المبادرات الشعبية والثقافية وجوه ما بعد الثورة الليبية

لا تشاهد حتى الآن أية معالم تدل على وجود الدولة في العاصمة الليبية طرابلس، لذلك يهتم وجهاؤها بحفظ النظام فيها. كما أسَّس بعض الشباب المتحمِّسين في طرابلس صحفًا جديدة هدفها تعليم الشباب وتثقيفهم. فيرنر دي إنكا يسلِّط الضوء على بعض هذه المبادرات الشعبية في ليبيا.

الكاتبة ، الكاتب: Werner D'Inka



يعدّ الشيخ علي الصادق عزوز رجلاً مهمًا في العاصمة الليبية طرابلس، وحتى إنه أهم رجل في منطقة المنصورة بصفته رئيس مجلسها المحلي ومسؤولاً كبيرًا هناك ولدوره في تسوية النزاعات، ليس بسبب انتخابه لتولي هذه المهام بل لأنَّ هذا من طبيعته. إذ إنَّ الناس في حي المنصورة يثقون بالإمام الذي يحافظ مع أمثاله حاليًا على سير الحياة العامة في العاصمة الليبية. فعلى الرغم من عدم وجود الدولة ومؤسَّساتها إلاَّ أنَّ الحياة تسير في طرابلس.

وعندما تغيب الشرطة عن طرابلس يقف في الشوارع مسلحو ميليشيات يرتدون ملابس عسكرية غريبة ويلوِّحون بأيديهم للسيَّارات. ورغم أنَّ عملهم هذا لا يحسِّن كثيرًا من صورة هذه المدينة، إلاَّ أنَّ سائقي السيَّارات يتعاملون معهم بهدوء. يظهر رجال الشيخ علي بعد تعطل شاحنات جمع القمامة لعدة أسابيع ويبدؤون العمل. يتعاون الناس الآن داخل أحياء العاصمة الليبية طرابلس التي تضم سبعة عشر حيًا يبلغ عدد سكَّانها نحو مليون ونصف المليون نسمة. وتشاهد على الجدران عبارات من بينها مثلاً "يا شباب ليبيا حافظوا على الممتلكات الخاصة والعامة" أو "أوقفوا إطلاق الرصاص في الهواء فهو خطير ويصيب الأطفال بصدمات نفسية". تولى أفراد من المجتمع تسيير شؤون المدينة، ومن الجدير بالملاحظة أنَّهم ينجحون في إنجاز الكثير.

الحنين إلى الحياة العادية

صحافة ليبية
آمال كبيرة بتغير المشهد الثقافي والإعلامي في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي

​​والشيخ علي عزوز يعلم من دون ريب أنَّ هذه الإدارة الذاتية يجب أن تنتهي في يوم ما، ويقول "الجميع هنا لديهم مهنهم وأسرهم وواجباتهم الخاصة ونحن جميعنا لدينا حنين إلى الحياة الطبيعية، وسنرجع بكلِّ سرور إلى بيوتنا فورما تعود الدولة". ولكنه حتى ذلك الحين يحاول قدر الإمكان الحفاظ على الحياة في حي المنصورة، فمَنْ لديه خلاف مع جاره هناك يذهب إلى الشيخ علي الذي يستمع للجميع ويقول كلمة صواب يسمعها الجميع. ويقول الشيخ علي إنَّ ليبيا الآن لا تحتاج الانتقام بل الثقة والمصالحة. وكثيرًا ما ترد كلمة المصالحة أيضًا لدى هيئة تحرير صحيفة "ليبيا الجديدة" الأسبوعية التي يقول رئيس تحريرها محمود المصراتي إنَّ برنامجها يشمل "كلَّ شيء من شأنه أن يساعد ليبيا".

