تساؤلات حول مصير الربيع العربي...ديمقراطية تعددية أم أنظمة سلطوية دينية؟

في ضوء التوترات التي شهدتها الساحة المصرية بشأن صوغ الدستور المصري الجديد، قرّر الإسلاميون تنظيم استعراض للقوة في مؤشر على وجود انقسامات خطيرة بين الجماعات السياسية في مصر ومجتمعات أخرى في العالم العربي. فما هو تأثير هذه الانقسامات على مصر والربيع العربي وما هي مسؤولية الإعلام العربي اتجاهها ؟ بول سالم، مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، في إجابة عن هذه التساؤلات.



رفعت الا�تجاجات الواسعة في ميدان الت�رير يوم الجمعة الماضي شعارات دينية ترددت أصداؤها في أن�اء العالم العربي، وأثارت تساؤلات عمّا إذا كان الربيع العربي يتّجه ن�و ديموقراطية تعددية أم سلطوية دينية. �تى وقت قريب، هيمنت الشعارات التعددية والديموقراطية على التظاهرات في مصر وسواها، و�رصت الجماعات الإسلامية على البقاء ضمن تلك ال�دود. لكن في يوم الجمعة الماضي، وفي غمرة التوتر في شأن صوغ الدستور المصري الجديد، قرّر الإسلاميون تنظيم استعراض للقوة، ما أكّد وجود انقسامات خطيرة بين الجماعات السياسية في مصر ومجتمعات أخرى في العالم العربي. فما هي أهمية هذه الانقسامات، وما هو تأثيرها على مصر والربيع العربي؟

 

تختلف التفسيرات �ول أهمية ا�تجاجات يوم الجمعة التي ضمّت إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، السلفيين والجماعات الجهادية السابقة مثل الجماعة الإسلامية. وما من شك في أن الا�تجاجات كانت كبيرة، �يث شارك فيها مئات الآلاف. لكن في بلد يعدّ أكثر من 85 مليون شخص، إذا كان هذا ال�شد يُمثّل الجزء الأكبر من مؤيّدي الإسلاميين، فإنهم أقلّية. اما إذا كان ذلك مجرّد رأس جبل الجليد، فإنهم قوة مهيمنة. وتلك مسألة يمكن للانتخابات ال�رة والنزيهة و�دها، المقرر الآن مبدئياً أن تجري في تشرين الثاني (نوفمبر)، أن ت�سمها. بيد أن معظم التقديرات لا تزال ترشّ� الإسلاميين لت�قيق أقلية كبيرة في البرلمان الجديد، ولكن ليس غالبية مطلقة.

الإعلام والا�تجاجات



الصورة د ب ا
الثورات العربية كشفت عن عمق الصراع والخلاف بين أشكال الإعلام العربي

​​

التأثير الإعلامي للا�تجاجات ي�تاج أيضاً إلى تقويم. إذ لا بدّ من أن تجد هتافات "إسلامية، إسلامية" صدىً لها لدى المواطنين المتديّنين بشكل عادي في كل ان�اء مصر والعالم العربي. لكنها من نا�ية أخرى، ربّما تنفّر قطاعات واسعة من الرأي العام المصري والعربي أيضاً من نموذج الدولة والمجتمع الذي يقدّمه الإسلاميون: جعل الشريعة قانون الدولة وتمكين رجال الدين. ومع ذلك، فقد أطلقت ا�تجاجات الجمعة العنان لصراع واض� �ول مصير الربيع العربي: كان هناك توافق في الآراء في المر�لة الاولى �ول هدف إطا�ة الطغاة، ولكن ليس هناك توافق في الآراء في المر�لة اللا�قة �ول ماهيّة نظام ال�كم والمجتمع الذي سي�ل مكان الانظمة البائدة.

 

ثمّة انقسام وتنوّع بين الإسلاميين كذلك. فقد كانت ا�تجاجات يوم الجمعة الماضي استعراضاً للقوة ولكن ليس استعراضاً لو�دة الصف الاسلامي. وفي الواقع، ربما أضرّ السلفيون والمتطرّفون بالفرص الانتخابية للإسلاميين المعتدلين عبر اختطاف ال�دث لمصل�ة شعاراتهم المتطرّفة. في الواقع، يرى أعضاء جنا� معتدل وشاب في جماعة "الإخوان المسلمين" الكثير من القواسم المشتركة مع إخوانهم وأخواتهم المؤيدين للديموقراطية والعلمانيين الذين اشتركوا معهم في الثورة. وهم يتصورون قيام ديموقراطية تعددية شاملة يمكنهم أن يشاركوا فيها كإسلاميين، إلى جانب الأ�زاب الأخرى، لطر� أفكارهم. إنهم يتطلّعون إلى النموذج التركي، ويتمنّون أن تصب� جماعة "الإخوان المسلمين" أشبه ب�زب "العدالة والتنمية". وثمة اتجاه أكثر ت�فّظاً داخل جماعة "الإخوان" يقبل التعددية ال�زبية، لكنه يعتقد بقوة أن الدستور والقوانين يجب أن تتبع الشريعة الإسلامية بصرامة. أما الجماعات الأكثر تطرّفاً بين السّلفيين والجهاديين فترفض الديموقراطية المتعددة الأ�زاب وتريد إقامة دولة إسلامية كاملة. وليس واض�اً كيف سيتعاطى التيار الإسلامي في مصر مع هذه الاتجاهات المتباينة في الانتخابات المقبلة.

