صراعات فقهية بأجندة ربحية

في السنوات العشر الأخيرة انطلق بث أكثر من 60 قناة فضائية دينية جديدة في الشرق الأوسط ليتبع ذلك ظهور عدد كبير من الدعاة والوعاظ من مختلف التيارات الدينية، يحاول كل منهم ترويج مفهومه الخاص للإسلام. مني سركيس تلقي الضوء علي خلفيات وأبعاد هذه الظاهرة.

في السنوات العشر الأخيرة انطلق بث أكثر من 60 قناة فضائية دينية جديدة في الشرق الأوسط ليتبع ذلك ظهور عدد كبير من الدعاة والوعاظ من مختلف التيارات الدينية، يحاول كل منهم ترويج مفهومه الخاص للإسلام. مني سركيس تلقي الضوء علي خلفيات وأبعاد هذه الظاهرة

شعارات عدد من الفضائيات العربية. الصورة : دويتشه فيله
في السنوات العشرة الأخيرة انطلق بث أكثر من 60 قناة فضائية دينية جديدة في الشرق الأوسط

​​.

أكثر من ثلاثمائة وخمسين ألف تهنئة تناقلتها الهواتف المحمولة التابعة لشركة "دو" للاتصالات بدولة الإمارات العربية خلال شهر رمضان. من مثل هذه الخدمات لا تنتفع شركات المحمول وحدها بل أيضا عشرات من قنوات التلفزيون الفضائية، التي لا يمكنها الاعتماد على عائدات الإعلانات التجارية وحدها، فسوق هذه الخدمات ضخم يتيح إمكانيات ربحية عديدة، إلا أن الشرائح المستهدفة من العملاء فيه متباينة جدا.

لهذا تحاول هذه القنوات على اختلاف أنواعها استثمار ولع مئات الآلاف من المتفرجين بالهواتف المحمولة لصالحها فتعقد اتفاقات مع شركات المحمول محققة بمقتضاها أرباحا طائلة عن طريق استمالة جمهور عريض من المشاهدين إعلانيا ودفعهم للاتصال وطرح أسئلتهم واستفساراتهم الدينية مقابل الحصول على فتاوى فورية. وفي هذا المجال تبرز قناة "المجد" للفتاوى، التي أنشأت عام 2003 واستطاعت في غضون سنوات قليلة أن تتوسع وتدير اثنتي عشرة قناة فرعية أخرى، قافزة بذلك إلى مركز الصدارة على صعيد الإعلام الديني السعودي.

وعاظ بلا حصر..

تعد معظم فتاوى قناة "المجد" من ذلك النوع الذي عادةً ما يثير الدهشة واللغط محليا ودوليا على السواء، وهي تتمتع مع ذلك بإقبال شرائح عديدة، مما يشير إلى حاجة كثير من المسلمين الملحة إلى الاسترشاد بمعرفة دينية تعينهم على انتهاج أسلوبا حياتيا يتمشى مع التعاليم الإسلامية، رغم أن مدى مساهمة هؤلاء الوعاظ الفعلية في مساعدة السائلين يبقى أمرا لا يمكن التأكد منه، خاصا مع وجود هذا الكم الهائل من الوعاظ.

ولعل السبب في تغيير المشهد الفقهي يعود إلى تغير بنية النظام التعليمي، فقبل خمسين عاما ربما لم تعرف الدعوة الإسلامية غير لقب "عالم" والمقصود به عالم الدين ولقب " الفقيه" وهو المتخصص بشؤون الشريعة والفقه الإسلامي وتطبيقاته. أما اليوم فتبرز على الساحة مؤهلات جديدة، فهناك "الدكتور" وهو عادة ما يكون أستاذا للشريعة الإسلامية بإحدى الجامعات وهناك أيضا ما يسمى "بالداعية".

كما ساهم انتشار القنوات الفضائية في نهاية التسعينات في تسريع دينامية سوق الإعلام الديني مما جعل منه صناعة مربحة استغلت حاجة المجتمعات الإسلامية الخاضعة لأنظمة ديكتاتورية إلى منبر يتيح الفرصة لحراك فكري واجتماعي. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتضع الإسلام على خط النار، مواجها ما لا حصر له من الشبهات ولتصبح الحاجة ماسة للمزيد من النقاش. وعلى هذا النحو تحولت قناة "المجد" إلى منتدى للنقشات، وخاصة للتيار الإسلامي المحافظ، فبرامجها خالية من النساء،خالية من الموسيقى،خالية من "المعاصي"، تتبنى أيديولوجية الحركة الوهابية بميراثها السعودي المحافظ، التي ترأسها زعامات تنتمي لعائلات عريقة بالبلاد كانت المرجعية الإسلامية حكرا عليها. غير أن هذا الاحتكار قد صار مهدداً بعد أن فرضت الثورة الإعلامية منافسة جديدة أبطالها عشرات من الشيوخ والوعاظ، الذين لم يسمع عنهم أحدا من قبل.

الأمير وليد بن طلال. الصورة : أ.ب
الأمير وليد بن طلال تتنوع استثماراته بين Eurodisney و شبكة روبرت مردوخ الإعلامية الشهيرة بالإضافة إلى امتلاكه معظم أسهم قناة "الرسالة" الإسلامية

​​ ولهذا كان على الوهابيين أيضا أن يخوضوا المجال الإعلامي ناشرين دعوتهم من خلاله معتمدين في ذلك على الدعم المطلق الذي يلقونه من النظام السعودي الحاكم وقوة علاقتهم به، وهي العلاقة التي لا تخلو من الانفصام لما فيها من تناقضات كثيرة، فليس سرا على أحد أن العائلة المالكة لا تعيش مثل تلك الحياة "الخالية من المعاصي"، التي تروج لها الدعوة الوهابية، وليس سرا على أحد أن بعض أفراد العائلة يساهمون في دعم أيديولوجيات وتيارات دينية أو لا دينية أخرى طالما عاد عليهم ذلك بالربح الوفير كالأمير وليد بن طلال، الذي تتنوع أسهم محفظة استثماراته بين "يورو ديزني" Eurodisney و شبكة "روبرت مردوخ" الإعلامية الشهيرة بالإضافة إلى امتلاكه معظم أسهم قناة "الرسالة " الإسلامية.

منافسات شرسة في سوق الإعلام الديني

وانطلق بث قناة "الرسالة" في عام 2006، وتميزت فور انطلاقها باستوديوهاتها البراقة وفواصلها الموسيقية العديدة، و هو ما لا يتعارض مع القيم الإسلامية، حسب ما تراه إدارة القناة، إضافة إلى رؤيتها الأكثر انفتاحا للإنسان المسلم، الذي ليس عليه أن يتلو القرآن ويقرأ السيرة النبوية ليلا ونهارا كي يكون مسلما حقا، فبرامج الرسالة تتطرق إلى موضوعات دنيوية كالحب والصداقة والجنس وغيرها من الموضوعات التي يبيح الإسلام مناقشتها. وقد حققت قناة "الرسالة" شعبية كبيرة في وقت قصير، وهي إن كانت ما تزال أقل شعبية من قناة "المجد"، فهي تبدو على كل حال في طريقها لتخطي منافستها.

شعار قناة الرسالة. الصورة : www.alresalah.net/
برامج قناة "الرسالة" التي انطلق بثها في عام 2006 تتطرق إلى موضوعات دنيوية كالحب والصداقة والجنس وغيرها من الموضوعات التي يبيح الإسلام مناقشتها

​​ وما تهدف قناة "الرسالة" في بلوغه بجعل الدعوة الإسلامية خفيفة وترفيهية هو نفس ما تهدف إليه قناة "إقرأ" الرائدة في مجال الإعلام الفضائي الديني والتابعة لشبكة ARTالإعلامية واسعة الانتشار، حيث انطلق بثها عام 1989 وحاولت منذ البداية أن تتوجه برسالتها لجذب المسلمين، الذين اعتادوا تفضيل متابعة القنوات الغربية. "إقرأ" تقدم في برامجها دعاة غير تقليدين، يخاطبون بدعوتهم كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى الذين تلقوا تعليمهم بالخارج، مثل الداعية عمرو خالد (43 سنة) أو معز مسعود (31 سنة) وكلاهما يخرجان إلي الشاشة بوجوه لامعه وذقون حليقة وحلات أنيقة ، ويتحدثان عن أمور شخصية بلهجة عامية ولغة سلسة بسيطة بعيدة عن الطنطنة الملحة بآيات القرآن.

دعاة جدد و إسلام "لايت"

فعلى سبيل المثال نرى معز مسعود وهو يحكي ببساطة لمشاهديه عن ليالي السهر والسمر أثناء فترة دراسته في أمريكا و كيف يندم عليها أو عن قصة صديقه، الذي لقي مصرعه أثناء قيادته لسيارته مخمورا. ثم يحكي تارة عن قصته مع القرآن، الذي لم يستطع فهمه في البداية إلا من خلال ترجمته الإنجليزية، مشيرا بذلك إلى أن الطريق إلى الله يسيرا وأنه ليس لزاما على المسلم أن يكون دارسا أو متخصصا لكي يسلكه.