ويقول المصراتي إنَّ هناك حاجة ماسة إلى الحصول على معلومات موثوقة حول قضايا الحياة اليومية مثل قضايا الأمن والغذاء وحتى ما يتعلق بتطوير البنى السياسية، بالإضافة إلى كشف الحقائق حول الطاغية المخلوع معمر القذافي. وإنَّ هذه الصحيفة مفتوحة للجميع، ولكن لا مكان فيها للذين "تلطَّخت أيديهم بالدماء أو امتلأت جيوبهم بالمال". وعلاوة على ذلك يسعى القائمون على صحيفة ليبيا الجديدة إلى سماع أكبر عدد ممكن من الأصوات وهذا يؤدِّي حسب تعبيرهم إلى تحقيق المصالحة. ويقول أحد المحرِّرين المسؤولين: "من حقِّنا جميعًا الآن وبعد إثنين وأربعين عامًا من النظام الدكتاتوري أن يكون لنا رأينا الخاص. لكن ما يزال يجب علينا أن نتعلَّم قبول الرأي الآخر". ويقول الناشر فيصل السويحلي إنَّ الصحيفة قد تلقت عروضًا من ثلاث مجموعات سياسية تعهَّدت بتقديم المساعدات المالية للصحيفة مقابل الدعم الإعلامي. ويضيف أنَّهم يريدون البقاء مستقلين وتكوين قوة مضادة للصحف التي يتم تمويلها من قبل المجلس الوطني الانتقالي.

الحاجة إلى ثقافة القراءة

الصورة د ب ا
رغم سقوط نظام القذافي إلا ان مخاوف الاقتتال الداخلي ماتزال قائمة

​​

تم تأسيس صحيفة "ليبيا الجديدة" في شهر أيلول/سبتمبر الماضي من قبل فيصل السويحلي وأسامة سويد. وعمل السويحلي قبل ذلك مندوبًا لشركات أجنبية في ليبيا، وأمَّا أسامة سويد فقد عاد في بداية الثورة عبر تونس إلى ليبيا. وهما يعرفان بعضهما من أيَّام وجودهما في لندن، حيث كانا هناك جارين لعدة أعوام. وأسَّسا في تونس أثناء الثورة ضدّ نظام معمر القذافي موقع "ليبيا الجديدة"، وقد كسبا إلى جانبهما الصحفي محمود المصراتي المعروف في كلِّ أنحاء ليبيا والذي هرب من البلاد في عهد معمر القذافي وتم وضع اسمه على قائمة الإعدام. أصبح هذا الموقع أثناء الثورة واحدًا من أهم مصادر المعلومات في ليبيا.

ويقول أسامة سويد عن سبب تأسيسهم صحيفة ورقية وعدم تأسيسهم موقع على الانترنت: "نحن نريد جعل الشباب في ليبيا يعتادون أيضًا على قراءة الصحف، لأنَّ لدينا حاجة إلى ثقافة القراءة". تبدو الأشياء الصعبة في كلِّ أنحاء العالم شبه مستحيلة في ليبيا؛ إذ إنَّ قراءة الصحف التي كان يديرها النظام في عهد القذافي كانت تعدّ مضيعة للوقت لأنَّها كانت مملة للغاية. ولهذا السبب لم يعد هناك تقريبًا مَنْ يقرأ الصحف. وفي الواقع يريد السويحلي وسويد تمويل صحيفة "ليبيا الجديدة" إلى أن تصبح قادرة على تمويل نفسها بنفسها. تم توزيع أوَّل ثلاثة أعداد من هذه الصحيفة مجانًا، والآن يدفع القرَّاء ثمنها نصف دينار ليبي، أي ما يعادل ثلاثين سنتًا أوروبيًا.

تنشر في الصحيفة بعض الإعلانات التي ما تزال إيراداتها قليلة جدًا ولا تكفي لتغطية التكاليف، لا سيما وأنَّ طبعتها الحالية لن تزيد عن خمسة آلاف نسخة وذلك بسبب عدم قدرة المطبعة على طبع نسخ أكثر. ولكن على أية حال لقد استلم المحرّورن العاملون فيها رواتبهم للمرَّة الأولى في بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر. وهذه الصحيفة بحاجة إلى أشياء كثيرة، إلى صحفيين جيّدين ومطابع وموزِّعين. توجد في طرابلس مطبعة واحدة فقط يمكن استخدامها إلى حدّ ما في طباعة الجرائد، وهي ملك الحكومة الانتقالية، كما أنَّها تحتاج من أجل طباعة خمسة آلاف نسخة من صحيفة "عروس البحر" حسب قول رئيس تحريرها ومالكها فتحي بن عيسى يومين كاملين. وتتمكَّن صحيفة "ليبيا الجديدة" بمجهود كبير وعناء من إيصال بضع مئات من نسخها في كلِّ أسبوع إلى بنغازي ومصراتة وإلى جنوب البلاد.

