الموسيقى في مواجهة السياسة...دانيل بارينبويم مثالاً!

اِنتقد بشدة السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين دون انحياز، وأثبت الموسيقار دانيال بارينبويم خلال مسيرته الفنية أن الموسيقى تستطيع تجاوز الكثير من الحدود والحواجز، وحقق في إسرائيل وأوروبا نجاحاً منقطع النظير كعازف بيانو وقائد أوركسترا. كورينا كولبه تعرفنا بهذا الموسيقار المبدع.

الكاتبة ، الكاتب: Peter Zimmermann

الموسيقار الأرجنتيني – الإسرائيلي دانيال بارينبويم مشهور بجهوده في تكريس الموسيقى لنشر التسامح والابتعاد عن الأحكام المسبقة والتقريب بين الشعوب والمجتمعات والثقافات المختلفة وبناء جسور التواصل بينها. وهو يُصِرّ على أن يُنْظَر إليه كفنان وليس كسياسي، ويقول أن السياسة لم تجتذبه ولا تثير اهتمامه أبداً، وإنما الإنسان بحد ذاته هو ما يثير اهتمامه.

وُلِدَ دانيال بارينبويم في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس عام 1942. هاجر جده اليهودي في بداية القرن العشرين من روسيا إلى الأرجنتين هرباً من الاضطهاد الذي كان يتعرض له اليهود في روسيا أواخر القرن التاسع عشر.

الموسيقار دانيال بارينبويم ا ب أ
كمواطن إسرائيلي إلى جانب جنسيتيه الأرجنتينية والفلسطينية، يتابع ويهتم دانيال بارينبويم بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي عن كثب، من دون أي ينحاز إلى أي من طرفي الصراع.

​​تعلَّم العزف على البيانو وهو في الخامسة من عمره، وفي السابعة عزَف لأول مرة أمام الجمهور في حفلة عامة. هاجرت عائلته عام 1952 من الأرجنتين إلى إسرائيل، والمرحلة الأولى من مسيرته الفنية الإبداعية كانت في مدينة زالتسبورغ النمساوية، حيث عزف على البيانو موسيقى باخ. بعد ذلك بعامين، بدأ رحلته وتنقله بين عواصم العالم ليعزف موسيقاه على مسارح فيينا وروما وباريس ولندن ونيويورك، ويبهر جمهوره.

مسيرة فنية حافلة بالإبداع

مع قيادته لفرقة لندن السيموفنية عام 1967 بدأ بقيادة كبريات الفرق السيمفونية العالمية، وأصبح بعدها قائداً لفرقة أوركسترا باريس. عام 1981 قاد لأول مرة فرقة موسيقية في مهرجان فاغنَر، الذي يُقَام سنوياً في مدينة بايرويت الألمانية، وأصبح عام 1992 المدير العام لفرقة أوبرا برلين الحكومية.

وبالإضافة إلى ذلك تم تعيينه منذ ديسمبر/ كانون الأول 2011 في منصب المدير الموسيقي لدار أوبرا سكالا في ميلانو الايطالية، والتي تعتبر من أشهر دور الأوبرا في العالم. إلى جانب موسيقى بيتهوفن وشومان وفاغنَر ومالر، يهتم بارينبويم ويعزف الموسيقى المعاصرة أيضاً. فلم يقدِّم في دار أوبرا برلين أعمال بيير بوليز وفولفغانغ ريم وإيزابيله موندري ويورك هولر فقط، وإنما قدم الأوبرا الوحيدة التي ألّفها الموسيقار الأمريكي إليوت كارتَر، الذي توفي عن عمر يناهز الـ 103 أعوام في الخامس من شهر نوفمبر الجاري، أيضاً.

ورغم مهارته القيادية، فإنه يبدّل موقعه من قائد للفرقة إلى عازف للبيانو، حيث قدَّم مؤخراً سلسلة حفلات في دار أوبرا سكالا-ميلانو، ومنها تلك الحفلة التي أقيمت بمناسبة عيد ميلاده السبعين وعزف فيها مع زميله الإيطالي المعروف عالمياً كلاوديو آبادو.

كمواطن إسرائيلي إلى جانب جنسيتيه الأرجنتينية والفلسطينية، يتابع ويهتم دانيال بارينبويم بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي عن كثب، من دون أي ينحاز إلى أي من طرفي الصراع. ففي عام 2004 حين مُنِحَ جائزة فولف للفن، ألقى كلمة أمام الكنيست اقتبس فيها مقاطع من إعلان الاستقلال الإسرائيلي لعام 1948، وانتقد بشدة السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وهو ما سبب حرجاً كبيراً للحكومة الاسرائيلية.

