تحولات السلفيين في مصر: التسييس مفكك الأيديولوجيا

يمر الخطاب السلفي في مصر بمرحلة تحولات مهمة في الخطاب والممارسة في أعقاب ثورة يناير 2011، وهذا يرجع لعمليات التسييس الجذرية التي تحدث لقواعده وقياداته في وقت لم يستكمل فيه السلفيون بعد الشروط المطلوبة للعمل السياسي، لا بمعناها البراجماتي إجرائياً، ولا بمعناها التمثيلي والتفاوضي للمصالح المختلفة موضوعياً.

الكاتبة ، الكاتب: أشرف الشريف

في مجمل تقييمها، تعاني السلفية من التضحية بالإستراتيجية لصالح التكتيك، وخواء المحتوى البرامجي، وعدم القدرة على التحرر من علاقة التبعية والاستلحاق بمشروع إعادة إنتاج النظام القديم، وهي صفات تتشارك فيها مع الإخوان المسلمين ولكنها بالتأكيد تعاني من ضعف الخبرات التنظيمية والحزبية نظراً لحداثة عهدها بالسياسة مقارنة بالإخوان المسلمين.

والجدير بالذكر هنا أن نجاح السلفيين في تحويل رأسمالهم الاجتماعي والدعوي، المعتمد على شبكاتهم الإجتماعية والدعوية والخيرية الممتدة عبر قرى ومدن مصر إلى رأسمال سياسي في فترة زمنية قصيرة والذي أهلهم لتحقيق نجاحات إنتخابية ملفتة، يعد إنجازاً تنظيمياً رائعاً بالنظر إلى ضعف خبراتهم كما ذكرنا. لكن المشكلة المنهجية تظل بارزة عند السلفية السياسية، فالتوسع في مفهوم الضرورة لإباحة مايرونه مخالفاً للإسلام مثل المنافسة على الإنتخابات، ودخول البرلمان، وقبول اللعبة الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب، وترشيح النساء على قوائمهم الإنتخابية لم يكن نتيجة عملية مراجعات فكرية لتحليل هذه المحرمات -فهي ماتزال محرمات لكنها تستباح بإسم الضرورة برغم مخالفتها للإسلام كما يتصورونه في براجماتية إنتقائية- ووجه الخطورة في هذا التوجه، هو هذه الرسالة الضمنية التي يحملها والتي مفادها أن الإسلام لا يستجيب لضرورات العصر وأن هذه الضرورات تجبرنا على مخالفته واستباحة محرماته.

 وفيما يبدو أن الخريطة القديمة للتصنيف السلفي بين سلفية علمية، والدعوة السلفية، والسلفية الحركية، والسلفية المدخلية، وأنصار السنة... إلخ، ذلك التصنيف الذي كان قائماً على الإختلافات في المنهج الحركي وفي الفكر العقيدي، بحاجة الآن إلى تصنيف سياسي موازٍ لفهم خريطة الفرز الحالية وتداعياتها من اشتباكات وتقاطعات مستجدة. 

ومحور المعركة الآن هو التنازل العقائدي الخطير (وفقا للمنهج السلفي) الذي أقدمت عليه سلفية الإسكندرية بالانخراط في السياسة الحزبية والبرلمانية على أساس الديمقراطية الكفرية، فهم الآن متهمون بأنهم أصبحوا "سلفية مونتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو". ويدور الجدل الآن، وبشدة، على أرضية الولاء والبراء، وهل أن تكفير البرلمان والحكام حكمي أم عيني؟ وهل أن طبيعة الدعوة توقيفية لا تحتمل التحزب أم لا ؟ إلى غير ذلك من المسائل.

بالتأكيد، هذه الخلافات كلها قديمة، والإتهامات المتبادلة بالتبديع والتفسيق والدخن واتباع آراء القطبية والخوارج، ثم المرجئة والجهمية من الطرف الآخر قديمة قدم ظهور السلفية المعاصرة. إن المنهج السلفي قائم أساساً على البراءة من كل قول وصاحبه لا يوافق منهجهم، وإلا من أين أتت مصطلحات: مشايخ المارينز، والأباتشي، ومشايخ الانبطاح، ومشايخ الحيض والنفاس، ومشايخ التخذيل وغيرها من الأوصاف (التي قد ينطبق كلها أو بعضها على كل المشايخ السلفيين عند التحقيق)؟ فمن صميم منهجهم البراءة ليسلم لهم المنهج، وليخرجوا بتوحيدهم الصافي ومنهجهم الكامل الوافي تحت الراية النقية بلا تقية.

