تجديد الفكر الديني في الإسلام

محمد إقبال الشاعر الكبير والمفكر المسلم الهندي يعد أحد المفكرين الطلائعيين للصحوة الإسلامية ومرشدا لحركة التجديد في الثقافة الإسلامية. والآن قد صدر مؤلفه الرئيسي "تجديد الفكر الديني في الإسلام" باللغة الألمانية، مراجعة لودفيغ أمان.

محمد إقبال، الصورة: www.allamiqbal.com
محمد إقبال: ينبغي تجديد الفكر الديني في الإسلام للتغلب على "التحجر الذهني".

​​محمد إقبال الشاعر الكبير والمفكر المسلم الهندي(1877-1938) من مواليد سيالكوت في باكستان الحالية، يعد أحد المفكرين الطلائعيين للصحوة الإسلامية ومرشدا لحركة التجديد في الثقافة الإسلامية. والآن قد صدر مؤلفه الرئيسي "تجديد الفكر الديني في الإسلام" باللغة الألمانية، مراجعة لودفيغ أمان.

سبع محاضرات حول مواضيع دينية ودنيوية متنوعة كان قد ألقاها باللغة الإنكليزية سنة 1928 بجامعات مادرس وحيدراباد وميزور عقب سنوات دراسته في لاهور وكامبريدج وميونخ.

"لقد صرفت أغلب أوقات حياتي في دراسة الفلسفة الغربية. وغدت رؤية هذه الفلسفة شيئا مألوفا لدي الآن. وعن وعي، و عن لاوعي أيضا، أخضع وقائع الإسلام إلى التحليل من زاوية نظر هذه الفلسفة. وكان من نتيجة ذلك أنني قد لاحظت في العديد من المرات أنني لا أستطيع التعبير عن هذه الإشكاليات بلغة الأوردو." عبارات أفصح مما يمكن أن تقوله مجلدات بأكملها!

لا غرابة إذن أن يكون هذا الكتاب سهل القراءة بالنسبة للغربيين: إنها رؤيتنا الغربية للإسلام هذه التي يحمل محمد إقبال تأثيراتها العميقة لغةً ومفهوما وطريقة تفكير. إلا أن وضوحه النادر ودقته والديناميكية الحية لآليات تفكيره تطغى بكل تأكيد على هذه التأثيرات.

هذا الفكر ليس مجرد شهادة عتيقة على حقبة زمنية قد تجاوزتها الأحداث منذ زمن طويل، بل إنه مايزال يمثل مغامرة ذهنية من درجة أولى. ويعود الفضل في ذلك كليا إلى صاحبه كرجل قد استطاع أن يلم بصفة واثقة بمعارف متأتية من تقاليد فكرية متنوعة؛ من ابن عربي وفخر الدين الرازي إلى أنشتاين وبرغسون وفرويد.

احترام العلوم الحديثة

وفيما يتعلق بمسألة تفوق الغرب على المشرق فإنه يرى إلى ذلك مثله مثل العديد من مفكري جيله كنتيجة لتوالي قرون عديدة من "التحجر الذهني" للإسلام. لذلك ينبغي تجديد الفكر الديني حسب رأيه:

"إن المهمة المطروحة على المسلم المعاصر ذات حجم لامتناه. عليه أن يعيد التفكير في مجمل النظام الإسلامي دون أن يقطع كليا مع الماضي". وإحدى الشروط الأساسية في عملية التجديد هي تناول العلوم الحديثة تناولا نقديا: "إن الطريق الوحيدة التي ما تزال مفتوحة أمامنا تتمثل في التعامل مع العلوم الحديثة باحترام لكن بموقف مستقل مع ذلك، وتقدير التعاليم الإسلامية على ضوء ما تمنحه هذه العلوم من إنارات."

معادلة قد تمت صياغتها عن وعي بمثل هذا التوازن. ومع ذلك فكثيرا ما يقع التغاضي عن كون محمد إقبال قد دعا حرفيا إلى ضرورة التزام الموقف المستقل:

"ليس هناك من شعب يستطيع أن يسمح لنفسه بالتنكر كليا إلى ماضيه، ذلك أن ماضيه هو الذي شكل معالم شخصيته. وفي مجتمع كالمجتمع الإسلامي تغدو مراجعة المؤسسات القديمة أمرا أكثر دقة وتعقيدا، ويكتسي الوعي بالمسؤولية لدى المصلح هنا أهمية قصوى."

لم يتحول محمد إقبال من خلال دراسته للمفكرين الغربيين إلى أوروبي متنصل من الدين. إن التأثر بالغرب لم يبلغ هذا الحد لدى إقبال، وهكذا فإن المرجع في ما يتعلق بالمسائل الروحية يظل قائما دوما على مقولة النور القادم من الشرق.