"وجوه الثورة الليبية"

مجلة الليبي
عودة جديدة للصحافة الليبية ولكن هناك مخاوف من "الطابور الخامس" لإفساد الحياة السياسية الجديدة

​​يبدو أنَّ تأسيس صحيفة في ليبيا في هذا الوقت وفي ظلِّ هذه الظروف عمل متهوِّر، ولكن مع ذلك لقد أقدم على فعله كلّ من السويحلي وسويد بالإضافة إلى بن عيسى وكذلك أيضًا إبراهيم شيباني الذي أسَّس قبل ذلك في عهد القذافي وكالة إعلانات كانت تعمل لصالح شركات من بينها شركة بروكتر آند غامبل وكسب من ذلك العمل مالاً كثيرًا وضعه الآن في مجلته "الليبي". حاول إبراهيم شيباني في عهد النظام القديم الحصول طيلة ثلاثة أعوام على ترخيص لمجلة تهتم بأسلوب الحياة، ولكن محاولاته باءت بالفشل. ويقول شيباني إنَّه لم يتردَّد في افتتاح مجلة سياسية، إذ كان يبدو له أثناء الثورة أنَّ تأسيس مجلة تهتم بالموضة يعتبر عملاً طائشًا. ومن أجل ذلك اجتمعت حوله في طرابلس وبنغازي مجموعة من الأصدقاء الذين تطوَّعوا للعمل في هذه المجلة وما يزالوا يعملون فيها من دون أجر حتى يومنا هذا.

وكذلك سيتم قريبًا نشر طبعة باللغة الإنكليزية من مجلة الليبي "The Libyan". يقول شيباني "قريبًا سيعود الأجانب إلى طرابلس ونحن نقوم بإعداد طبعة باللغة الإنجليزية من أجلهم". يعمل شيباني بجدّ ونشاط على خطة إعلانية، وزملاؤه في هيئة التحرير يعدّون خططًا لموضوعات غير شائعة بالضرورة في ليبيا. ومن المفترض أن يتم في شهر آذار/مارس إصدار طبعة خاصة اختارها القرَّاء لتعرض "وجوه الثورة". ويفترض كذلك أَلاَّ يتصدَّر هذا العدد شخص واحد فقط، بل سيسلَّط فيه الضوء على نحو ثلاثين أو أربعين ثائرًا ليبيًا. وعن ذلك يقول الشيباني: "هذه الثورة لم يصنعها شخص واحد فقط، بل لقد صنعناها جميعنا".

ولكن حتى الآن ما يزال شكل هذا العدد غير مؤكَّد، فهناك خوف ملحوظ من احتمال وجود "طابور خامس" تابع للنظام القديم يختبئ إلى حين تمكّنه في وقت ما من الهجوم؛ بالإضافة إلى أنَّ المعارك بين المسلحين قد تجدَّدت في طرابلس في الأيَّام القليلة الماضية بعد بضعة أسابيع من الهدوء. شارك بعض هؤلاء المسلحين في إخراج القذافي من طرابلس، وفي وقت لاحق جاء مسلحون آخرون إلى العاصمة "ليكونوا ببساطة هنا" مثلما يقول فيصل السويحلي، أو لكي لا يفوتهم أي شيء عند توزيع الوظائف. وحاليًا تعتبر عملية إقناعهم بتسليم أسلحتهم وبالعودة إلى مدنهم من أهم القضايا الملحة التي يتعيَّن على الحكومة الانتقالية الإسراع بها. ويقول السويحلي إنَّ "معظم المسلحين من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر عامًا وخمسة وعشرين عامًا والذين شاهدوا أنَّ بإمكانهم مع وجود السلاح بأيديهم تغيير بلد ما تغييرًا تامًا. ما يزال يجب عليهم تعلّم الحياة الطبيعية" وقراءة الصحف.

 

فيرنر دي إنكا
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: صحيفة فرانكفورتر الغماينة/قنطرة 2011