوقت نفسه، إذا أخذنا بعين الاعتبار كيف كانت الأجواء في مصر مشحونة بعد الاعتداء على كنيسة قبطية في الإسكندرية ليلة رأس السنة الذي أودى بحياة عديدين.

لقد أصبحنا الآن نعرف أن نظام مبارك – ككل النظم العربية الظالمة – كان يشعل نيران الصراعات الطائفية، ليس هذا فحسب، بل كان يثير المخاوف المبالغ فيها من "استيلاء الإسلاميين المتطرفين على السلطة"، لكي يصور نفسه في الغرب كـ"منقذ" وضامن للاستقرار. استراتيجية الفتنة الدنيئة هذه وصلت إلى ذروتها عندما تكاثرت الشواهد والأدلة بعد "ثورة 25 يناير" التي تشير إلى أن الاعتداء الدموي على كنيسة القديسين في الإسكندرية لم يقم به إسلامويون مسلحون، بل قامت بتخطيطه وتنفيذه مجموعة من الضباط ومجموعة من الإسلاميين المتطرفين من ذوي السوابق، وأن الذي كوّن هذه المجموعة هو وزير الداخلية المصري الأسبق شخصياً لكي تقوم بأعمال تخريبية في كافة أرجاء البلاد.

الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية

التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي تتيح فرصة تاريخية لإرساء أساس قانوني جديد للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في البلدان العربية، لا سيما في مصر. بسقوط نظام مبارك المتسلط انتهى القمع الذي كانت تتعرض له تيارات سياسية ودينية عديدة. والآن تحاول القوى السياسية، بما فيها القوى الإسلامية، المشاركة الفعالة في الحياة السياسية. هذا ما يفعله السلفيون خصوصاً الذي انتهزوا فرصة ضعف الدولة لينشروا الخوف والرعب في شوارع القاهرة. هذه القوى السلفية هي أيضاً المسؤولة عن الاعتداءات الأخيرة التي شهدتها كنائس في القاهرة. ولكن علينا ألا نغالي في تقييم مثل هذه الأحداث، لأن مَن قام بها هم من القوى المتطرفة الراديكالية التي فقدت أهميتها وأصبحت قوى هامشية بعد قيام المواطنين المصريين بالثورة. وبالنسبة للكثير من المثقفين والناشطين الديمقراطيين في مصر فإن محور الاهتمام الآن في هذه المرحلة التاريخية، مرحلة "الثورة الناقصة"، هو الدستور الجديد.

إذا نجح المصريون في تنظيم العلاقة بين نظام حكم مدني جديد وبين أتباع مختلف الطوائف بحيث تنتشر روح التحرير في كافة ربوع البلاد، تلك الروح التي شهدناها في الميدان الذي جمع بين المسلمين والمسيحيين في مصر، حيث وقفوا جنباً إلى جنب ليتظاهروا سلمياً من أجل حياة جديرة بالكرامة الإنسانية – إذا حدثَ ذلك، فعندئذ يمكن لهذه الأمة العظيمة ذات التاريخ الثقافي العريق أن تأمل في مستقبل أفضل وأن تكتسب أهمية جديدة في العالم العربي – كوطن لكافة المواطنين، وكنموذج لدولة القانون الحديثة.

 

لؤي المدهون
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011