ترجمة الشعر الإسلامي...ضرورة المواءمة مع روح العصر

حين يقرأ الألمان والغربيون ترجمة الشعر الشرقي والإسلامي الكلاسيكي في لغاتهم فإنهم يجدونها منمّقة ومبهرجة وفضفاضة ومليئة باللغة الطنانة المزخرفة غير المتناسبة بالضرورة مع لغة قراء العصر. ويرى الكاتب والمترجم الألماني شتيفان فايدنر أن سبب ذلك يعود إلى أسلوب الترجمة في الوقت الحالي الذي لا يزال يقتدي بأسلوب الترجمة في القرن الثامن عشر، حين ذاع في الغرب صيت الشعراء الإسلاميين بأنهم عباقرة الإحساس والوجدان والرومانسية. ويرى أنه ينبغي موائمة الترجمة من اللغات العربية والفارسية والتركية الكلاسيكية للقراءة على نحو لا يتشابه كثيرا مع النص الأصلي بقدر ما يتشابه مع سياق اللغة الغربية المستهدفة.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Weidner

أمازال هناك من يعرف تلك الملاحم، التي يُفترض أنها سلتية قديمة زُعم أنها من أعمال المؤلف الأسطوري أوسيان؟ المؤلف الحقيقي لتلك الملاحم هو ماكفيرسون الاسكتلندي الذي ادعى ترجمتها. ولكن بسبب ذلك التضليل على وجه التحديد، حققت أشعار أوسيان نجاحا ساحقا في القرن الثامن عشر.

ويعد هذا المثال مثيراً للاهتمام إلى حد كبير، حيث تتكشف فيه الترجمات بالشكل المفترض أن تكون عليه دوما: ادعاء، مشكوك فيه إلى حد كبير، بأحقية الدخول إلى عالم آخر وأجنبي وجديد. وإذا انطلقنا من المفهوم الساذج للترجمة كقناع لغوي حديث لجسد أدبي أجنبي، فسنجد أننا لا نمتلك في مثال أوسيان، سوى القناع.

فلنظل إذن في القرن الثامن عشر المثير للدهشة. إن المستشرق الفرنسي أنطوان غالاند، الذي عمل لفترة طويلة بالمفوضية الفرنسية في اسطنبول، عاد إلى باريس وفي جعبته مخطوطة لـروايات ألف ليلة وليلة. اتجه غالاند إلى ترجمتها وفقا للتيار الأدبي لعصره ــ وهو أسلوب ترجمي اتُهم فيما بعد بلفظ belle infidèle أو المرأة غير المخلصة.

وبالتالي نجد أن قصص ألف ليلة وليلة تعد مثالا آخر حذا حذو أوسيان. ونلاحظ في هذا الصدد أن النجاح الساحق الذي حققته الأساطير في جميع أنحاء أوروبا يرجع في الواقع إلى طبيعة الترجمة التي تستند إلى زمن محدد.

الترجمة الموائِمة والترجمة المخلِصة

فإذا كان غالاند قد أقدم على ترجمة قصص ألف ليلة وليلة على النحو الرصين "المخلص"، الذي قدمت به كلاوديا أوت ترجمتها في عام 2004، لكان بإمكاننا أن نتأكد أن قصص ألف ليلة وليلة لم تكن لتحظى بذلك الاستقبال الذي حظت به بالفعل ــ تماما مثلما نفتقر في الحاضر إلى تقدير ذلك الأسلوب الترجمي الذي اتبعه غالاند ومعظم خلفائه، وهو ما عبر عنه بورج بوضوح في مقاله حول مترجمي ألف ليلة وليلة.

رمز لحكايات ألف ليلة وليلة
يعود فضل النجاح الساحق الذي حققته قصص الأساطير (مثل حكايات ألف ليلة وليلة) في جميع أنحاء أوروبا في الواقع إلى أسلوب الترجمة المرتبط بزمان القراءة.

أما التساؤل بشأن أفضلية أسلوب من الأسلوبين على الآخر، فيتعلق في جوهره بالهدف من الترجمات وما تعمل على تحقيقه. يجب أن يُؤخذ في الاعتبار أن روايات ألف ليلة وليلة نصوص تصبغها بالبساطة اللغوية إلى حد ما. وإنه لأمر مفروغ منه أن تلعب الصيحات الأدبية والتوقعات اللغوية دورا أكبر بكثير في الترجمات الشعرية.