لكني أزعم أن المتغير الذي حدث بتسييس القطاع الرئيس من السلفية المصرية قد أتى بالجديد، فيمكن لنا الآن أن نتحدث عن" السلفية السياسية " كفرقة جديدة، وهذه الفرقة تعاني منذ البداية من تناقض رئيسي بين المبدأ والمنهج، بين فقه المبدأ العقيدي السلفي وفقه منهج التغيير السياسي الجديد. هذا التناقض سيزداد تعمقاً مع الوقت، ليس فقط على الأرضية الدينية، ولكن أيضا على الأرضية السياسية. فمثلا، لو نظرنا إلى النسق العام في الحالة السلفية المصرية، والتي قبلت بما قررته الدعوة السلفية من العمل بالسياسة عقب الثورة من باب حسبة المفاسد والمصالح، فسنجد أن هذا النسق يتمايز داخليا ومن نفس باب حسبة المفاسد والمصالح السياسية. فقد تمايزت الجبهة السلفية عن الدعوة السلفية حول عدة محاورسياسية الطابع وأهمها:  

- إشكالية التصعيد تجاه المجلس العسكري والعلاقات مع القوى السياسية الأخرى عبر محطات عديدة شملت الإستقطاب الإسلامي-العلماني فيما بعد استفتاء مارس وفي جمعة 29 يوليو. 

- الجدل حول القوانين الإنتخابية، وتمديد قانون الطوارئ، وخارطة طريق انتقال السلطة والذي شغل المسرح السياسي طوال 2011، وغيرها من المحطات التي تباينت حولها مواقف القوى السلفية المختلفة.

الدعوة السلفية 

 و تعرف أيضا بإسم "سلفية إسكندرية" هي أقوى التيارات السلفية المصرية وأكثرها جماهيرية وقدرة على حشد الموارد، والمؤيدين والأنصار، بالإضافة إلى نفوذها الإعلامي عبر القنوات الفضائية، وتأثيرها الدعوي، ورأسمالها الإجتماعي الواسع الإنتشار في الإسكندرية والدلتا ومدن القناة، وهي أيضا الأكثر تنظيما، فقد تم إشهارها كجمعية أهلية عقب ثورة يناير بإسم جمعية الدعوة وتمت هيكلة الجمعية ( تتويجا لمحاولات قديمة لمأسسة تنظيمهم تعود إلى أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات) ويقودها مشايخ سلفية من الإسكندرية، أوالخمسة الكبار: محمد إسماعيل المقدم، وياسر برهامي، وسعيد عبد العظيم، وأحمد فريد، وأحمد حطيبة، بالإضافة إلى مشايخ آخرين مثل محمد حسان، والحويني، ومصطفى العدوي، وحسين يعقوب، وآخرين ويمثلهم سياسيا حزب النور.

الجبهة السلفية 

 هي كيان واسع تم إنشاؤه بعد ثورة يناير لاستيعاب الجماعات السلفية التي وإن كانت متفقة مع الدعوة السلفية على العمل بالسياسة إلا أنها تحتفظ بإختلافاتها في الفكر مع الدعوة السلفية، وهي أقل في الموارد والشعبية من الدعوة السلفية لكنها تتمتع بقاعدة تأييد قوية داخل القاهرة تحديداً مما يجعلها أكثرقرباً من الحراك والفوران السياسي الذي أطلقته ثورة يناير ويتمركز في القاهرة بطبيعة الحال، ومشايخهم هم في الأغلب مشايخ السلفية الحركية بالقاهرة مثل محمد عبد المقصود، وفوزي السعيد، ونشأت أحمد، ويمثلهم سياسيا حزبا الأصالة والفضيلة وأيضاً حركات سلفية شبابية جديدة مثل حملة حازم أبو إسماعيل، المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة. 

ومن الممكن القول- بشيء من التعميم المخل- وعبر رصد خطاباتهم وممارساتهم السياسية تجاه ملفات الفترة الإنتقالية، أن الجبهة السلفية كانت أكثر ثورية (ثورية بمعني الحدية في التصعيد ضد قوى النظام و المجلس العسكري) من الدعوة السلفية، وأن سلفية القاهرة كانت أكثر ثورية من سلفية الإسكندرية، وأن شباب الجبهة السلفية كانوا أكثر ثورية من مشايخها، وحملة حازم أبو إسماعيل مثلا تعتمد بالأساس على شباب الجبهة السلفية، وغير خافٍ على المتابعين أنها لا تحظى بدعم الدعوة السلفية نظرا لأنها راديكالية أكثر من اللازم وغير منضبطة تنظيمياً و مستقلة عن سيطرة كبار مشايخ الدعوة السلفية أكثر من اللازم (وفيما يتعلق بحملة حازم أبو إسماعيل تحديداً فاختزالها إلى مكونها السلفي يبدو قاصراً عن الإحاطة بالأبعاد الكاملة للفعالية التعبوية و السياسية للحملة التي تمزج بين السلفية الراديكالية والشعبوية الناصرية الطابع و تتمدد في مساحة الجوع إلى الشعبوية التي تشكل المخيال الجديد لقطاعات شعبية واسعة غير مسيسة فيما مضى و هذا مما قد يتسع له الحديث في موضع آخر)

