مفاتيح الاندماج....ثقافة الاعتراف والاحترام المتبادل

على الرغم من أن للألمان تجربة طويلة مع الاندماج، إلا أنهم يفتقدون إلى الذاكرة، الأمر الذي يزيد من حجم المخاوف التي تعتري سياسة الهجرة والاندماج في ألمانيا، ويجعلها تتمحور حول الأمن الداخلي أكثر من معالجتها للتسامح والاحترام المتبادل. الدكتور هريبرت بانتل يستعرض عيوب هذه السياسة وأسباب انغلاقها.

مهاجرون ألمان إلى أمريكا
إن تاريخ الألمان في الهجرة غائب عن ذاكرتهم الجماعية، ما يضع عائقاً أمام عملية الاندماج، كما يرى هريبرت بانتل. الصورة تضهر مهاجرون ألمان يستقلون باخرة متوجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1874.

​​

مر وقت كان فيه الألمان بمثابة أتراك الولايات المتحدة الأمريكية، كان ذلك قبل 150 عاماً. وكانت مدينة نيويورك آنذاك يعيش فيها أكبر عدد من الألمان بعد برلين وفيينا. وكان هؤلاء منغلقين على أنفسهم، فقد كان الاندماج صعباً عليهم، ولهذا كان لهم قساوستهم الخاصون بهم، ويتبضعون من المتاجر الألمانية، ويعيشون في تجمعات ألمانية، ويذهبون إلى مسارح ألمانية، ويرتدون أزياء ألمانية، ويطبخون وجبات ألمانية، ويحبون شرب البيرة والجلوس في حدائق شرب البيرة، لاسيما أيام الأحد.

تاريخ الألمان المجهول

في شيكاغو أشعل حزب سياسي متشدد في تحفظه، وهو "الحزب الأمريكي"، الصراع من خلال سياسته "أمريكا للأمريكيين فقط"، التي تشبه مطلب "طرد الأجانب". وأصبح مرشح هذا الحزب الدكتور بون عمدة للمدينة، فرفع ضريبة الكحول بنسبة 600 في المائة ومنع بيع البيرة أيام الأحد. وفي يوم الأحد الأول بعد قرار المنع هذا، في 21 نيسان/ أبريل 1855، أرسل الشرطة إلى الحانات للمراقبة.

مبنى الرايخستاغ في برلين
120 عاماً من الهجرة في ألمانيا: العديد من العمال الأجانب اشتركوا في تشييد مبنى الرايخستاغ في برلين وشبكة قطار الأنفاق في العاصمة وشبكة القطارات في عموم أرجاء ألمانيا.

​​ وبعد أن تم إلقاء القبض على قرابة 200 شخص من مرتادي الحانات الألمان وأصحابها وسجنهم بسبب مخالفة القرار، قامت انتفاضة ألمانية. تُسمى هذه الانتفاضة في الأرشيفات بـ"اضطرابات البيرة"، قد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى أكثر طرفة من الحقيقة: فقد قامت الشرطة بإطلاق النار على الجموع الغاضبة، التي قامت بدورها بالرد بإطلاق النار أيضاً. وتعلم المهاجرون الألمان درساً مهماً: من أجل الحفاظ على مصالحهم لابد لهم أن يشتركوا في السياسة بشكل متزايد. وبعد عام واحد فقط، تمت الإطاحة بعمدة المدينة المنتمي إلى "الحزب الأمريكي" من خلال الانتخابات، ومن ثم رفع الحظر مجدداً.

يكاد الألمان لا يعرفون شيئاً عن هذه الوقائع المؤرخة، ولا توجد ذاكرة تنقل ذلك، فالهجرة لا تدخل نطاق الذاكرة الجماعية، وهي ليست جزءا من التاريخ القومي الداخل في نطاق الذاكرة. وإذا ما قدمت ألمانيا تاريخها المتعلق بهجرة مواطنيها إلى بلدان أخرى، لما تعاظمت المشاكل المتعلقة بالمهاجرين إليها واندماجهم.