قياسا على ترجمات ألف ليلة وليلة يسعنا أن نفترض أن الشعر الشرقي في اللغات الغربية تم موائمته للقراءة على نحو لا يتشابه كثيرا مع النص الأصلي بقدر ما يتشابه مع سياق اللغة المستهدفة. وإنه ليس من قبيل الصدفة أن ينتعش الاستقبال الأدبي للمشرق في نفس الفترة وعلى أيدي أولئك الأبطال الذين سقطوا فريسة لتزوير أوسيان.

فكلاهما يمثل بداية الانتفاضة ضد نزع السحر عن العالم وضد الانتقاص من قيمة العاطفة لصالح العقل. لقد كان مصطلح "التعاطف" هو الكلمة السحرية التي صاغها هيردر في هذا السياق. حيث ظن هيردر أنه قد لمس أصالة تلك العاطفة الحقيقية في أشعار الكتاب المقدس، كالتي لمسها في قصائد أوسيان. وتحول الشعر إلى "لغة الأم" للجنس البشري، استنادا لإحدى مصطلحات يوهان جيورج هامان الشهيرة.

واعتُبرت شعوب المشرق في هذا الصدد بمثابة مصادر للأصالة، لا يُعلى عليها. وضمن تعليق على مجموعته من الأغاني الشعبية، صاغ هيردر الأمر على هذا النحو: "إن مقدار الأشعار والكنوز الشعرية التي تزخر بها تلك النزعة الغوغائية ويختبئ في طيات جنون الأساطير والتراث واللغة والعادات وغرائب كافة الهمج، يفوق أية شعريات وموشحات دينية في كافة العصور: إنني لموقن، أن من يُقدِم على جمع تلك الأنماط من الهوس، ومن القصائد، ومن الأوهام والأحكام المسبقة، من بين جميع الأمم، بشيء من الإدراك العملي: لسوف يُسدي خدمة للعقل البشري، لن تُسديها له في الغالب العشرات من المنطقيات والجماليات والأخلاقيات والسياسات".

بداية لانتهاء التفوق العرقي

لا يسعنا تخطي تلك الإشارة المناهضة للتنويرية التي اختبأت في طيات هذا التصريح. فهو ينطوي على جانبين. أحدهما واجهة جميلة، تتمثل في حماية هيردر لأية أشعار أجنبية من مواجهة نقد يميل إلى تعصب عقلاني أو غيره من التعصبات. وهو بذلك، يفتح مجال مواطنة أمام الشعر الأجنبي، وإن بدا غريبا أو مبهما لبعض الأشخاص. ولذا تعين جمع الأشعار دون تحيز، بما في ذلك تلك التي لم تخلو الأحكام المسبقة.

يوهان غوتفريد هيردر. Photo: Imago
يقول شتيفان فايدنر إن "كل شعر لم ينبع من المجال الثقافي الأوروبي يتعرض لخطر وصمه "بكافة أنماط الهوس"، وذلك بمجرد دخوله ذلك المجال الذي تفتح على يد هيردر".

وهذا ليس سوى بداية لانتهاء التفوق العرقي. إلا أن هذا الانفتاح له ثمن، ويتمثل في الخلفية المظلمة لذلك التصريح. فكل شعر لم ينبع من المجال الثقافي الأوروبي يتعرض لخطر وصمه "بكافة أنماط الهوس"، وذلك بمجرد دخوله ذلك المجال الذي تفتح على يد هيردر. رغم أن الشعر الأجنبي عن الغرب قد أصبح بذلك موضعا للترحيب، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، قد تم حجبه عن المشاركة في التعقل الغربي. حيث بات الغرب مسؤولا عن العقل، والمشرق عن العاطفة.

ونرى من خلال ذلك أن هيردر يكاد يكون قد وجد ذخيرة هجومه على "المنطقيات والجماليات والأخلاقيات والسياسات" العقلانية في أي موضع. إن الكتاب المقدس من شأنه كذلك أن يكون مسؤولا عن العاطفة، مثله مثل "الهمج" أو قصائد أوسيان، التي لم تتفتح بعد باعتبارها مادة مزورة، أي بعبارة أخرى السلتية.

