رقص على أنغام السياسة وألحان الواقع

تقوم حاليًا فرقة "مقامات" بجولة أوروبية تعرض خلالها عملها الراقص "اغتيال عمر راجح". وتتميز فرقة الرقص اللبنانية هذه بتقديمها رقصات حديثة طموحة جماليًا وملتزمة سياسيًا. أمين فرزانفر يعرفنا بهذا العمل الفني.

شعار الفرقة، المصدر مقامات
تجمع فرقة "مقامات" بين الدراما المسيَّسة في المقام الأول والأداء الحركي الراقص الرائع

​​ يوم 12 تشرين الثاني/أكتوبر 2005 كان الراقص والكوريوغراف "عمر راجح" بصدد كتابة رسالة إلى "جبران تويني" عندما سمع بخبر اغتيال هذا الصحفي بواسطة سيارة مفخخة أثناء مغادرته لمنزله في بيروت. فجأةً شعَرَ "عمر راجح" بأن الحدث الذي وصله عبر التلفاز قريب جدًا منه.

التساؤلات التي شغلت الفنان عما إذا كان على الفنان اللبناني أن يستجيب لتجربة من هذا النوع وكيف عليه أن يفعل ذلك، دفعته لإعداد العمل الراقص "اغتيال عمر راجح" الذي يعرض في هذه الآونة. أما أن يكون اسم المؤلف جزءًا من عنوان العمل فما هو إلا دلالة على مدى التأثر الشديد بالواقع السياسي، وعلى التصاق الشأن السياسي بالفني في هذا العمل.

سطوة السياسي على الخاص

بيد أن فرقة "مقامات" لا تقدم دراما مسيَّسة في المقام الأول، بل أداءً متعدد المستويات يجمع في ثناياه كل أدوات فن الرقص الحديث. يبدأ "عمر راجح" مرتديًا سترةً رياضيةً زرقاء ماركتها أديداس، ويفرم حبات الفاكهة قطعًا صغيرةً ثم يرميها في خلاط ويضغط زر التشغيل: هذا الفرم الآلي يدفع أفكارًا سيئة للتداعي، رغم أن هذه الحركة ما هي سوى عمل منزلي غير مؤذٍ في الواقع. يلتقط "عمر راجح" بعمله هذا إزدواجيات مثيرة.

مشهد من العمل الفني، الصورة: خاص
عمل "اغتيال عمر راجح" يصارع على كل كلمة ويتصارع مع كل حرف

​​ يتأرجح العمل الراقص بين الحيز السياسي والحيز الخاص، كما يُبين كيف يخترق كليهما الآخر بعنف. على المسرح تجري إزاحة تجهيزات غرفة معيشة مكوّنة من كنبة وثلاث أحواض زرع وحائط عليه مصباح صغير فتتخذ الغرفة أشكالاً جديدة باستمرار، ثم يأخذ الراقصون أماكنهم. يجلسون بصمتٍ لفترة ما، ليلتفوا من ثم على بعضهم البعض ببطء، وليشكلوا في نهاية المطاف مجموعة من الأجساد الملتوية على بعضها البعض على غرار التمثال اليوناني "مجموعة لاوكون"، حيث الأجساد شبه متلاطفة من جهة وشبه متلاطمة من جهة ثانية.

ينفصل بين الفينة والأخرى عن هذه الكتلة أحد الراقصين ليقدم عرضًا منفردًا. كأن يبدأ أحمد غصين بإلقاء... ماذا؟ بإلقاء شيء يشبه الخطاب؟ يبوح أحمد بجُمل مبتورة ينطقها بنبرة متحشرجة تبدو وكأنها عربية لكنها ليست كذلك، بيد أنها ترهق كاهل الفنان لدرجة تضطره معها لتمزيق ملابسه - فتتدلى بذلك قطع السترة الحضارية الممزقة مهلهلة من جسد البربري.

ثمن الكلمة باهظ

يرد في كتيب البرنامج المعد بلغتين الفقرة التالية عن الاغتيال: "هذا فعل يسعى لنفي الكلمات والأصوات والأجساد والقضاء عليها، فعلٌ يقتل التفكير الحر والأمل بالتغيير". كما نجد طيه لائحة طويلة تشمل أسماء الصحفيين اللبنانيين الذين تم اغتيالهم وتضم سيرة حياة كلٍّ منهم وصورًا تؤكد على ما ورد. ويعود تاريخ الاغتيالات إلى أربعينيات القرن العشرين ويمتد إلى بداية الألفية الثالثة وبالتالي إلى اغتيال "سمير قصير" و "جبران تويني". وحدها كلماتهما وجهودهما من أجل حرية الكلمة وحقوق الإنسان ومن أجل مجتمع مدني ديمقراطي تسببت بمقتل هذين الصحفيين.