فالجبهة السلفية في القاهرة يبدو أنها تنحو منحى أكثر براجماتية، وأقل عقائدية، وأكثرفهماً لضرورة التوافقات مع الفرقاء السياسيين. فالجبهة السلفية، بعكس سلفية الإسكندرية، ترى أن التوازنات السياسية الحالية محلياً، وإقليمياً، ودولياً لا تسمح بالمشروع الأيديولوجي السلفي الشمولي الطابع الذي تحلم السلفية به، وأن المشروع الممكن الآن هو استغلال الإنفتاح السياسي الحالي لتحقيق بعض المكاسب التكتيكية مثل إزالة العقبات الأمنية، والقانونية، والمؤسسية ضد العمل الدعوي السلفي، وزيادة تمثيل السلفيين داخل المؤسسات السياسية، واقتناص موطئ قدم للتيار السلفي داخل المجال السياسي وأجهزة الدولة مع الحفاظ على الحد الأدنى من مسألة تطبيق الشريعة، وهذا يسير عكس المشاريع الطموحة جداً للدعوة السلفية، وينعكس هذا بشكل ما في برامج أحزابهم السياسية(حزب النور ممثلا للدعوة والسلفية، وحزبا الأصالة والفضيلة ممثلان للجبهة السلفية). وتبدو استراتيجية الحد الأقصى واضحة أكثر في برنامج حزب "النور" الذي لا يتضمن التزاماً حقوقياً واضحاً بالمواطنة، وحقوق الإنسان، والدولة المدنية، فكلمة "المواطنة" لم تذكر مرة واحدة في البرنامج، بينما كلمة "المدنية" ذكرت مرة واحدة في وصف الصناعات المدنية مقابل الصناعات العسكرية. 

يؤكد برنامج الحزب على الالتزام بالمادة الثانية من الدستور المصري، التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، ولكنه لا يكتفي بهذا بل يزيد فيعتبرها إطاراً عاماً لحركية النظام السياسي ككل، فهي (المادة الثانية) تعد "مرجعية عليا للنظام السياسي للدولة"، و"نظاماً عاماً وإطاراً ضابطاً لجميع الاجتهادات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والقانونية".

وانطلاقاً من هذا النص العمومي الطابع (الذي لا يقتصر في حديثه على التشريع و مصادره وأحكامه)، يؤكد الحزب على ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية حاكمة لكل شؤون ومناحي الحياة كمرجعية، وكمبدأ إنشاء وتأسيس لجميع الانشطة السياسية لجهاز الدولة و للنظام السياسي، ويقدم برنامج الحزب تفصيلاً واضحاً للطبيعة الشمولية لهذا المبدأ الايديولوجي كما أسلفنا، مع ترك الصياغات التطبيقية فضفاضة إما نتيجة لظروف المواءمة السياسية، أو لفقر الجانب التطبيقي في المشروع السياسي الإسلامي (وهو التصورالأرجح)، وهذا يشمل موقف الحزب من الديمقراطية، والمرأة، والإقتصاد، ومسائل المواطنة وحقوق غير المسلمين، والثقافة والإعلام، وغيرها من القضايا.

يؤكد برنامج الحزب علي أن الشريعة الإسلامية (أو بالأحرى التصور السلفي عن الشريعة الإسلامية كقاعدة أيديولوجية للضبط والتحكم والهندسة الإجتماعية) هي الإطارالضابط والحاكم لعمليات وممارسات الدولة الديمقراطية، فهو يشير إلى "ضرورة تحقيق الديمقراطية في إطار الشريعة الإسلامية"، و"المحافظة على الحقوق الأساسية والحريات العامة في إطار الشريعة الإسلامية". 

وفي الاقتصاد يطالب بـ "تفعيل مؤسسات الزكاة والوقف"، و"التوسع في صيغ التمويل الإسلامية المبنية على المشاركة في الأرباح وفي الإنتاج، بدلاً من النظام الربوي القائم على الفائدة"، وهذا يتضمن بالضرورة حزمة من التشريعات والإجراءات الإدارية اللازمة مثل تعديل قوانين البنوك، والتمويل والإقراض، والإستثمار وخلافه. 