فقد تحول مشرق الشعور إلى استعارة، ظلت صفتها المجازية في كثير من الأحيان متوارية ومختلطة حتى الآن بالمعنى الحقيقي للكلمة، كموقع جغرافي وثقافي. اعتُبر نشيد الإنشاد المنسوب لسليمان نموذجا للشعر الشرقي وعلى ذلك لغة أم للجنس البشري، وهو ما تحول في هيئة ترجمة هيردر إلى تجسيد لشعر المشرق ككل. وربما ترجع جذور ذلك الجانب المنمق، والذي مازال يُنسب للشعر الشرقي إلى ذلك. فلقد كتب في تعليقه: "ربما أُرسلت تلك التنهدات مع زهرة متلهفة أو وردة صباح عطرة"حيث أن "إرسال شعوب المشرق لمثل هذه الرسائل ومراسلات الحب داخل هدايا من الزهور، هو أمر معروف لدينا من خلال رسائل مونتاغو وغيرها".

وليُصبح لدينا فكرة حول مدى افتقار "تعاطف" هيردر إلى المنطق، يجب أن نضع نصب أعيننا أن نشيد الإنشاد قد كُتب في وقت ما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد، وأن الليدي ماري وارتلي مونتاغو، التي يشير هيردر إلى خطاباتها، قد توفيت عام 1752. يُضاف إلى ذلك أن النص موضع الجدل يرجع إلى رسالة حب تركية تعود إلى تلك الفترة التي تميزت بالهوس بالزهور وعُرفت باسم عصر زهرة التيوليب في بداية القرن الثامن عشر باسطنبول.

إن الزهور لعبت بالفعل دورا في نشيد الأناشيد وربما كان ذلك كافيا لاستيعاب افتراض اللغة المنمقة، إذ كان بمثابة اتهام لحق بشعر المشرق، إلا أنه يُشير فيما بعد إلى اللغة الغنية بالصور والمتشبعة بالاستعارات. ولكنه من الواضح أن هيردر لم يكتف بذلك. وكأنه افتتح متجرا كاملا من الزهور من خلال تعليقه على نشيد الإنشاد. ذلك لأن الطبيعة، كما هو معروف، قد عملت على خدمة الأدب المناهض للعقلانية وبشكل لا يقل عن الشعر.

ديوان حافظ. Photo: Wikimedia
يقول شتيفان فايدنر إن " الشعر الشرقي، ولا سيما شعر حافظ، ليس بعاطفي أو وجداني. حيث أن مفهوم الذات أو الأنا الأدبية في الشعر الشرقي ليس له أدنى علاقة بما تتميز به أشعارنا منذ القرن الثامن عشر".

وإن لم يكن الشعر الشرقي ــ الإسلامي منمقا، فما هو إذن؟ حينما بدأ اهتمام أوروبا الوسطى به، كان تاريخ الشعر الشرقي ــ الإسلامي قد امتد بالفعل إلى الألف عام، وذلك من خلال ثلاثة لغات ثقافية عظمى: العربية والفارسية الحديثة والعثمانية ــ التركية.

شعارات وتعبيرات طنانة

وليس المرء بحاجة لقراءة أي أبيات منه ليدرك أن تلك الظواهر الأدبية التي امتدت على مثل هذه الفترات الزمنية الطويلة وعلى مناطق جغرافية مترامية الأطراف من إسبانيا وحتى نيو دلهي، لا يجوز وصفها من خلال بضع تعبيرات طنانة وشعارات. دعونا نتناول شعر حافظ للمزيد من الشرح والإيضاح.

تقتصر معرفتنا بأشعار حافظ، بشكل عام، على الديوان الشرقي للمؤلف الغربي لغوته، حتى وإن خلا من نصوص أصلية لحافظ، فيما عدا من بعض الاقتباسات.. حتى أن أولئك الذين سبق وقرأوا ترجمات حقيقية لأعمال حافظ (هناك العديد، ولكن أيا منها ليس منتشرا على نطاق واسع) لن يريدوا بالكاد أن يزعموا معرفتهم به استنادا إلى هذه الأعمال. وإن حدث ذلك، فيُجوز لنا أن نتهمهم بالسذاجة.

إذ ليس بالإمكان تقييم أعمال حافظ دون الإلمام بالفارسية، إلا إذا قُورنت عدة ترجمات جنبا إلى جنب على تعدد لغاتها وعصورها. فإذا اتجهنا حينئذ إلى مقارنة أعمال حافظ بالتيارات الأدبية التي مهدت الطريق لاستقباله، لأصبنا بالدهشة. هل ينتمي حافظ إلى عصر العاطفة؟ أم إلى عصر العاصفة والاندفاع؟ أم إلى عصر الرومانسية؟

سواء في أعمال حافظ أو في الأمثلة القليلة الأخرى للشعر الشرقي التي تُرجمت في ألمانيا في ذلك القرن الحاسم، ما بين 1760 ووفاة فريدريش روكرت في عام 1866، فإن كلاهما لا يُشير إلى تداخل أو تشابه واضح مع التيارات الأدبية الألمانية السالف ذكرها. بل إن شعر العصور الإسلامية الوسطى يشبه بالأحرى تلك القصائد الشعرية التي حاول شعراؤنا في ذلك الوقت أن ينأوا بأنفسهم عنها، من الشعر الباروكي والمتكلف. إن الشعر الشرقي، ولا سيما شعر حافظ، ليس بعاطفي أو وجداني. حيث أن مفهوم الذات أو الأنا الأدبية في الشعر الشرقي ليس له أدنى علاقة بما تتميز به أشعارنا منذ القرن الثامن عشر.

الشعر الأجنبي المترجم إلى الألمانية

بالمقارنة مع أشعار حركتي العاصفة والاندفاع والرومانسية، تتجه الأشعار الفنية الشرقية، وتتمثل ذروتها في أعمال حافظ، إلى أسر الشاعر داخل قيود من القواعد التقليدية. فلا تتجلى العبقرية الشعرية بعنفوان وفردية بل من خلال تحرك الشاعر ببراعة في إطار من الضوابط، وكأنه لا وجود لتلك القيود.

 لقد امتثل الشعر في لغات الإسلام حتى القرن العشرين إلى ضوابط شعرية قياسية، أهملها هيردر في طعنه الموجه ضد "الشعريات والموشحات الدينية" بشكل يكاد يتزامن مع اكتشاف ذلك الشعر. لا نجد في الشعر الشرقي الكلاسيكي سوى القليل مما يُشير إلى التجديد والانطلاق إلى الثورة الأدبية، حتى وإن أشارت الترجمات لذلك أو قُرأت في هذا الصدد.

إن قدرة الشعر الشرقي بشكل عام، وشعر حافظ بشكل خاص، على الاندماج في الأدب الألماني ما بين العاصفة والاندفاع والرومانسية المتأخرة، يرجع إلى اثنين من العوامل لا علاقة لهما البتة بالأعمال الأصلية. أحدها ما يسمى بالاقتلاع الثقافي. حيث أن سياقات تلك الأشعار الأصلية لا تكاد تكون معروفة، مما يفتح المجال بشكل خاص أمام تعدد التفاسير. فنستطيع أن نفعل بها ونقرأ فيها ما نشاء، ولا يسعها الدفاع عن نفسها.

أما العامل الثاني الحاسم في مسألة استقبال شعر حافظ والشعر الشرقي، يتمثل في الترجمة نفسها. حيث أن وقوعها في مجال التيارات الأدبية المذكورة وفي طي ذلك الانقسام ما بين العاطفة والعقل الذي أطلقه هيردر، يُمثل خطورة بالغة على استقبال الأدب الشرقي والدوائر الثقافية الإسلامية في ألمانيا.

إن محاولة المترجمين القلائل للأدب الشرقي ملاءمة المادة الترجمية لتصبح قابلة للقراءة في إطار روح العصر ومن قبل مجتمعهم اللغوي، وكذا تكييفها والتلاعب بها، أمر لا يمكن تجنبه. وإنه لمن غير التاريخية اعتبار تلك الموائمة اتهاما يُقذف به المترجمون.

بل بالأحرى ينبغي علينا أن نمتن لاتجاههم للترجمة وفقا لروح العصر. فلو كانوا قد حاولوا ترجمة الشعر الشرقي مثلما ترجم هولدرلين الأعمال الإغريقية، لما وجدت أعمالهم أدنى صدى، وهو ما حدث مع هولدرلين. ولظل ذلك المجال الذي افتتحه هيردر من أجل الشعر الأجنبي المترجم إلى الألمانية، غير القابل للمقارنة، غير مطروق.

 شتيفان فايدنر. Privat
درس الباحث الألماني شتيفان فايدنر العلوم الإسلامية والأدب الألماني والفلسفة في غوتنغن وبيركيلي ودمشق وبون. ويعمل حاليا كاتبا ومترجما وناقدا أدبيا في كولونيا. ومنذ عام 2001 يعمل رئيسا لتحرير مجلة "فكر وفن" الثقافية التي يشرف على إصدارها معهد غوته الألماني باللغات العربية والفارسية والإنكليزية.

على الرغم من صحة استنادنا في تصورنا حول الشعر الشرقي إلى تلك الحقبة، على الرغم من أنه تشوبه في كثير من الأحيان بعض البساطة والتشويه. إلا أن مسؤولية عدم تحول وصقل ذلك التصور، كما حدث مع أعمال شكسبير على سبيل المثال، تقع على عاتق جيل الأدباء والمترجمين والمستشرقين، الذين جاءوا بعد ذلك ولم ينجحوا في تحقيق ما تميز به المترجمون الأوائل: ألا وهو الارتقاء إلى مستوى عصرهم ولغة حاضرهم الأدبية.

إذا كان من الممكن ترجمة أعمال حافظ إلى لغتي العاصفة والاندفاع والرومانسية، فإنه من الممكن أيضا ترجمتها إلى لغتي التعبيرية أو الموضوعية الجديدة. إذ أن حافظ شاعر، كان ليلاءم الطليعة الفيناوية بشكل جيد للغاية، حيث أن ألعابهم اللغوية في الألمانية هي الأقرب مقارنة بتلك الخاصة بهانز كارل آرتمان أو راينهارد بريزنيتس. أما عن عدم تحقق مثل ذلك الاستقبال، فهذا يعود من ناحية إلى عدم إجادة شعرائنا من مرحلة ما بعد الحرب، لأي من لغات العالم الإسلامي.

الاسترشاد بالأسلاف وعدم تبني العصرية

ومن ناحية أخرى، لم يتجه أحد من مستشرقينا إلى تبني أشعار عصرنا ولغتنا الأم حتى ولو بشكل مبدئي، أو الاستلهام منها. في مقابل ذلك، نجد أن اتجاه أولئك المترجمين والمستشرقين إلى الاسترشاد بالأسلاف ذوي الصبغة الكلاسيكية والرومانسية، كما يتضح بجلاء في أعمال كل من أنيماري شيمل ويوهان كريستوف بورجل، له سبب وجيه. حيث أن ذلك الشكل الترجمي الذي طُور آنذاك، هو ذلك الذي التقى في طياته الشعر الشرقي باللغة الألمانية؛ وهو أيضا حيث التقوا بالشعر على الإطلاق.

ألا تعطينا تلك الصرامة الرسمية في الشعر الشرقي، الحق في البحث عن السند لدى الكلاسيكيين وسادة الأشكال الأدبية لدينا؟ وألم يتسبب قدم ذلك الشعر في جعل ترجمته إلى لغة كلاسيكية أكثر قدما أمرا غير ضروري؟ إنه لأمر مفروغ منه، أن تلك اللغة الكلاسيكية المفترضة، التي تُترجم إليها حتى الآن الأشعار الشرقية الأكثر قدما، ما هي إلا استنساخ، لا حياة فيه، للغة عصورنا الكلاسيكية والرومانسية. وقد نتج عن ذلك تشوه تجلى منذ سنوات قليلة في تلك المجموعة المختارة من شعر الحب الشرقي، التي يظهر طابعها المنمق في عنوانها: ذهب على لازورد.

ولا يسعنا أن نلوم من يعتقد في ضوء هذه النصوص أنه يفتقر إلى الاهتمام بالأدب الشرقي. فمن جهة أخرى برهن العالم اللغوي الإنجليزي ــ الفرنسي منذ فترة طويلة على إمكانية ترجمة الشعر الإسلامي الكلاسيكي ترجمة عصرية. وإذا ما خلت بلادنا من الترجمات المعاصرة التي تمثل ذلك الشعر، فإن ذلك لا يجوز أن يُعزى إلى المترجمين والمستشرقين ودور النشر المترددة والمتخوفة فحسب: فهو يُظهِر لنا أيضا، مدى افتقار بلادنا حتى الآن إلى التشابك والتواصل بين فقه اللغة والأدب الحيوي والفضول الفكري، على عكس عصرنا الكلاسيكي.

 

 

شتيفان فايدنر

ترجمة: هبة شلبي

حقوق النشر: معهد غوته/ مجلة فكر وفن 2013