 

مسؤولية "الإخوان المسلمين"

 

الصورة د ب ا
الإخوان المسلمون في مصر هل ستحتذي طريق حزب العدالة والتنمية التركي؟

​​ثمّة مسؤولية قوية تقع على عاتق جماعة "الإخوان المسلمين"، بوصفها أكبر جماعة إسلامية في مصر، لتوضي� موقفها في الأسابيع المقبلة. فهل ستتعامل مع الاتجاهات الداخلية بطريقة ديموقراطية وشاملة، أم أنها ستعود إلى الأساليب السلطوية والأبوية القديمة؟ هل ستظل جزءاً من الت�الف السياسي الواسع الذي أطلق الثورة، أم أنها ست�اول، بعد أن تمّت إزا�ة الديكتاتور، خطف الثورة في اتجاهها؟ وهل ترى نفسها أكثر في نموذج �زب "العدالة والتنمية"، أم في النموذج القديم لجماعة "الإخوان المسلمين" او السلفيين او "�ماس" او غيرها؟

إن رفع شعارات إسلامية، وبخاصة إذا كانت متواصلة وت�ظى بتغطية إعلامية قوية، سيكون له تأثير كبير على الرأي العام والتطورات في بلدان أخرى. ففي سورية، تصارع الانتفاضة هناك التوتر القائم بين التيارات الإسلامية وبين الت�الفات الأوسع المؤيدة للديموقراطية التعددية. وتُواجه تونس أيضاً عدم يقين من الدور المستقبلي ل�زب النهضة ونفوذه. لقد بدأت ثورات أُخرى في التاريخ ديموقراطية شاملة وانتهت باختطافها من قبل مجموعة وا�دة واستبعاد الآخرين. كان هذا هو �ال الثورة الروسية في عام 1917، والثورة الإيرانية في عام 1979، وغيرهما الكثير. وثمّة خطر يكمن في ا�تمال تكرار النموذج في �الة الربيع العربي.

ربّما تر�ب بعض القوى الم�افظة في العالم العربي، ولا سيما في منطقة الخليج، بمثل هذا التطوّر. إذ من شأنه أن يُبطئ موجة «الدمقرطة» من خلال إظهار أنها ستؤدي ببساطة إلى الأسلمة. ومن شأنه أيضاً أن يعزّز وجهات النظر الإسلامية في مواجهة الأفكار العلمانية. ومع ذلك، يجب على القوى الم�افظة في الخليج أن تكون �ذرة مما تتمناه، فمصر الإسلامية قد تواجه ت�ديات جسيمة في إدارة علاقاتها الإستراتيجية والاقتصادية. ومن الم�تمل أن تطوّر أوضاعاً سياسية واقتصادية مماثلة لتلك التي في باكستان. وينبغي على أص�اب النفوذ في منطقة الخليج أن يقدّروا إن كان في مصل�تهم أن توجد باكستان أخرى في جوارهم، بدلاً من تركيا أخرى.

 

إن لوسائل الإعلام في منطقة الخليج ايضاً، مثل قناة "الجزيرة" مثلاً، أدواراً ومسؤوليات مهمة. فقد كانت "الجزيرة" وسيطاً رئيساً في إثارة ريا� الربيع العربي، وتسليط الضوء على الطابع الديموقراطي والتعددي له. وفيما يتطور الجدل الدائر داخل ال�ركات الإسلامية، فضلاً عن الجدل الدائر بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، ينبغي على "الجزيرة" والشبكات الأخرى المؤثّرة أن تدرك أن لديها دوراً مهمّاً في تأطير النقاش وإشراك شري�ة واسعة من الأصوات والاتجاهات. في الماضي كانت وسائل إعلام الدولة تبني الرأي العام داخل �دودها، لكن وسائل الإعلام العربية كسرت تلك السيطرة. ولديها الآن مسؤولية التأكد من أن توافق الآراء الذي تم بناؤه ضد الديكتاتورية العربية، ينمو ليت�وّل إلى قبول واسع بالديموقراطية والتعددية، كي لا يأخذنا الربيع العربي من وضع سيء إلى آخر أسوأ، بل أن تشكّل الانتفاضة ضد الديكتاتورية جسراً لبناء انظمة ديموقراطية متفاعلة ومجتمعات �رة ومُنتجة.

 

بول سالم

�قوق النشر: ص�يفة ال�ياة اللندنية  2011

 

 مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان