الحرب الباردة الثانية على الأبواب؟

ترى الخبيرة الألمانية نورا مولر في تعليقها التالي أن من مؤشرات بداية حرب باردة ثانية بين روسيا والغرب: الأزمة الأوكرانية والمغازلة الحكومية المصرية-السعودية-الإسرائيلية لروسيا. لكنها تتوقع زيادة المشاعر المعادية لروسيا في أوساط الشعوب العربية، التي "رأت في إسقاط يانوكوفيتش ضربة لقوة موسكو الحامية لنظام الأسد البغيض"، وهي مشاعر ستتعزز إذا تعرضت حقوق أقلية تتار القرم المسلمين للانتهاك.

الكاتبة ، الكاتب: Nora Müller

بينما تشتد التوتّرات بين روسيا والغرب بسبب الأزمة في شبه جزيرة القرم، يزداد الحديث كثيرًا حول "الحرب الباردة". من الممكن أن تكون للنسخة الجديدة من المواجهة بين الشرق والغرب عواقب لا يمكن التنبؤ بها، ليس فقط بالنسبة للأمن والاستقرار في أوروبا. وفي حال وصلت الأمور في الحقيقة إلى حرب باردة جديدة، فعندها من الممكن ملاحظة تداعيات ذلك بصورة مباشرة في منطقة الشرق الأوسط أيضًا. ومن الممكن أن تصبح هذه المنطقة مرة أخرى مسرحًا لصراع على السلطة والتجاذبات السياسية بين واشنطن وموسكو.

فقد بات من الممكن الآن ملاحظة أولى الدلائل التي تشير إلى هذه اللعبة الكبيرة بين الولايات المتَّحدة الأمريكية وروسيا في الشرق الأوسط. في الأعوام الماضية، عملت روسيا وبشكل ممنهج على زيادة وجودها في المنطقة. كما أنَّ فتور العلاقات بين الولايات المتَّحدة الأمريكية بشكل ملحوظ مع بعض أهم شركائها الإقليميين، وخاصة المملكة العربية السعودية وكذلك إسرائيل ومصر، يأتي في مصلحة موسكو.

تسعى السياسة الروسية في الشرق الأوسط، تمامًا بما يتماشى مع جدول أعمال بوتين الإمبريالي الجديد، إلى توسيع مجال نفوذ روسيا، من أجل فتح أسواق جديدة وكذلك - من وجهة نظر الكرملين - لوضع حدّ للتدخلات الغربية غير المرغوب فيها، والتي ظهرت تحت ستار ما يسمى بـ"مسؤولية الحماية"، مثلما كانت الحال في ليبيا.

"لعبة كبيرة" في الشرق الأوسط

يمثِّل موقف روسيا المتشدّد في النزاع السوري تتويجًا لهذه السياسة. إذ أن الدعم الروسي الصريح لنظام دمشق عمل على تمكين الأسد من البقاء في السلطة. ولكن وقبل كل شيء فإنَّ هذا الموقف يجعل موسكو طرفًا فاعلاً لا يمكن الاستغناء عنه في  معالجة تداعيات الأزمة في سوريا. كذلك تلعب روسيا دورًا مهمًا وفي الوقت نفسه متناقضًا في المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني. لقد خرجت روسيا في الماضي وفي أكثر من مناسبة - وأحيانًا بالتعاون مع الصين - عن إجماع فريق المفاوضين، وذلك من أجل الحيلولة دون فرض مزيد من العقوبات على ايران.

وفيما يتعلَّق أيضًا بالتوصّل إلى اتّفاقية دائمة بشأن البرنامج النووي الإيراني - اتّفاقية من المفترض توقيعها وتوثيقها حتى تاريخ 20 تموز/ يوليو 2014، لم يتم حتى الآن إيجاد حلّ لجميع الخلافات القائمة بين روسيا والدول الغربية المشاركة في هذه المفاوضات.

ولكن في الواقع، إنَّ تزايد نفوذ موسكو في المنطقة لا يقتصر على الأزمة السورية والنزاع حول البرنامج النووي الإيراني. إذ أن موسكو تحاول وبشكل متزايد كسب موطئ قدم لها أيضًا في مصر، التي خرجت عن مدار السياسة الخارجية الروسية بعدما تخلى السادات عن نهج جمال عبد الناصر الموالي للاتحاد السوفييتي.

Logo des größten russischen Mineralölkonzerns "Lukoil"; Foto: NIKOLAY DOYCHINOV/AFP/Getty Images
تعتبر شركة النفط الروسية "لوك أويل" واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، وقد حصلت في الأعوام الأخيرة على عدد من العقود المربحة في الشرق الأوسط. كذلك تحاول شركة غازبروم الروسية التحكّم بتدفق الغاز إلى أوروبا من حقول الغاز العملاقة الموجودة في شرق البحر المتوسط، وذلك من أجل فرض سيطرتها على المنافسين المحتملين.

لقد أتى تقليص الولايات المتَّحدة الأمريكية للمعونة العسكرية للقاهرة بنسبة عدة مئات من ملايين الدولارات بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي من قبل الجيش المصري، في مصلحة روسيا. وذلك لأنَّ روسيا لا تتوجَّه في تعاونها مع شركائها الإقليميين إلاَّ بحسب مصالحها السياسية. وفي هذه المعادلة لا يوجد أي مكان لقيم ومبادئ مثل سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان.

مصالح سياسة الطاقة

في منتصف شهر شباط/ فبراير 2014، سافر القائد العام السابق للقوات المسلحة المصرية، عبد الفتاح السيسي إلى موسكو من أجل التفاوض على صفقة سلاح بملياري دولار. تجدر الإشارة بصورة خاصة إلى أنَّ مصر المتعبة اقتصاديًا لم تكن قادرة أبدًا على تحمّل نفقات مثل صفقة السلاح هذه المكلفة، من دون الدعم المالي الهائل الذي تتلقاه من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. وبما أنَّ الرياض قد وافقت على هذه الصفقة مع روسيا وقامت بتوفير جزء من الأموال الضرورية لها، فمن الممكن أن يُفهم ذلك على أنَّه وخزة مسمارية من المملكة الوهابية للولايات المتَّحدة الأمريكية.

وعلى الرغم من بعض التجارب المتعِبة لإسرائيل - مثل موقف موسكو المؤيّد للفلسطينيين في نزاع الشرق الأوسط وسياستها تجاه إيران التي تزعج الحكومة الإسرائيلية منذ فترة طويلة، إلاَّ أنَّ العلاقات بين روسيا وإسرائيل قد تحسَّنت بشكل ملحوظ أيضًا في الأعوام الأخيرة. فقبل تسعة أشهر من زيارة أوباما الأولى إلى إسرائيل، كان بوتين في شهر حزيران/ يونيو 2012 ضيفًا في تل أبيب والقدس.

وفي شهر شباط/ فبراير اللاحق، قامت شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم بتوقيع عقد مدته 20 عامًا لاحتكار تسويق الغاز المسال من حقل تامار الإسرائيلي. وبالتأكيد لم تكن هذه صدفة. لأنَّ شركة غازبروم تحاول التحكّم بتدفق الغاز إلى أوروبا من حقول الغاز العملاقة الموجودة في شرق البحر المتوسط، وذلك من أجل فرض سيطرتها على المنافسين المحتملين. ومن الواضح أنَّ هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تنجح إلاَّ من خلال وجود علاقات متينة مع إسرائيل.

وفيما يتعلّق بسياسة الطاقة تمكنت موسكو أيضًا في العراق - الذي كان يُعدّ حتى سقوط صدام حسين من أهم جسور روسيا الرئيسية في المنطقة - من استعادة هذه الأرض المفقودة. فقد حصلت شركة "لوك أويل"، التي تعدّ أكبر شركة نفط في روسيا، على عدد من العقود المربحة في الأعوام الأخيرة، من بينها عقد لاستخراج النفط من حقل غرب القرنة 2.

كما أنَّ توسيع روسيا لحضورها في دول الخليج يتناسب أيضًا مع هذه الصورة. وفي عام 2007 قام بوتين - كأول رئيس روسي على الإطلاق - بزيارة لدول مجلس التعاون الخليجي، وأعطى بذلك إشارة البدء للاستمرار في تعميق العلاقات مع دول الخليج. وأخذت هذه العلاقات طابعًا مؤسَّساتيًا في عام 2011 مع إطلاق الحوار الاستراتيجي بين روسيا دول مجلس التعاون الخليجي.

وبناءً على ذلك فماذا يعني هذا بالنسبة للشرق الأوسط إذا تطوّرت التوترات الحالية بين موسكو وواشنطن إلى حرب باردة جديدة؟

نورا مولر. Foto: Körber-Stiftung
تعمل الخبيرة السياسية الألمانية، نورا مولر مديرة برنامج في مجال السياسة الدولية في "مؤسسة كوربر" في برلين.