"الإسلام المبسط" الذي تقدمه تلك البرامج هو إذن إسلام يدعو إلى التسامح والعدالة، وإلى عقل مقدام يبادر بالعمل ويسعى إلي النجاح، كما أن خطابه يجر معه رغم رقته بعض النقد السياسي للواقع. فعلي برنامج "خواطر"، الذي قدمه خلال شهر رمضان هذا العام الداعية الشاب أحمد الشقيري مقارنا فيه حاضر المسلمين بماضيهم في صدر الإسلام، يعقب أحد المدونين متسائلاً " لماذا تضيع كل طاقاتنا هباءً؟ هل لأننا أكثر غباءً من القرون الماضية؟ بالتأكيد لا، ولكن لأنه يحكمنا حكام غير كفيئين".

الداعية الإسلامية أحمد الشقيري . الصورة : ويكيبديا
الداعية الإسلامي أحمد الشقيري اشتهر ببرنامجه "خواطر" الذي خصص جزءه السادس الذي عرض في رمضان الماضي للمقارنة بين حاضر المسلمين و ماضيهم في صدر الإسلام

​​ مثل هذا التصور لا يمكننا أن نراه عند أنصار حزب الله من الشيعة في لبنان. فالقائد هناك غير مكروه بل تعتز به جماهيره كما تعتز بنفسها ودوافع ذلك واضحة وهى مقاومة إسرائيل والارتقاء بالاقتصاد، فساسة حزب الله الذين احتقرهم البيروتيون في سنوات الستينيات صاروا اليوم رجال أعمال مرموقين يشار إليهم بالبنان.

لذلك تعكس قناة "المنار" التي يبثها حزب الله هذا التحول، فنرى على شاشتها أسبوعيا أحد الشيوخ يتناقش مع ضيوف من كلا الجنسين حول مسائل دينية عديدة، فإذ به يتشابه مع دعاة الإسلام المبسط في القنوات الأخرى في نغمة التشديد على التسامح وحب الأخريين، بل إنه يتعدى ذلك بتأكيده على أن الجنة تفتح ذراعيها للجميع، بما فيهم الملحدين وأن الله لا يعرف في ذلك تمييزاً أو تفرقة بين البشر .

كثير من المظاهر التقدمية عرفت إذن طريقها للفضاء السياسي والفكري، الذي يتحرك فيه حزب الله فأعضائه المنتخبين في البرلمان يتعاونون مع زملائهم من الشيوعيين والمسيحيين، كما يعمل في مجلس إدارة قناته مسيحيون جنبا إلي جنب مع المسلمين مثلما ينص القانون اللبناني .

فبغض النظر عما يحدث على صعيد التكتيك السياسي، فإن حزب الله يمر بمرحلة تحديث كبيرة، ينظر إليها باعتزاز. فعلى عكس الشكل المحافظ الذي تظهر عليه قناة "المجد"، تفتح "المنار" شاشتها للضيوف العلمانيين وللمذيعات السافرات، ولأسئلة جريئة على غرار السؤال الذي ألقي على الفقيه الشيعي المتوفى مؤخراً محمود حسين فضل الله: في أي نص من النصوص ذكر أن على المرأة، ثيب كانت أم عذراء، أن تحصل على موافقة أبيها قبل الزواج ؟!.

منى سركيس

ترجمها عن الألمانية: أحمد عبد الله
مراجعة : لؤي المدهون

حقوق النشر: قنطرة 2010

Qantara.de

قراءة في الخطاب الديني في الفضائيات العربية:
هل أضحى الدعاة "مقاولين" دينيين؟
حذر باحثان مغاربيان خلال لقاء فكري حول "الخطاب الدّيني في الفضائيات العربيّة: المضمون والتّداعيات"، من مخاطر القنوات الدينية العربية التي تعاظم تأثيرها مؤخرا وتحولها إلى مصدر أساسي للمعارف الدينية في المجتمعات العربية. منير السويسي من تونس يطلعنا على أهم محاور هذا اللقاء.

موجة جديدة من الدعاة الجدد:
إسلام يتحدث بلغة العصر
موجة جديدة من الدعاة أخذت تسحب البساط رويداً رويداً من تحت اقدام نظرائهم الأكبر سناً والمعترف بهم رسمياً. هؤلاء الدعاة يتحدثون بلغة العصر ويطرحون مواضيع تهم الشباب. نشوى عبد التواب تدرس العواقب المحتملة لهذا التطور على المدى البعيد.

حوار مع إعلاميين عرب:
الفضائيات العربية جزء من المعركة
لبث شبه المتواصل للحرب في لبنان وعرض صور القتلى والجرحى أثارا مناقشة في أوساط صحفيين وباحثيين كثيرين عن مدى توافق ذلك مع مواثيق الشرف الصحفية. حوار أجرته قنطرة مع نخلة الحاج، خالد الحروب وأكثم سليمان.