سوء فهم وأحكام مسبقة

هناك إجماع شبه كامل في العالم العربي أن الفيدرالية مرادفة للانشقاق وتجزئة الدولة، والذي ظهر جليا في النقاشات حول الدستور العراقي. ولكن من الممكن أن يشكل هذا النموذج بالنسبة لجميع الدول العربية أداة هامة للقيام بإصلاحيات ضرورية، حسب رأي عارف حجاج.

إمرأة عراقية تحمل نسخا من مسودة الدستور العراقي، الصورة: أ ب
في سياق النزاع الدستوري في العراق بين الفئات المتنازعة سياسيا وإثنيا ومذهبيا انقسام واضح بين الأغلبية العربية من جهة (الشيعة والسنة الخ.) وبين الأقليات غير العربية (الأكراد والتركمان)من جهة أخرى.

​​هناك إجماع شبه كامل في العالم العربي أن الفيدرالية مرادفة للانشقاق والانفصال وتجزئة الدولة، والذي ظهر جليا في النقاشات حول الدستور العراقي. ولكن من الممكن أن يشكل هذا النموذج بالنسبة لجميع الدول العربية أداة هامة للقيام بإصلاحيات ضرورية، حسب رأي عارف حجاج.

ازدادت أهمية الفيدرالية في العالم العربي منذ سقوط نظام البعث في العراق واشتعال النقاش الراهن حول الدستور العراقي. وهناك في سياق النزاع الدستوري القائم بين الفئات المتنازعة سياسيا وإثنيا ومذهبيا انقسام واضح بين الأغلبية العربية من جهة (الشيعة والسنة الخ.) وبين الأقليات غير العربية (الأكراد والتركمان).

وقد تبنت الأقلية الكردية على وجه خاص ومنذ البداية فكرة الفيدرالية بهياكلها الجغرافية والإثنية. ومع أنها لم تتبن بصورة صريحة معلنة خيار الانشقاق عن الدولة إلا أنها لا تبدو مكتفية بمبدأ التوزيع التكميلي للسلطات بين الاتحاد وأجزائه داخل الدولة الاتحادية المشتركة.

هذا على عكس الحال لدى الأغلبية العربية التي لم تبد حماسا في البداية لخيار الفيدرالية. إذ جاءت أولوياتها تنص على استعادة استقلال العراق وسيادته ووحدته الإقليمية في إطار دولة مركزية قوية.

وفي أغلب الأحيان فإن فهمها لفكرة الفيدرالية نابع من سوء فهم وأحكام مسبقة تقليدية فحواها أن هذه الفكرة مرادفة للانشقاق والانفصال وتجزئة الدولة. وغالبا ما أنكر خصوم الفيدرالية معناها الحقيقي أو لم يستوعبوه ببساطة، ذلك المعنى الكامن خاصة في الفصل الهيكلي والقانوني الواضح لصلاحيات الدولة العليا (القوانين الضريبية، الشرطة والقضاء، السياسة الخارجية والأمنية الخ.) بين الاتحاد وأجزائه.

لا توجد مؤشرات بكون القوى الرئيسية داخل المحور الشيعي (وداخل النخب السنية بطبيعة الحال أيضا) تسعى إلى تبني نظام شبيه بنظام توزيع السلطة في لبنان وفقا للانتماء المذهبي على الرغم من تعرضها للاضطهاد والتهميش في عهد صدام حسين.

ويبدو أن أتباع هذين المذهبين داخل الأغلبية العربية يحبذون الخيار الفيدرالي المبني على قواعد إقليمية إدارية وليس على أسس دينية مذهبية.

المركزية هي الفكرة السائدة في العالم العربي

نادرا ما اتفقت النخب المثقفة في العالم العربي على الرأي في سياق النقاش السياسي. لكن الاتفاق بينها يتم بسهولة إزاء رفض الفيدرالية التي ترى فيها في المقام الأول عناصر التجزئة وتتوهم وجود هياكل فيها تمنح الأقليات العرقية أو المذهبية مركز الامتياز.

تعود جذور نبذ النظام الاتحادي إلى المجتمع القبلي الذي درج طيلة قرون طويلة من الزمن على العيش والتصرف في إطار نماذج مركزية. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن العالم العربي وقع أثناء العهد العثماني تحت نظام مختلط من الحكم الاستبدادي ذي الهياكل المركزية والنموذج الكونفدرالي في آن واحد.

وقد اعتبرت النخبة التي دانت بفكرة القومية العربية فيما بعد التقسيم الفيدرالي للعالم العربي في العهد العثماني ومن بعد التجزئة التي تعرض لها على يد قوى الاستعمار الأوروبي تدنيسا لمشاعرها القومية.

ومن هنا جاء تفسير مؤسس حزب البعث، ميشيل عفلق، والأب الروحي لفكرة القومية العربية، ساطع الحصري، لظاهرة "الانحطاط" التي حلّت على الأمة العربية على أنها ظهرت نتيجة للسيطرة العثمانية والاستعمار الأوروبي. والجدير بالذكر أن هذين المفكرين كانا واقعين تحت تأثير الفكر القومي الأوروبي الحديث.

وبعد أن نالت البلدان العربية في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين استقلالها الوطني من دول الاستعمار والانتداب الأوروبية انصب جل اهتمام حكامها على نبذ كل ما من شأنه إضعاف أعمدة وبنيان الدولة والانتماء الوطني ولو بشكل ظاهري بحت.

من هنا لاحت المركزية على أنها نظام الحكم الأمثل بالنسبة لهم إن لم نقل حتى الذي لا بديل له، لا سيما وأن المركزية تؤدي إلى تسهيل وتفعيل استخدام آليات المراقبة تجاه شعوبهم وفيما يختص بمواجهة أخطار التهديد من الخارج.

الأمر المثير للدهشة أن معظم القوميين العرب تأثروا،على الرغم من هيمنة النزعات المركزية على فكرهم، بالنمط الألماني للقومية المبني على النزعة الاتحادية (فيشته، هيردر على سبيل المثال) ، فيما رفضوا الخيار الفرنسي للقومية رغم نزوعه للمركزية بحجة أنه لم يراع معايير الانتماء المبنية على الإحساس والضمير.

وكان الحصري قد رأى وجود تطابق بين حالة "التجزئة" التي مرت بها الدول الألمانية في غضون القرن التاسع عشر وبين نفس الحال الذي طرأ على الدويلات العربية أثناء القرن العشرين. ومنذ ذلك الحين والدولة تشكّل محور فكر النخب العربية إذ كان هدفها موجها نحو إنشاء دولة قوية، وهذا لم يعن حسب مفاهيمها سوى الدولة ذات البنيان المركزي.

فشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا

على الرغم من ذلك كانت هناك بعض المحاولات في العالم العربي لخلق بنى فيدرالية فيه كإنشاء "الجمهورية العربية المتحدة". ولكن هذه الدولة كانت مزيجا متناقضا بين النظام المركزي الاستبدادي وبين نظام اتحادي لم تختمر الأفكار التي بني عليها.

اكتب لنا رأيك!
letter@qantara.de

وكان هذا الاتحاد قد نشأ عام 1958 بين مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وبين سوريا التي كانت تقع في ذلك الحين تحت وطأة انقسام حاد في الداخل وتزعزع في استقرارها الخارجي. وقد تبين بأن عدم وجود حدود مشتركة بين البلدين كان من عوامل ضعف هذا الاتحاد الذي أدرك نهايته المحتومة عام 1961.

وكانت حجة السوريين في الانفصال أنهم رزحوا بشدة تحت طائل الوصاية المصرية، علما بأن أول ما قامت به مصر بعد إنشاء الدولة الجديدة هو إيفاد ضابط كبير تابع لقيادة مجلس الثورة المصرية إلى دمشق وإكسابه صلاحيات غير محدودة ليتولى منصب حاكم الإقليم السوري.

وحتى بعد انقضاء أعوام عديدة على ذلك فإنه لم يتراء لا لأجهزة الإعلام ولا للطبقة المثقفة بأن فشل هذه التجربة كان واردا منذ البداية بسبب افتقاد بنية فيدرالية تحتية صلدة لتلك الدولة.

هل الفيدرالية نموذج لدول عربية أخرى؟

نظرا للنقاش الدائر اليوم حول احتمال إدخال النظام الفيدرالي في العراق فإن السؤال يطرح نفسه عما إذا كان هذا النموذج قابلا للتطبيق على دول عربية أخرى.

في واقع الأمر تشكّل الفيدرالية بالنسبة لجميع الدول العربية بغض النظر عن تعدادها السكاني ومساحتها الجغرافية نموذجا سياسيا مناسبا وأداة هامة للقيام بإصلاحيات حتمية في القطاعات الإدارية والاجتماعية والسياسية تستهدف الرواسب التي خلّفتها الهياكل الاستبدادية والمركزية.

ويوجد في العالم العربي اليوم بما لا شك فيه مثل ناجح على النظام الاتحادي هي دولة الإمارات العربية المتحدة. هذا وإن كان هذا الاتحاد مؤلفا من أجزاء (إمارات) تتمتع بسيادة شبه كاملة وتحكم إما وفقا للمركزية أو للامركزية أي ليس بناء على مبادئ النظام الفيدرالي.

ينبغي أن يتزامن إدخال الأنظمة الفيدرالية مع القيام بإجراءات محددة وقوية المفعول تتخطى "شكلية" إعداد نصوص الدستور والقوانين لتكرّس "واقعا" دستوريا سليما يشمل الحفاظ على حقوق الإنسان وسيادة القانون في الدولة والديموقراطية والحرية.

لكن هذا يتطلب أيضا رغم ضرورة عقد الاتفاق على قاعدة الأغلبية احترام الأقليات الدينية والعرقية والاجتماعية ومعاملتها بروح المساواة.

ومن شأن إدخال الأنظمة الاتحادية في دول كبيرة مثل السودان ومصر وكذلك سوريا والسعودية واليمن والمغرب والجزائر العمل على احتواء التراكم الإصلاحي الحاد الذي تعاني منه بعض هذه الدول في قطاعات التعليم والبنية الأساسية والصحة.

بقلم عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2005

عارف حجاج (مواليد 1943 في يافا) درس السياسة والتاريخ والقانون الدولي في هايدلبرغ. عمل أستاذا للغة العربية في وزارة الخارجية الألمانية وله العديد الإصدارات الصحفية.

قنطرة

مسودة الدستور العراقي ... الاختلافات والتوافقات
يرى الخبير في الشؤون العراقية رشيد الخيُّون إن مَنْ ينظر في أحوال العراق اليوم، والتركة الثقيلة من التخلف الجهل، والحضور الديني والمذهبي يرى أن مسودة الدستور جاءت متوافقة، وفيها مواد تتيح فرصة التغيير في المستقبل.

هل من الممكن أن تكون الفيدرالية الألمانية نموذجا للعراق؟
قام وفد من أعضاء لجنة صياغة الدستور العراقي بزيارة إلى ألمانيا قام خلالها أيضا بالإطلاع على النموذج الألماني للفيدرالية. يتحدث أعضاء الوفد في المناقشة التالية عن العديد من النقاط التي ما تزال تثير الجدل كموضوع الفيدرالية وعروبة العراق والشريعة