و بالنسبة لقضية المرأة، فمع الإقرار بمأساوية أوضاع المرأة إلا أنه يتجنب الإشارة إلى مساواة الرجل بالمرأة حقوقياً، ولكنه يعتمد المدخل الثقافي التربوي فيؤكد على أن البعد عن المفاهيم الإسلامية الصحيحة لحقوق المرأة وواجباتها هو السبب الرئيس وراء تدهور أوضاع المرأة، وبالتالي فهناك ضرورة لإطلاق حملات تثقيف إجتماعية، وإعلامية، وتعليمية تستند على المبادئ والقيم الأخلاقيَّة النابعة من التَّعاليم الإسلاميَة. وفي شأن الموقف من غير المسلمين في المجتمع المصري، يرى الحزب في الإقرار بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع ما "يتضمن تأمين الحرية الدينية للأقباط، وإثبات حقهم في الاحتكام إلى ديانتهم في أمور الأحوال الشخصية الخاصة بهم"، أما غير ذلك من أمور الحياة بكل أنواعها، والنظام العام والآداب، فقانون الدولة يسري على المواطنين كلهم بدون تمييز.   

والجسم الرئيسي للحركة السلفية مايزال مع الدعوة السلفية لكن هذا قد لا يستمر طويلا..فهناك.بروز للعديد من التمايزات و ظهور بعض التحركات الشبابية المستقلة -هنا و هناك- داخل الفضاء السلفي مثل الإئتلاف الإسلامي الحر (و نواته الأساسية من عناصر سابقة من الجماعة الإسلامية لم توافق علي الإستقطاب الإسلامي الثوري و دور الجماعة الإسلامية و حزبها البناء و التمنمية في إذكائه) و مجموعة حازمون بتوجهها الصدامي الثوري مع السلطة الذي يتنافر بشكل واضح مع الرؤي التقليدية الجامدة للدعوة السلفية و أيضا مجموعة النهضة و الإصلاح و هي أيضا مؤيدة لحازم أبو إسماعيل وتركزعلي قضية العدل الإجتماعي و التناقض مع الإمبريالية الأمريكية و سلفيو كوستا و هم أقرب لخطاب الدعاة الجدد و الإخوان الإصلاحيين بالإضافة إلي روابط شباب الجبهة و الدعوة و الأحزاب المختلفة و غيرها من التجمعات الجديدة الفوارة و الغير محددة المعالم علي الخريطة هذا يخدث حالة من السيولة تأثيرها قد يظهر لاحقا.

وليس من المستبعد أن نشهد إنشقاق حزب النور بكتلته البرلمانية (نواة السلفية السياسية البرلمانية) عن حاضنته الفقهية، والدعوية، والإجتماعية -ألا وهي الدعوة السلفية التي يسيطرعليها سلفية الإسكندرية- عندما تصبح حركة الحزب نحو المواءمات، والإنزياحات، والمساومات، والترخصات أسرع بكثير من قدرة الدعوة السلفية على قبولها واستيعابها فضلاً عن شرعنتها وتأصيلها. وقد بدأت بوادر هذا التباين في الظهورعند الحديث عن موقف الحزب من اتفاقية الصلح مع إسرائيل ومسألة التحالف مع الأحزاب الليبرالية والمدنية داخل البرلمان، بالإضافة إلى اختلاف قيادات الحزب في مواقفهم المعلنة مع بعض التصريحات والفتاوى لرموزالدعوة السلفية مثل ياسر برهامي، وعبد المنعم الشحات، وآخرين، وبالتأكيد قد يفسر البعض هذا من باب أنه تقسيم شكلي للأدوار بين حمائم وصقور، لكن بعيداً عن الحكم على النوايا فالأهم في رأيي هو بداية التمايز العملي في منطق العمل بين السياسي والدعوي حيث تغلب النزعة البراجماتية -المتحررة من إلزامية التأصيل الشرعي- على أداء الحزب، وقد يبدو هذا تحولا جنينياً لكن نتائجه على المدى الطويل ستكون شديدة الأهمية.