وعندما يدعو إقبال إلى إعادة بناء الفكر الديني فإنه يعني ما يقوله- ولذلك هو يقيم معادلة متوازنة بين مسلكين برهانيين متوازيين. هناك من ناحية عمل على تسويغ تقبّل العلوم الحديثة، أو العلوم الطبيعية بصفة أدق. وهو ما يتوفق إليه عن طريق إقامة الدليل على أصولها الإسلامية:

إن الطابع الميداني التجريبي الذي يميز القرآن قد شجع المسلمين على أن يصبحوا مؤسسي العلوم الحديثة، ويعدّ ميلاد الإسلام بالنسبة إليه مرادفا لمولد العقل الاستقرائي، وهو ما يمثل ثورة ذهنية على الفلسفة النظرية اليونانية، وقد تم استيعاب المنهج التجريبي للعرب وتطويره من طرف أوروبا في ما بعد.

النظرة الشمولية للدين

إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الجنيالوجيا العلمية المطبوعة بالمركزية الإسلامية الثابتة مقنعة ومدعّمة؛ ذلك هو ما يظل سؤالا مطروحا. إلا أنها قد نجحت على أية حال في أن تتحول إلى فكرة قد وجدت لها رواجا واسعا وصولا إلى مؤلَّف "نقد العقل العربي"(1984-1992) لمحمد عابد الجابري، الذي يحيل الحركية التي عرفتها العلوم في أوروبا على استيعاب الفكر العقلاني الرشدي(نسبة لابن رشد)- بينما ظل العالم الإسلامي منكفئا على الفكر السينوي(ابن سينا)، الأمر الذي جعله يتقوقع في الجمود.

ومن الجهة الثانية يعتبر محمد إقبال التجربة الروحانية الإلهية على نفس المستوى من الواقعية مثل بقية التجارب البشرية؛ وبما أن رؤية العلوم الطبيعية تظل جزئية –"فهي مثل طيور كواسر عديدة تتكالب على الجسد الميت للطبيعة، يتناول كل منها قطعة من اللحم وينصرف"-، فإن الدين بحكم مقدرته التأليفية القائمة على نظرة شمولية لمجمل التجارب الإنسانية الجزئية يتخذ له بالتالي موقعا مركزيا هنا.

إنه وحده الذي يستطيع أن يقيم علاقة حميمية بالحقيقة وذلك في ذلك الموقف الروحاني الذي يدعى "عبادة".

لكن إعادة الحيوية إلى الفكر الديني ليست مسألة مرتبطة باستيعاب العلوم الحديثة فحسب. بل إن النقطة المحورية والمحدِّدة في ذلك تتمثل بالأحرى في تصور ديناميكي للعالم وللإسلام، أو ما يجب أن يعاد اكتشافة من الكنه الحقيقي للإسلام كمقابل ونقيض للمفهوم الاتكالي المضلل لمسألة القضاء والقدر.

ما هو القدر؟

ويصوغ إقبال لهذا الغرض نظرية فقهية قائمة على مبدإ الإبداع المتجدّد: "إن الزمن ككلية عضوية هو ما يعنيه القرآن بعبارة القدر؛ عبارة غالبا ما تم تأويلها على وجه الخطأ سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه.

إن القدر ليس شيئا آخر غير الزمن منظورا إليه في ما قبل انكشاف إمكانياته المتعددة(..) وإن قدر شيء ما ليس قضاء ثابتا متحجرا يفعل فعله من الخارج مثل مربي صارم متعال، بل هو المدى الداخلي لشيء ما ومجمل إمكانياته القابلة للتحقق(...). وإذا ما كان الزمن شيئا واقعيا(...) فإن كل لحظة من لحظات الحياة الواقعية ستكون أصيلة إذن وتتمخض عما هو جديد حقا وغير متوقع سلفا.

وفي القرآن يرد ما معناه أنّ الله له في خلقه في كل يوم شأن جديد. إن الوجود داخل الزمن الواقعي يعني(..) إعادة خلق الزمن في كل لحظة، وأن يكون المبدع حرا حرية مطلقة وأصيلا في خلقه. إن الكون في مجمله عبارة عن حركة إبداع متحررة من كل القيود."

مقولة مصاغة بشكل مذهل! لكن العهود والمواثيق لن تظهر إلا فيما بعد عندما ينتقل إقبال من مجال الفكر اللاهوتي الحر إلى المجال الدقيق للفقه التشريعي، حيث تكون القواعد والأعراف الاجتماعية ومن ورائها القيم المتينة مطروحة للنقاش مع كل كلمة.

الاجتهاد ضرورة

وهنا، ومثله مثل أجيال عديدة من المصلحين المسلمين والمستشرقين، يتمثل إقبال الجهاد "كمبدإ محرك لديناميكية البنية العامة للإسلام." ولكي يتم إيجاد مؤالفة بين عنصري/مقولتي الثبات والتحول يحتاج المجتمع الإسلامي، حسب رأيه إلى مبادئ سرمدية من جهة، بهدف "ترتيب الحياة الاجتماعية داخله، ذلك أن العنصر السرمدي يمنحنا موقع قدم ثابتة داخل عالم التحولات المطردة".

لكن، بما أن المبادئ السرمدية يمكنها أن تتحول إلى معيق عندما يتم فهمها على أنها إقصاء لكل تحول، فإن الاجتهاد يغدو ضرورة كوسيلة لتنشيط الديناميكية. إلى هذا الحد من التوازن تذهب نظرية إقبال! لكن سرعان ما تتهاطل وتتواتر المفاجآت من بعدها مما من شأنه أن يدفع بنا إلى التفكّر:

أن يكرّس محمد إقبال الحركة الوهابية المشطة في التزمت والمحافظة كحركة تحديث تحدوها الروح الحرة للاجتهاد، يعني ذلك النمط السعودي من الإسلام العتيق المتزمت والاستبدادي الذي ما فتئ منذ سنة 1975 يدعم ببترودولاراته حركة أسلمة عالمية معادية لكل تحديث!

مصلح محافظ

يمكن أن يؤخذ هذا الموقف على أنه مجرد سوء تقدير متعجل قد اختلطت عليه الأمور بين الطاقة التحديثية الضمنية الكامنة في الاجتهاد والممارسة التقييدية القصوى التي تمارسها حركات انكفاء دفاعي في بحثها عن أحكام مستقلة عن كل المدارس المذهبية داخل النصوص الأصلية المؤسسة.

لكن المفاجآت ستواصل تهاطلها بصفة متواترة: يتضح أن مساهمة المصلح المسلم الهندي في مشروع النهضة الإسلامية إنما هي "نقد محافظ صحّي يلعب دور مؤسسة مراقبة لظاهرة التوسع الليبرالي داخل العالم الإسلامي." إقبال ليس مصلحا ليبراليا إذن، حتى وإن كنا نحبذ في بلادنا أن نعتبره كذلك؛ إنه مصلح محافظ هاجسه هو ضمان "حدود ملائمة للإصلاحات".

ذلك بالضبط هو ما يميز مشروعه المصاغ بتوازن بالغ الدقة حول "الديمقراطية الروحانية" كبديل عن الديمقراطيات الأوروبية غير الروحانية، وهو ما يمثل في نظره "الهدف الأكبر للإسلام" ومساهمته الخاصة في تقدم الإنسانية.

وعندما يجعل إقبال مسألة الاجتهاد من مشمولات مجلس تشريعي إسلامي فإنه لا يريد من وراء ذلك أن يضمن مساهمة ذوي الرأي من غير رجال الدين فقط في نقاشات المسائل القضائية. بل إن مبتغاه الأكبر من وراء ذلك هو الحرص على تفادي الأخطاء الجسيمة عند سن القوانين- ولذلك يجب أن يمثل علماء الدين "جزء مهما في تركيبة المجلس التشريعي الإسلامي، وأن يقدموا مساهمتهم في النقاشات الحرة حول المسائل القضائية ويتولون إدارة هذه النقاشات وتوجيهها."

ذلك هو في نهاية التحليل ما تطالب به الحركات الإصلاحية الإسلامية المحافظة عندما تقوم بحملتها المناهضة لإقصاء الشريعة الإلهية من عملية وضع التشريعات القضائية. هؤلاء يُنظر إليهم كإسلاميين راديكاليين وأعداء للديمقراطية، لا لشيء إلا لأنهم لا يقبلون بأن يلقى بكل بساطة بالتشريعات الإلهية، المنبوذة والمشوهة هنا لدينا، في مزبلة التاريخ، بل إنهم يراهنون بالمقابل على عملية تحديث تكون قائمة على تكوين قانوني مستمر.

والسيد محمد إقبال هو أيضا "إسلامي" من هذا الصنف. إن فهمنا للحركة النضالية الإسلامية بإمكانها أن تكسب تقدما هائلا لو أننا نتخلص من النظرة الضيقة، وأن نأخذ الفكر الديني، وما هو ديني عامة، مأخذ الجد عوضا عن اختزالها ضمن رؤية أنصار الفكر الوضعي الأوروبي الذين يفتقرون إلى النظرة النقدية ( بل: لا يمتازون بما يكفي من التوثب الذهني ).

بقلم لودفيغ أمّان
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2005

محمد إقبال: "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ترجمه عن الأنكليزية إلى اللغة الألمانية أكسل مونتي و توماس شتيمّر. دار النشر: هنس شيللر.

قنطرة

الإسلام والإصلاح
ما هو الدور الذي يمكن يلعبه الإسلام في إصلاح ودمقرطة المجتمعات الإسلامية؟ نقدم بعض النماذج التي يطرحها مفكرون مسلمون بارزون.