إعلام تونس...انفلات بعد انفتاح ومتراس للمال السياسي؟

رغم مرور سنتين على ثورة الياسمين مازال المشهد الإعلامي في تونس، مع ما يتمتع به من حرية، يعيش حالة من الضبابية والتخبط والفوضى ولم يتخلص بعد من موروثات سنوات القمع والرقابة، وبات المال السياسي يستغل الثورة للتمترس وراء وسائل الإعلام، لكن ساسة تونس وإعلامييها ما زالوا في طور التعلم، وفق استطلاع محمد بن رجب من تونس.

رغم مرور أكثر من سنتين على ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011 في تونس مازال المشهد الإعلامي، ورغم ما يتمتع به من حرية، يعيش حالة من الضبابية والتخبط والفوضى في غياب القوانين المنظمة لهذا القطاع الهام الذي لم يتخلص بعد من آثار سنوات القمع والرقابة في زمن حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

وكثيراً ما عبّرت حكومة الترويكا في تونس عن عدم رضاها عن تعاطي وسائل الإعلام التونسية مع مجمل الأحداث الوطنية، لكن الإعلاميين يرفضون اتهام الحكومة لهم ويدافعون عن أداءهم لعملهم باستقلالية تامة و بعيدا عن الانحياز والاصطفاف.

لكن وإن كانت الثورة التونسية قد أحدثت "ثورة فعلية" على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي فإنّ المؤسسات الإعلامية حافظت على مضمون إعلامي بعيد عن الموضوعية والمهنية، في وقت تحتاج فيه تونس إلى إعلام صادق يراعي إرهاصات الثورة وارتداداتها، في ظل مرحلة انتقال سياسي، ووسط تجاذبات بين الفرقاء السياسيين.

محمود الذوادي رئيس مركز تونس لحرية الصحافة. حقوق الصورة: محمد بن رجب
محمود الذوادي رئيس مركز تونس لحرية الصحافة

​​

مخاض عسير

فثمة "عادات سيئة ورثناها من النظام السابق" في ظل غياب تقاليد لإعلام الرأي، كما يؤكد مدير برنامج بحوث الشرق الأوسط عبدالوهاب بن حفيظ، فقد تعود الصحافيون التونسيون على صحافة الدعاية والتحريض والمجاملة، وصعوبة الانتقال بيسر من وضع "يجامل ويعادي" إلى وضع جديد "لا يجامل و لا يعادي".

لكن بن حفيظ يشير إلى عدم تحميل الإعلام التونسي أكثر مما يحتمل، مشدداً على ضرورة تثمين دوره في عديد القضايا ومؤكدا على أنّ "الجميع يتعلم" بمن فيهم ساسة تونس اليوم.

فالإعلام التونسي، وبعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ما انفك يقدم مردودا كبيرا لم يسبق أن أدّاه في ظل نظام بن علي: فهو ينقل وينقد كل الأحداث، كما تقول نجيبة الحمروني نقيبة الصحافيين التونسيين، معتبرة ذلك مكسبا إيجابيا.

لكن وفي الوقت ذاته تعتبر نجيبة الحمروني أنّ التجاوزات والإخلالات العديدة، التي وصلت إلى حدّ الفوضى، قد حصلت وصبغت المنتوج الإعلامي بصبغة سلبية أحيانا بسبب عدم كفاءة الصحافيين الملتحقين حديثا بالمهنة.

فهم يجهلون عن وعي أو عن غير وعي أبجديات التعاطي مع الشأن السياسي والالتزام بأخلاقيات المهنة.

اعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي

ويؤكد ذلك رئيس مركز تونس لحرية الصحافة محمود الذوادي مبرزا أنّ الإعلام التونسي كغيره من القطاعات، يعيش حالة من الانفلات رغم الإنفتاح الكبير والحرية التي تعيشها تونس بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011.

"فلو تمّ تطبيق القانون حاليا لزُجَّ بنصف الصحفيين في السجن"، كما أنّ مواقع التواصل الإجتماعي على الإنترنت أصبحت أكبر وسيلة إعلامية يعتمد عليها المواطنون عموما، ولأنّ فيسبوك يؤثر على التونسيين فقد أصبح الإعلاميون في القنوات التلفزية والإذاعية يعتمدون في أخبارهم على ما يرد في فيسبوك ودون تأكد من صحتها أحياناً.

جانب من احتجاج صحفييين وتقنيين في سبتمبر/ أيلول 2012 في أقدم دار نشر في تونس (دار الصباح).  ABACAPRESS.COM
احتجّ صحفيون وتقنيون في سبتمبر/ أيلول 2012 في أقدم دار نشر في تونس (دار الصباح)، والتي تُصدِر نسختين صحفيتين: الصباح و Le Temp، متهمين مديرها الجديد، والذي كان مسؤولاً أمنياً في السابق، بالمساومة باستقلالية النسختين العربية والفرنسية للصحيفة.