أما بالنسبة للصراعات بين السلفيين والإخوان، فقد ذكرت فيما سبق أن اندلاع هذا الصراع على الأرض، ووضوحه أمام أعين الجميع هو أحد أهم نتائج الإنتخابات البرلمانية، كما أن هذا الصراع لم يعد كما كان في الماضي صراعاً فكرياً حول المنهج، ولكن أصبح صراعاً أوسع بين شبكات الحشد والتعبئة وماكينات تخصيص الموارد عند كلا الفريقين. إن هذا التطور في طبيعة الصراع كفيل ليس بخلق حزازات أكبر فحسب، بل سيخلق مصالح أكبر ترتبط بهذه العلاقة الصراعية وآلياتها و لعل قرار الدعوة السلفية و حزب النور بدعم المرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح في انتخابات الرئاسة علي حساب مرشح الإخوان محمد مرسي هو ذروة ما وصل إليه التمايز السلفي الإخواني ...فكما ذكرنا سابقا فأن الدعوة السلفية لم تكن متحمسة من البداية لتأييد حازم أبو إسماعيل بسبب استقلاله عن سيطرة مشايخ الدعوة وراديكاليته السياسية التي يرونها غير منضبطة وبعد إستبعاد خيرت الشاطر لم يبق أمام الدعوة السلفية إلا الاختيار بين أبو الفتوح أو محمد مرسي، المرشح البديل للإخوان و كان الإختيار دقيقاً. فمن ناحية ، يبدو محمد مرسي أقرب لتوجهات السلفيين الفكرية المحافظة ووراءه تنظيم قوي يسانده لكن فرص قبوله الشعبي ليست بالكبيرة و الأهم هو التخوف السلفي من الهيمنة المطلقة للإخوان ليس فقط على الحالة الإسلامية و لكن علي البلاد ككل مما قد يؤسس "دولة المرشد" على الطريقة الإيرانية.

إنها السياسة مرة أخرى، قاتلة الأيديولوجيا حتى مايبدو منها جامدًا وصعب المراس. وفي الجزء الأخير من هذا المقال، قد يبدو مفيداً التطرق إلى بعض القضايا المهمة على أجندة القوي السلفية والإخوانية مثل ملفات علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية، وطبيعة نظام الحكم، وأخيراً موقع الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد.

علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية

هدف السلفيين الاول هو الهيمنة على كل من الخطاب الديني، والفضاء الديني بكافة قواعده، ومؤسساته، وناشطيه، وضوابطه. والثورة تتيح لهم فرص تعزيز هذا الهدف، كما تخلق تحديات تعترض طريقه.

الفرص المتاحة هي الإمكانية العملية لمأسسة هذه الهيمنة وتقنينها على خلفية تحديات مهمة أبرزها ظهور فواعل دينية ودعوية جديدة قد تنازع السلفيين هيمنتهم على المجال الديني في السنوات الأخيرة، وتستغل رأسمالها السياسي الجديد مع تصاعد حريات العمل العام بعد الثورة لتحقيق هذه المنازعة، والمثال الأبرز هنا هو إصلاحيو الإخوان.

ملف إصلاح الأزهر وتقنين علاقته بالدولة يظل أحد أهم الملفات المطروحة في هذا السياق، وهنا تلتقي رغبة قطاعات واسعة داخل الأزهر في إصلاحه ومنحه استقلالية عن الدولة في التنظيم، والإدارة، والموارد المالية (موارد الأوقاف مصدر محتمل)، مع رغبة قطاعات كبيرة من الإسلاميين في إنشاء كيان مؤسسي يمثل الدعوة الإسلامية ويمتلك الشرعية المؤسسية، ليس فقط للفتيا ولكن أيضاً للدعوة وإنتاج الخطاب الديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويبدو إنشاء الهيئة الشرعية للدعوة والإصلاح (إطار مؤسسي للعمل المشترك) أمراً لافتاً في مسار العلاقة بين الأزهريين والإسلاميين من خارج الازهر، فبعد عقود طويلة من الشك والريبة بين الطرفين (ناتجة عن الإختلافات العقيدية و الفقهية بين الأزهر الذي تغلب عليه العقيدة الأشعرية، والتصوف السلوكي، والتمذهب الفقهي، والسلفية) نجد أن فرقاء الأمس قد يتعاونون في إطار مشترك يكفل لهم تحقيق بعض المكاسب المشتركة.

ونظراً لتراجع الأزهر ومؤسساته في العقود الأخيرة، فإنه من الضروري أولا استعادة دور الأزهر، وفي سبيل ذلك يرى الحزب، الذي بات يمثل الذراع السياسية لـ"الدعوة السلفية" (المدرسة السلفية بالإسكندرية)، عدم ربط شيخ الأزهر، ومشيخة الأزهر، وجامعة الأزهر بالقيادة السياسية في مصر، "فلا يصح أن تكون بوقاً لها، وأداة من أدواتها"، أياً كان نوع النظام السياسي، إذ "أن الأزهر ينبغي أن يظل مستقلاً، لأنه كلما زادت قوة الأزهر ونفوذه زادت قوة مصر بالضرورة"، ويبدو أن التعاون المشترك بين الإسلاميين والازهر لتحقيق هذه الإستقلالية هو ما يطلق عليه في العلوم السياسية Win-win situation أي الفوز الحتمي في كل الأحوال.