وهو معروف بمواقفه الاستفزازية أيضاً، إذ قدَّم في إسرائيل أعمال الموسيقار الألماني ريشارد فاغنر المتهم بعدائه لليهود والسامية، وهو ما دفع الرئيس الإسرائيلي السابق موشي كاتساف إلى انتقاده لجرحه مشاعر ضحايا الهولوكوست، بحسب كتساف.

لكن ذلك لم يؤثر على بارينبويم، المقتنع بدور الموسيقى في تجاوز الحواجز ونزع بذور الكراهية بين الناس. ونظم عام 1999 مع المفكر الفلسطيني الراحل إدورد سعيد، أول ورشة عمل موسيقية مشتركة بين شبان إسرائيليين وعرب في مدينة فايمر الألمانية، الذين أسسوا فيما بعد فرقة سيمفونية شرق أوسطية أُطلِقَ عليها اسم "ديوان غرب – شرق" تيمناً بعنوان المجموعة الشعرية للشاعر الألماني غوته. وتضم الفرقة موسيقيين من إسرائيل والأردن وسوريا ولبنان ومصر وفلسطينيين.

وإلى جانب العزف تدور بين أعضاء الفرقة نقاشات سياسية أيضاً حول الصراع في الشرق الأوسط. إذ يرى بارينبويم أن "الشيء الأهم هو الحوار المشترك"، بحسب ما جاء في الفيلم الوثائقي "الاعتراف هو البداية"، ويضيف: "لا يعني ذلك أنه يجب قبول موقف الطرف الآخر، لكن الموسيقيين يحصلون من خلال هذه الفرقة على فرصة لتعلم التسامح".

​​

تجاوُز الحواجز والحدود

أما الحفلة التي أقامتها الفرقة في رام الله عام 2005 فكانت المحطة الأبرز في مسيرتها الفنية، إذ سافر أعضاء الفرقة بجوازات سفر إسباينة دبلوماسية إلى الضفة الغربية لإقامة الحفلة، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها الموسيقيون الإسرائيليون إلى الأراضي الفلسطينية، كما لم يسبِق لزملائهم العرب أن سافروا إلى إسرائيل من قبل.

ومن خلال هذه المغامرة والرحلة عرف هؤلاء الشباب كم هو مهم التواصل والتعرف على حياة الناس في الطرف الآخر من الحدود. ويرى بارينبويم أن الفرقة ستحقق هدفها وتؤدي رسالتها حين تستطيع إقامة حفلات في كل البلاد التي ينحدر منها أعضاؤها.

في الفيلم الوثائقي "الاعتراف هو البداية" تسأل صحفية إسرائيلية بارينبويم، فيما إذا كانت التربية الموسيقية تستطيع منع طفل فلسطيني من رمي الحجارة على الإسرائيليين، يجيب بأنه لا يعتقد ذلك، لكن "عندما يحضر التلاميذ في الأسبوع ثلاث أو أربع مرات دروس العزف على الكمان أو التشيلو، فإنه لن تخطر على بالهم أفكار متطرفة خلال ذلك".

أما مؤسسة دانيال بارينبويم في برلين، فإنها لا تدعم فرقة أوركسترا "ديوان غرب- شرق" فقط، وإنما تدعم العديد من المشاريع التربوية والموسيقية في الشرق الأوسط. وبالتعاون مع مركز بارينبويم- سعيد للموسيقى في رام الله تدعم المؤسسة موسيقيين فلسطينيين وإسرائيليين من مختلف الأعمار.

وبمبادرة من بارينبويم افتتحت في برلين روضة للموسيقى عام 2005. ويلقى تصوره حول التربية الموسيقية ودورها في تشجيع التعايش الاجتماعي، صدى جيداً لدى الرأي العام. وأقام في برلين حفلة خيرية لصالح روضة الموسيقى لدى الاحتفال بعيد ميلاده السبعين في الخامس عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، مع قائد الاوركسترا الموسيقي الهندي زوبين ميهتا.

 

كورينا كولبه
ترجمة: عارف جابو
تحرير: هبة الله إسماعيل
حقوق النشر: دويتشه فيله 2012