​​وبالتالي فلم يعد الصحافي التونسي صانعا للحدث الإعلامي وهذا يمثل خطرا على مصداقية وسائل الإعلام لأنها تؤثر على مهنية الصحافي.

من ناحيته يبرز الإعلامي و المنتج التلفزيوني نصر الدين بن حديد أنّ الإعلام التونسي يعيش منذ هروب بن علي حالة من الانفلات، مؤكدا أنّ الإعلام التونسي بعيد عن تناول جدي و حقيقي لمشاغل المواطنين.

ويعزو ذلك إلى تواجد صحافيين تنقصهم الكفاءة ولكنهم يشرفون على تسيير وسائل الإعلام، فالقطاع الإعلامي كما السياسي مازال يتدرب على الحرية والديموقراطية.

غياب الشفافية وظهور الاصطفاف

ويؤكد المنتج التلفزيوني نصر الدين بن حديد على غياب الشفافية والحيادية وظهور الاصطفاف العلني والمفضوح، بمعنى غياب المقاربات المهنية التي تنضبط تحت لواء قواعد ممارسة المهنة الصحفية، فهي نادرة إن لم تكن مفقودة.

ويبين أنّ هناك تجلّيا للبعد الإيديولوجي أو الانتمائي أو الإصطفاف الجهوي أو القبلي في المشهد الإعلامي اليوم.

مظاهرة احتجاجية في تونس ضد خصخصة التلفزة العمومية التونسية. تاريخ الصورة إبريل/ نيسان 2012. DW
مظاهرة احتجاجية في تونس ضد خصخصة التلفزة العمومية التونسية. تاريخ الصورة إبريل/ نيسان 2012.

​​ولم تفعل الثورة إلا تفكيك هرم بن علي أي الإملاء والموالاة والخدمة المدفوعة الأجر وتحويله إلى أهرامات صغيرة تتمثل في امبراطوريات ولوبيات إعلامية قائمة.

وفي هذا غياب للبعد النقابي فنقابة الصحافيين لا تهتمّ بالبعد الأخلاقي للمهنة، بل تحولت إلى حزب سياسي ضمن الأحزاب القائمة في البلاد.

ويُرجعَ بن حديد أسباب الانفلات القائم إلى أنّ الإعلام ومنذ وصول بن علي إلى الحكم عام 1987 وإلى الآن يبدو متأخرا عن الفعل السياسي.

المال السياسي والصحافة الصفراء

الذوادي يشير إلى عودة الصحافة الصفراء بقوة، والتي تُستَعمل لضرب نشطاء حقوق الإنسان، ويؤكد قائلاً:"كنا نعاني من مثل هذه الصحافة في نظام بن علي بقوة الاستبداد والبطش، فتحولت الآن إلى صحافة صفراء تتحكم بها رؤوس الأموال وهذا يمثل خطرا كبيرا وخاصة على مستوى الصحافة المكتوبة".

ويضيف أن الإعلام العمومي (تحت سلطة الدولة) استغل الفوضى الذي كانت عليها البلاد بعد الثورة إلى جانب ضعف السلطة، وأصبح يعمل دون ضغوطات تقريباً، فأفرز ذلك انتخاب مجالس تحرير تعيسة بل أتعس مما كانت عليه الحال زمن نظام بن علي.

ويلعب المال السياسي دورا واضحا في المشهد الإعلامي وهو ما يوضحه نصر الدين بن حديد قائلا : "وسائل الإعلام تبرز كل يوم مثل الفقاعات "مشيراً إلى ظهور مقالات "لا تحترم نفسه "، فقلّما تجد مقالا " يحترم الفعل الأخلاقي والمهنية الصحفية".

طاولة فيسبوك قرب ساحة الحكومة في تونس. 28 يناير/ كانون الثاني 2011. ABACAPRESS.COM
طاولة فيسبوك قرب ساحة الحكومة في تونس. 28 يناير/ كانون الثاني 2011.

​​

ويؤكد بن حديد على ضرورة تطبيق المبادئ التي قامت عليها الثورة في تونس بمعنى التعجيل بالمحاسبة. كما يعتبر أنّ كل الحكومات المتعاقبة بعد هروب بن علي، وحتى الشرعية منها، تبدو شريكة في ما يحصل اليوم بعد الثورة على مستوى الإعلام بعيدا عن قراءة النوايا، لأن هناك نظرة مكيافيلية للإعلام بنوايا ثورية.