فالأزهر سيتخلص من تراث طويل من التبعية المؤسسية، والمالية، والإدارية للدولة والتي أفقدته مصداقيته وشعبيته ليس عند الناس فحسب، بل وداخل المجال الديني نفسه في داخل وخارج مصر، بينما سيتمكن السلفيون من تحقيق الشرعية المؤسسية في الدعوة و الفتيا.

وبالتالي يتجاوز دعاة السلفية الإنتقادات التقليدية الموجهة لهم حول مدى شرعية خطابهم، ومؤهلاتهم، وهشاشة وضعهم عبر كيان مؤسسي له تاريخه وشرعيته الرمزية داخل المجال الديني .فبرغم جمهورهم الكبير، عانى السلفيون من تشكيك دائم في شرعيتهم، وأحقيتهم في إصدار الأحكام الشرعية، والتدخل في الشئون الدينية والدنيوية.

الصيغة المقترحة من الإسلاميين هي إنشاء هيئة شرعية عليا من كبار العلماء (تتجاوز مفهوم مجمع البحوث الإسلامية لأنها ستضم تمثيلاً أوسع من الإسلاميين، يشمل إلى جانب الفقهاء، دعاة وحركيين إسلاميين أكثرتواصلاً مع الشارع وتماساً مع إحتياجات الواقع والناس) والجدل الإسلامي حولها ينحصر في مدى إلزامية قراراتها، فيرى السلفيون أن تكون ملزمة بينما يفضل الإخوان أن تكون استشارية.

وقد تدفع مخاوف قطاعات واسعة من المواطنين من تهديد نمط الحريات العامة و الخاصة -وكراهية النموذج السعودي والإيراني للحسبة- إلى اعتماد صيغة وسطى فضفاضة تعطي صلاحيات مؤسسية في الدعوة و الفتيا، والإشتباك مع القضايا العامة من موقع ديني وشرعي لكن بدون امتلاك سلطة معينة لفرض هذه الأحكام.

-  و هنا يبرز تساؤل مهم عن غموض موقف الإخوان، إذ ما الداعي لكيان مثل هذا يراه الإخوان مجرد كيان إستشاري كما يدعون- إذا كانت المحكمة الدستورية العليا تلعب نفس الدورالحاكم لمدى دستورية التشريعات وملاءمتها للصالح العام المنضبط بالمادة الثانية للدستور؟

و يبدو أن الإخوان والسلفيين لا يمانعون في إعطاء الأزهر مساحة من الحركة لطمأنة المجتمع المدني والقوى المدنية بخصوص الحريات العامة والخاصة، وبالتحديد فيما يتعلق بقضايا حرية الفكر والفنون، وقد تجلى هذا في مشاركة السلفيين والإخوان في إعداد وثيقة الأزهر، وتسجيلهم لبعض الإعتراضات الجزئية عليها، الأمر الذي لا ينفي قبولهم بمجمل الوثيقة، بالإضافة إلى صمتهم إزاء مبادرة الازهر بطمانة المثقفين والفنانين عند طرح وثيقة الحريات.

 إن الموقف السائد عند السلفيين- المرتبطين بالعموم بفكرة الهندسة الإجتماعية والثقافية- هو أن هذه الهندسة مشروع مؤجل، ويعتمد تحقيقه على استيفاء شروطه من تمكين داخل أجهزة الدولة، وحضور دعوي وتربوي أكثر داخل قنوات المجتمع التي مازالت خارج هيمنتهم الثقافية، ومن ثم فالصياغات الفضفاضة داخل مشاريع الدستورالمقترحة عن "حفظ النظام العام"، و"الثقافة والقيم الوطنية"، تبدو مرضية ومقنعة بالنسبة لهم مرحلياً.على الناحية الأخرى، تنتاب الإخوان الشكوك إزاء مشروع الهندسة هذا برمته، ليس فقط لعدم إستساغته على المستوى الفكري، ولكن لإدراكهم لصعوبة تحقيقه عملياً بالنظر إلى الضعف المتزايد لجهاز الدولة عقب ثورة يناير، ورغبة قطاعات عديدة من المجتمع في التحررمن السيطرة المادية والمعنوية لمؤسسات الدولة كملمح رئيسي للعقد الإجتماعي والسياسي الجديد. 