عمل "اغتيال عمر راجح" يصارع على كل كلمة ويتصارع مع كل حرف. حتى الجسد الراقص لا يستطيع أن يحقق نوعًا من التناغم إلا بعد بذل جهدٍ كبير. رقصة "ميا حبيس" المنفردة تتعقد وتتشابك فيها حركات متنافرة حيث تنفصل فيها أعضاء الجسد الواحد باحثة عن حركة خاصة بها، فيهتز الجسد بحركات مرتعشة وتقلبات وتشنجات مكبوحة. جهود غير مجدية كهذه تبدو كبديل غير كافٍ عن اللغة، لكن أيضًا كدلالة على تقويض التعبير الحر. يصيح أحمد غصين باتجاه زميلته التي ترنو إليه سائلاً: "ميا، ما الذي تريدين قوله لنا؟"

عبارات هشة وحقائق واهية

تنعكس صعوبات التواصل والتفاهم في ديكور خشبة العرض أيضًا، إذ يفصل قماش رقيق جدًا الخشبة عن الجمهور، فيفرض ذلك رؤية للأشياء غير واضحة تمامًا عبر هذه الشاشة التي يتخللها الضوء. تخلق الشاشة نوعًا من المسافة من جهة، لكنها تشيّد أيضًا فضاءً للمراجعة والتفكير من جهةٍ أخرى. كما يضفي الكلام المُسقط عليها عبر مسلاط Projector بعدًا إضافيًا.

​​ حال هذا العمل حال أكثر العروض الفنية العربية المعاصرة، أي أنه يعالج إشكالية العلاقة بين الحقيقة المعاشة عن قرب وتلك الحقيقة "الرسمية"المعروضة عبر وسائل الإعلام. كما يعالج هشاشة كل الروايات ونسبيَّتها وتاريخيَّتها. الناس حساسون إزاء الخطابات الرنانة في لبنان التي تُعتبر ساحة لصراعات بين أيديولوجيات متباينة منذ عقود من الزمن.

بيد أن محاولات من هذا النوع لا تبقى عائمةً في التجريد، فالعمل الراقص مغزول بالمعايشات الخاصة والحكايات، حيث يروي "عمر راجح" مثلاً كيف أن رد فعل جدّته جاء رافضًا لتعلُّمه مهنة الرقص. فرقة "عمر راجح" هي فرقة الرقص اللبنانية الأولى التي مازالت تعاني من عدم اعتبارها رصينة ومن أنها بحاجة لأن تبرر ذاتها. لذا فإن العروض الراقصة ما كان لها أن تتحقق بدون نسج علاقات دولية مكثفة ودعمها بالتمويل الأوروبي.

حراك في مشهد الرقص

تسترشد فرقة "مقامات" التي تأسست في عام 2002 بالمعايير الدولية للرقص الحديث. وهي في ذات الوقت "لبنانية نمطية" بمساعيها التفكيكية-التركيبية وبأسلوبها الذي يجمع بين الشخصي والتحليل التشريحي، والرواية التي تعكس التفكير بالذات، والعمل بعناصر دادائية ومؤثرات تغريبية. وللحق نجد هذه النزعة لدى فناني التجهيز Performance والفيديو والمسرح والسينما المشهورين في لبنان.

تجد أوساط الرقص العربي نفسها راهنًا في حالة انطلاق جديد، حيث عُقد في ربيع 2009 "ملتقى بيروت الدولي للرقص" „BIPOD“ وهو مهرجان ينظمه "عمر راجح" منذ عام 2004، وتجتمع فيه فرق الرقص الجيدة العربية وغير العربية متطلعة إلى التبادل الثقافي إلى جانب تطوير عروض رقص تجريبية مبتكرة.

وقد حقق ذلك نجاحا واضحا للعيان لـ "عمر راجح"، وبعدما قدمت فرقة "مقامات" عروضها في الدارين الألمانيين العريقين "دار الفنانين" "موزونتورم" في فرانكفورت و"دار الرقص إن إر فيه" في دوسلدورف، وسوف تقوم الفرقة بجولة عبر أوروبا تقدم خلالها عروضها التي ستستمر حتى نهاية كانون الثاني/ يناير 2010.

أمين فرزانفر
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق الطبع: قنطرة 2010

قنطرة

فيلم "فلافل":
رحلة الحياة والموت في ليلة بيروتية
يصور فيلم "فلافل" للمخرج اللبناني ميشال كمون والذي حصد عدة جوائز مرموقة،التناقضات التي تعيشها بيروت، حيث يقبل الشباب على الحياة واللذة والمتعة على الرغم من التركة الثقيلة للحرب والمصير المجهول. مخرج الفيلم يتحدث عن تجربته الفنية هذه على هامش مهرجان كان.

مهرجان "بابل ميد ميوزيك":
عرس ثقافي على شواطئ المتوسط
يعد مهرجان الموسيقى العالمية "بابل ميد ميوزيك" رمزا للتحولات السريعة التي تشهدها مدينة مارسيليا الساحلية التي كان يُنظر إليها طويلاً على أنها مدينة مهملة. هذه المدينة من المخطط لها أن تنهض من غفوتها لتغدو عاصمةً ثقافية واقتصادية لمنطقة البحر المتوسط، وذلك في إطار برنامج الدول الأوروبية المتوسطية الذي يرعاه الاتحاد الأوروبي. دافيد زيبرت يطلعنا على هذه التجربة الرائدة.

عابد عازرية:
سفر في الذاكرة الشرقية والموسيقى المعاصرة
موسيقى عابد عازرية تنفتح على موسيقى الشعوب الأخرى في مزيج يجمعها كلّها، بدءا بشريطه الأول المخصص للشعر العربي الحديث، مرورا بشريطه الثاني "كلكامش" العمل التاريخي الأسطوري الذي لا حدود له، والذي استلهم عبره روح شعوب ما بين النهرين موسيقيا من خلال البحث عن الحركات في التماثيل والمنحوتات مركزا على الآلات الموسيقية الشرقية فحسب، وصولا إلى "وجد" الذي ضم قصائد للمتصوفة. . صالح دياب تحدث مع الفنان السوري الأصل المقيم في باريس.