ويعمل مركز تونس لحرية الصحافة على تطهير الإعلام الذي ينطلق أساسا من الإعلام العمومي الذي يبقى هشّا وبالتالي يبقى تابعا وغير مستقل.

ويقول الذوادي إلى إنّ المال السياسي يتمترس دوما خلال الثورات وراء وسائل الإعلام. فاليوم تقوم رؤوس الأموال الفاسدة، من أجل الدفاع عن نفسها من أية محاسبة، بضخ الأموال سواء ببعث صحف وقنوات تلفزيونية وإذاعية، أو بدعم وسائل قديمة.

وقد ظهرت في الفترة الأخيرة تجاوزات خطيرة تمثلت في الشتم والسباب والقذف بين رؤوس الأموال بعيداً عن أي احترام للقارئ والمشاهد والمستمع في ظل السلطة الهشة التي تحكم البلاد.

الإعلامي ولمنتج التلفزيوني نصر الدين بن حديد . حقوق الصورة: محمد بن رجب
الإعلامي والمنتج التلفزيوني نصر الدين بن حديد

​​

وشهد المشهد الإعلامي التونسي تطورا عدديا رهيبا وسريعا بعد الثورة دون منظومة تشريعية وهياكل تعديلية تواكب هذا التعدد وتنظم القطاع، وهو ما جعل المال السياسي يستغل ذلك الفراغ ليحولها إلى سوق يضخّ فيها الأموال، ولكن هؤلاء ينسون أنّ في ذلك تبعات خطيرة على البلاد.

وهنا تطالب نقيبة الصحافيين التونسيين بإرساء مجلس الصحافة الذي يتم الاشتغال عليه إلى جانب هيئة تعديلية للإعلام السمعي البصري: "حتى نعلم من يقف وراء كل وسيلة إعلامية ومن هي الجهة التي تقوم بتمويله، حتى يكون التعاطي مع الانتخابات المقبلة التي ستكون هامة لمستقبل تونس موضوعيا ومهنياً".

وكان رأس المال لعب دورا خطيرا في انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 باختلاق إحصائيات لسبر آراء مغلوطة و بعيدة عن الموضوعية. والخوف كل الخوف أن يعاد السيناريو في الانتخابات المقبلة.

صورة تونس في الخارج

وسائل الإعلام تعكس في الواقع المشهد العام في تونس بعد الثورة وعلى الصحافي التونسي أن يتحمل المسؤولية كاملة من خلال نقل صورة حقيقية ودون مساحيق عن الواقع المعيش في البلاد، كما يُبرِز محمود الذوادي.

ويؤكد أنه تمّ نقل صورة سوداء عن تونس موضحا أنّ من حقّ الصحافي أن ينقل الأحداث كما هي في ظل عديد الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة.

في حين ترى الحمروني أن الإعلام التونسي قدّم صورة جيدة عن تونس في الخارج، ولكن هذه الصورة يتم النظر إليها من مواقع مختلفة فيأتي الانعكاس غير متطابق.

وتضيف: "الإعلام صدّر صورة رائعة وثورية عن تونس من خلال الدخول في إضراب يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، وبعثَ برسائل إلى كل العالم تفيد بأن الثورة التونسية لم تكن لحظة اعتباطية و منفلتة، بل هي مسار تصحيحي سليم أكد نجاح ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، رغم انتقادات الساسة التونسيين".

نجيبة الحمروني نقيبة الصحافيين التونسيين. حقوق الصورة: محمد بن رجب
نجيبة الحمروني نقيبة الصحافيين التونسيين

​​أعضاء حكومة الترويكا الحاكمة في تونس انتقدوا في أكثر من مرة تعاطي الإعلام التونسي مع الأحداث الوطنية، مؤكدين تسويقه لصورة خاطئة عن تونس وهو ما أثر على القطاع السياحي فتقلص عدد السياح الفرنسيين مثلا إلى أكثر من النصف.

مستقبل مشرق ولكن ..

مستقبل الإعلام التونسي سيكون مشرق، كما يؤكد الذوادي، لكن التخوف جائز من حكومة قوية ورأس مال قوي يعيد السيطرة على وسائل الإعلام من خلال بوابة الحقوق المهدورة للصحافيين في مختلف وسائل الإعلام.

وبالتالي فبدون إعادة النظر في الوضع المادي للصحافيين يبقى الوضع هشّاً وسهل الاختراق.

في حين يبرز تقرير مركز تونس لحرية الصحافة أنّ شهر فبراير 2013 عرف تصاعداً للانتهاكات في حق الإعلام التونسي، فقد سجلت وحدة رصد الانتهاكات 31 اعتداءً تضرر منه 52 مشتغلا في القطاع الإعلامي.

 

محمد بن رجب
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013