- الجدل حول نظام الحكم- جمهورية برلمانية أم رئاسية:

بالرغم من عدم الوضوح التام إلا أن التصريحات الصادرة عن قيادات حزب الحرية و العدالة وبعض قيادات الدعوة السلفية تشي بتفضيلهم للجمهورية البرلمانية، وهذا يبدو مفهوماً في ظل قناعة الإسلاميين أن التنافس البرلماني هو الساحة الأكثر ملاءمة لقدراتهم على الحشد والتعبئة، وتجميع الأصوات وبالتالي ففرصهم في نيل الأغلبية في السباق البرلماني تظل دائماً أفضل من فرصهم في الفوز بانتخابات رئاسية قد تتحكم فيها التفضيلات النفسية والسياسية لقطاعات واسعة من المواطنين، والتي تتصل بشخصية المرشح ولا ترتبط بالضرورة بالقدرة على حشد المواطنين في الدوائر الضيقة بناء على اعتبارات دينية، أو زبونية، أو خدمية أو أي من مكونات الرأسمال الإجتماعي الذي يبز فيه الإسلاميون الآخرين. في تصوري أن هناك قوى أخرى عديدة تحبذ النظام الرئاسي لسببين:

 أولا، ضرورة مواجهة إحتكار الإسلاميين المتوقع للسلطة في حالة النظام البرلماني. ثانيا، تحقيق الاستقرار الضروري، فتجارب التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا اعتمدت أكثر على النموذج الرئاسي. ولاعتبارات ثقافية ونفسية، يبدو وجود رئيس جمهورية بصلاحيات حقيقية ضرورياً لتعزيز هياكل السلطة مع الحفاظ على توازنها داخل النظام السياسي الجديد. 

المادة الثانية للدستور: من مبادئ الشريعة الإسلامية إلى احكام الشريعة الإسلامية

من المؤكد أن العديد من قواعد الحركة السلفية تعتبر أسلمة الدولة والمجتمع مكوناً أساسياً في مشروعها الأيديولوجي لإقامة الدين في المجتمع المصري، ومن ثم فهي وإن كانت تتفق مع باقي أطياف التيار الإسلامي في اعتبار المادة الثانية من دستور 1971 - والتي تنص على كون مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع -خطاً أحمر، ولكنها لا تراها نهاية المطاف بل تراها نقطة انطلاق نحو ما هو أبعد وأشمل، ويبدو هذا واضحاً في خطاب مشايخ الدعوة السلفية، وإن كان ليس بنفس القدر من الوضوح في خطاب و أدبيات الأحزاب السلفية (لاعتبارات المواءمة السياسية و التكيف مع الواقع السياسي). ويدور حديث مشايخ الدعوة السلفية عن تحويل نص المادة إلى اعتبار أحكام الشريعة الإسلامية كمصدر رئيس للتشريع وهذا تحول له دلالته المهمة بطبيعة الحال، فالكلام عن أحكام الشريعة يعني تكريس أحكام فقهية معينة لفقهاء محددين كمصدر لتقنين القوانين وتشريع الشرائع، كما أن اعتبارات المأسسة الوظيفية ستؤدي إلى إنشاء كيانات مؤسسية تكون مهمتها إصدار هذه الاحكام الفقهية، وهو ما يعني في التحليل العملي شكلا ما من أشكال الحكم الثيوقراطي الديني.

ولكن هذه الدعوة ستلقى معارضة شديدة من رجال الأعمال والقوى الرأسمالية لأنها قد تهدد قطاع السياحة عبرتحريم الخمور، وسياحة الشواطئ بالإضافة إلى القطاع المالي والإقتصادي عبر حظر الفوائد البنكية. أما الجيش، فهو لن يرحب بهذه الدعوة بالتأكيد، وسيتمسك بالتزاماته نحو القوى الدولية والإقليمية التي لا ترغب في رؤية جمهورية إسلامية إيرانية أخرى في مصر، بالإضافة إلى التزامه نحو قطاع الأعمال ليس فقط لأنه مكون رئيس في تحالفات السلطة في مصر، ولكن أيضا لتداخل مصالح الجيش كمنتج وكفاعل إقتصادي وتجاري معه، ولهذا فإن الحل غالباً سيأتي بشكل صياغة وسطى فضفاضة. وفي التحليل الأخير فالدستور سيكون وثيقة سياسية وليس وثيقة قانونية، وبالتالي سيحتمل الصياغات الفضفاضة وليس الصياغات القانونية الدقيقة والصارمة، أي صياغة فضفاضة تدعو إلى أن توكل مهمة الدفاع عن القيم الثقافية للمجتمع المصري للمؤسسات الثقافية للدولة، وتترك التفاصيل للإجراءات الإدارية والسياسية والتنظيمية. 

هذا المنحى هو ما اتفقت عليه برامج الاحزاب السلفية الثلاث: النور والأصالة والفضيلة، والتي تحدثت عن أمرين: أولا،ضرورة الحفاظ على "القيم الثقافية" للمجتمع المصري، لكنها لم تحدد آليات عملية محددة. وثانياً، التشديد على ضرورة أن يتم هذا داخل الإطار المؤسسي للدولة. ويبدو أن رهان السلفيين هو على قدرتهم على منح الازهر والمؤسسات الدينية الرسمية هذه السلطة أولا، ودفعها لممارستها على الشكل الذي يرغبونه ثانيا، إما كنتيجة لضغوط السلفيين الإعلامية والسياسية الشعبوية الطابع، أو كمحصلة لتواجد السلفيين التدريجي داخل المؤسسات الدينية الرسمية نفسها، بالإضافة إلى التواجد داخل المؤسسات الإعلامية و الثقافية الرسمية وهي الإستراتيجية التي يدفع السلفيون باتجاهها كما شرحنا سابقا. وهنا تبدو حقوق المواطنة ومسائل مثل ترشيح الأقباط، والمرأة، للرئاسة والقضاء، وحقوق العبادة للأديان غيرالسماوية على المحك. 

و لكن في تصوري الخاص، فهناك العديد من العقبات البنيوية، والسياسية، والمجتمعية التي تجعل الفرص العملية لتحقيق هذا المشروع صعبة ومحدودة، فبالإضافة إلى معارضة قطاعات إقتصادية وتجارية واسعة لهذه الدعوة وماتحمله من نتائج محتملة كما أسلفنا، فإن مدى استعداد مؤسسة الأزهر للعب دور الساحة المؤسسية والشرعية لمشروعات السلفيين الأيديولوجية يظل محل شك و تساؤل.  والثابت حتى الآن أن تيار استقلال الأزهر قوي وله حضوره عند قيادات و قواعد الازهر بشكل يجعله يتحفظ بشدة على استبدال نفوذ الدولة بنفوذ الإسلاميين، ناهيك عن أن رغبة الأزهريين في الدفاع عن مصالحهم ومكانتهم كمؤسسة ممتدة أفقياً ورأسياً داخل المجتمع المصري، تجعلهم يرون في خيار التمايزعن الإسلاميين خياراً إستراتيجياً يعظم مكاسبهم، وخاصة لو كان هذا متوائماً مع منهجهم الشرعي الأقل نصية وتضييقاً على الحريات من المنهج السلفي المعروف بتزمته، والمنفر لجموع الأزهريين تاريخياً.

ويبدو موقف الإخوان من مشاريع السلفيين للهيمنة الثقافية غير واضح حتى الآن، كما أن تموقعهم داخل جميع قطاعات ومؤسسات المجتمع يجعلهم أكثر محافظة من أن يرحبوا بخيارات صدامية مع المجتمع أو خيارات جذرية في حلحلتها لثقافة المجتمع وتنسيق ممارساته بشكل قسري وفوقي كما يرغب السلفيون. إن التماسك الإسلامي الداخلي إزاء هذا المطلب هو شرط ضروري من أجل توفير الكتلة التاريخية اللازمة للضغط من أجله، خاصة وأن الوزن النسبي للسلفيين داخل المؤسسات المنتخبة (مايقرب من ربع مقاعد البرلمان) لا يجعلهم في مقاعد الأغلبية المطلقة ولا النسبية، ومن ثم فقدرتهم على الضغط السياسي تظل مهمة ولكنها محدودة. وأخيراً، فمؤسسات الدولة نفسها، بشبكات مصالحها الإدارية والإقتصادية المختلفة، هي مجسم ضخم جداً للهيمنة البيروقراطية يستعصي على محاولات الإلحاق السلفية التبسيطية الطابع، وهذه الفجوة بين مشروع السلفيين وقدراتهم الحقيقية على تنفيذه تهدد بفقدان الحركة السلفية السياسية لمصداقيتها أمام جمهور قواعدها، مما قد يدفع السلفية السياسية نحو المزيد من ممارسات ما بعد الإسلامية البراجماتية والمدركة للحدود العملية للأدلجة الإسلامية.

 

أشرف الشريف

© ينشر هذا المقال بالاتفاق بين قنطرة وجدلية