من الممكن لروسيا على المدى القصير أن تستغل الصراع السوري وكذلك المفاوضات الإيرانية النووية، من أجل ممارسة الضغط على الولايات المتَّحدة الأمريكية. ومن وجهة نظر موسكو، ستكون خطوتها المنطقية عدم التعاون في هذين الأمرين، من  أجل الحصول على تنازلات فيما يتعلق بالأوضاع في أوكرانيا. وإذا لم توافق الولايات المتَّحدة الأمريكية على ذلك، يمكن لروسيا مثلاً التقليل من ضغطها على الأسد، والتعاون في تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، ويمكنها من خلال ذلك كأمر واقع تقويض معاهدة الأسلحة الكيماوية التي تم إبرامها في شهر آب/ أغسطس 2013.

ومع ذلك فإنَّ احتمال قيام موسكو بنسف المفاوضات مع إيران لحسابات تكتيكية يبدو احتمالاً ضعيفًا، وذلك لأنَّ التوصّل إلى حلّ دائم للنزاع النووي الإيراني سيكون من مصلحة روسيا أيضًا. ولكن مع ذلك، قد تحاول روسيا إفشال التقارب الأمريكي الإيراني، من خلال توسيع علاقاتها الخاصة مع طهران. لذلك على الأرجح أنَّ موسكو تراهن على عروض تعاون واسعة النطاق مع إيران. ففي شهر كانون الثاني/ يناير 2014 انتشرت تقارير مفادها أنَّ روسيا وإيران تتفاوضان على إبرام صفقة لتبادل النفط مقابل السلع، تضمن لجمهورية إيران الإسلامية الحصول على بضائع روسية مقابل إمدادات النفط الإيراني إلى موسكو.

"لا بديل عن الولايات المتَّحدة الأمريكية لضمان الأمن"

وعلى المدى المتوسط من الممكن أن تؤدِّي الحرب الباردة الجديدة مرة أخرى إلى تشكيل معسكرات في الشرق الأوسط: أي حلفاء أمريكا ضدّ حلفاء روسيا. ومن الممكن أن يكون أي انقسام إضافي أمرًا وخيم العواقب في هذه المنطقة التي تتميّز الآن نظرًا إلى العديد من الصراعات السياسية والدينية والعرقية بانعدام ثقة عميق لدى الأطراف الإقليمية الفاعلة. لأنَّ ذلك سيزيد من صعوبة التعاون الصعب على أية حال بين دول المنطقة في حلّ المشكلات الإقليمية، وسيجعل إنشاء هياكل أمنية تعاونية شاملة أمرًا مستحيلاً تقريبًا.

من الواضح أنَّ المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، وكذلك أيضًا مصر وإسرائيل لا تُخفي عدم رضاها عن سياسة الولايات المتَّحدة الأمريكية الحالية، ولا تُخفي حتى مغازلتها لروسيا. ولكن يبدو في المستقبل المنظور أنَّ واشنطن تمثِّل الاحتمال الوحيد لضمان الأمن الإقليمي. وفيما يتعلّق بالجاذبية الاقتصادية لا تزال روسيا بعيدة سنين ضوئية عن الولايات المتَّحدة الأمريكية، نظرًا إلى اعتماد روسيا القوي على المواد الخام وبسبب ضعف منتجاتها الصناعية التي تعدّ من الدرجة الثانية. إذ إنَّ مَنْ يستطِع تحمل النفقات، فسيفضِّل مثل ذي قبل شراء الأسلحة الأمريكية على الأسلحة الروسية.

ومن الجدير بالذكر أنَّ القوة الناعمة الروسية لا تبدو في الشرق الأوسط جيدة أيضًا. لقد رحَّب الكثيرون في العالم العربي بإسقاط يانوكوفيتش، لأنَّهم كانوا يرون في ذلك ضربة لقوة موسكو الحامية لنظام الأسد البغيض. وإذا تعرَّضت حقوق أقلية تتار القرم المسلمين للانتهاك من خلال ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، فعندئذ سيزيد هذا من المشاعر المعادية لروسيا في العالم العربي.

 

 

نورا مولر

ترجمة: رائد الباش

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: تسايت أونلاين/ قنطرة 2014

 

تعمل نورا مولر مديرة برنامج في مجال السياسة الدولية في "مؤسسة كوربر" في برلين.