وإذا ما وضع الألمان نصب أعينهم تاريخهم الخاص المتعلق بالهجرة، وتخلوا عن خشيتهم الكبيرة من الهجرة إلى بلدهم ومن تسمية المشكلة بمسمياتها الحقيقية، لتمكنوا من الاهتمام بهذه المشاكل بشكل أكبر، بدلاً من الخوض في صراع طويل حول تعبير "بلد هجرة". ولربما أصبحوا أكثر هدوءاً من جانب، وأكثر حساسية لمتطلبات الاندماج.

سياسة الأمن الداخلي

يجب فهم الاندماج على أنه فرصة وإغناء ثقافي: هيكل مسجد كولونيا الذي تم تصميمه من قبل معماريين ألمان.

​​

بدأت الهجرة إلى ألمانيا منذ 120 عاماً، لكن على الرغم من ذلك يتظاهر الساسة حتى يومنا هذا بأنهم أول من يواجه هذه المشكلة. إن تاريخ العمال الضيوف في ألمانيا لم تبدأ في أواخر خمسينات القرن الماضي، بل قبل ذلك التاريخ بعقود من الزمن، فمبنى الرايخستاغ في برلين وشبكة قطار الأنفاق في العاصمة وشبكة القطارات في عموم أرجاء ألمانيا نُفذت في الغالب من قبل عمال أجانب. وآنذاك حذر ما يسمون بالوحدويين الألمان، بسبب عدد العمال الوافدين من بولندا، من "بولندا ألمانيا"، وكانت نبرة هذه التحذيرات لا تختلف إلى قليلاً عن تحذيرات اليوم من أسلمة ألمانيا. لكن المشرع في مجال قانون الهجرة ليس سوى مشرع من دون ذاكرة.

الحال يختلف في مجالات أخرى، فالقانون يُطور، ويُقام على أساس قانون سابق تغير، ويُصحح، وأن يوضح أن المشرع أصلح من القانون والبرلمان يتفاعل تشريعياً مع التغيرات الاجتماعية. لهذا السبب تم في القرن الماضي تحقيق تقدم كبير في القانون الجنائي، وخطوات هائلة في القانون المدني، لاسيما قوانين الأسرة والزواج. أما في قانون الهجرة فلا نكاد نلحظ مثل هذا التقدم، باستثناء قانون الهجرة والاندماج لعام 2005، الذي شكل خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح. إن الساسة والمشرعين يعيدون الوقوف بحيرة أمام الهجرة إلى ألمانيا والمشاكل المتعلقة بها. لكن حين تفتقد السياسة إلى الذاكرة، فإنها تتصرف بحماقة.

إن التحرك المتأخر للسياسة الألمانية حيال مجتمع الهجرة والاندماج ما زال يشبه مغامرة صغيرة، يشوبها الخوف، الكثير من الخوف. وتعد سياسة الهجرة والاندماج في ألمانيا سياسة تتمحور بجلها تقريباً حول الأمن الداخلي. إنها سياسة ترى في المهاجر إلى ألمانيا مخرباً أو مزعجاً، وسياسة تغذي الخشية من التنوع الثقافي، بدلاً من الارتياح لهذه القيمة المضافة واستغلالها.

ثقافة رائدة بمعنى الكلمة

الصورة برويوستيتيا

​​ إن هذا التوجه أزداد حدة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من هجمات في مدريد ولندن. ومنذ ذلك الحين سرعان ما يقع المسلمون تحت طائلة الشك في أنهم إسلاميين خطرين، ويُنظر إلى الإسلام باعتباره ثقافة غير متوافقة، القرآن يُعتبر على أنه خطر للغاية ومرشد للإرهاب. إن أولئك، الذي يعللون أعمالهم الإرهابية بتشريعات الدين الإسلامي، ويتخذون من الله جزءاً من مؤامراتهم، ساهموا في تقوية هذا التوجه بشكل كبير.

وأصيبت ألمانيا منذ عام 2001 بشكل خاص بعدوى "هجمة مسعورة على القرآن"، انتبه لها الأب جورج قنواتي، وهو أحد رواد الحوار المسيحي الإسلامي، في وقت مبكر عام 1986. في عام 2010 أتضح هذا الأمر جلياً من خلال ما يسمى بالجدل حول كتاب زاراتسين. إن كتاب السياسي السابق في الحزب الاشتراكي الديمقراطي تيلو زاراتسين، الذي يعتبر المسلمين أناساً أغبياء، حقق مبيعات مليونية. وإذا ما تعلق الأمر بالاندماج، يدور الحديث بشكل متكرر عن "ثقافة رائدة"، يجب على المواطنين الجدد التأقلم معها. لكن لا أحد يعرف المزيد عن مكونات هذه الثقافة الرائدة: الطعام؟ بعض العادات؟ وما هي الثقافة الرائدة؟ إن الثقافة الرائدة يجب أن تكون في أحسن حالاتها ثقافة للتعايش، أنها تعني الديمقراطية، أنها تعني دولة القانون، أنها تعني الحقوق الأساسية.

قد يبدو الأمر بسيطاً. لكن واقع الحياة اليومية يوضح أن الأمر ليس بالبسيط. إن هذه الثقافة الرائدة تتطلب الكثير، ولا تتطلب التسامح فقط، وإنما الاحترام المتبادل أيضاً بين المواطنين القدماء ونظرائهم الجدد، وهذا ما يقود في النهاية إلى الاندماج. إن كلمة "احترام" أحسن وقعاً من كلمة "تسامح"، وأحسن مثالاً على ذلك علاقة المواطنين الكاثوليكيين بنظرائهم البروتستانتيين أو العكس: لا تتوقف هذه العلاقة على الاستجابة المتبادلة، وإنما تقوم أيضاً على الاعتراف المتبادل أيضاً. وهذا هو معنى الاندماج، وإنها مهمة ألمانيا ومهمة أوروبا.

هريبرت بانتل
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: معهد غوته/ قنطرة 2011

الأستاذ الدكتور هريبرت بانتل: عضو رئاسة تحرير صحيفة "زوددويتشه تسايتونغ" الألمانية، ويرأس قسم السياسة الداخلية فيها.

قنطرة

مقابلة مع أستاذة الدراسات الإسلامية غودرون كريمر
مجابهة كراهية الإسلام بالحجج المنطقية
تتجاوز أستاذة الدراسات الإسلامية الألمانية المشهورة غودرون كريمر حدود تخصصها لتشترك في الجدل الدائر في الرأي العام الألماني حول الإسلام. ولقاء عملها هذا مُنحت عام 2010 جائزة البحث الدولية المقدمة من مؤسسة غيردا هينكل الثقافية. نادر الصراص تحدث إليها على هامش إحدى الفعاليات الثقافية وسألها عن الجدل الدائر حول المسلمين والإسلام في ألمانيا.

حوار مع الرئيس الجديد للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا أيمن مزيك:
نريد ثقافة الاعتراف وليس ثقافة الترحيب فقط"
انتخب المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا السيد أيمن مزيك رئيسا له، خلفا لأيوب أكسل كولر. عبدالحي العلمي في حوار مع السيد مزيك حول المحاور التي سيركز عليها في منصبه الجديد ورؤيته لعمل المنظمات الإسلامية في ألمانيا.

جدل حول اندماج المسلمين في ألمانيا:
احتراما للآخر ولقيم الديمقراطية
في ضوء النقاش الحاد في ألمانيا حول اندماج المسلمين في المجتمع يرى الأمين العام للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا شتيفان كرامر في تعليقه الآتي أنه من الضروري العمل على التعريف بالإسلام والمسلمين في ألمانيا وتعزيز التربية القائمة على التسامح والاحترام المتبادل بين أطياف المجتمع الألماني الديمقراطي.