الملف النووي الإيراني- الحلقة المفقودة وحسابات الربح والخسارة

يرى الكثير من المراقبين أن مسألة شن إسرائيل هجوماً على إيران ما هي إلا مسألة وقت. ويتم تبرير ضرورة وقف طهران لبرنامجها النووي بوجود تهديد مباشر على إسرائيل من خلال قنبلة نووية إيرانية. لكن من النادر أن يتم التمعُّن في قوة حُجة هذه الفرضية، كما يؤكد الباحث الألماني في الشؤون الإيرانية أولريش فون شفيرِن في مقالته التحليلية التالية.

الكاتبة ، الكاتب: Ulrich von Schwerin



منذ أن ذاعت مقولة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأنه يجب محو إسرائيل من الخارطة، أصبح الكثيرون يرون فيها تهديداً مباشراً لوجود إسرائيل. ولكن لم يغير ما جاء عقب ذلك إلا القليل، إذ تبين أن ما قاله أحمدي نجاد في أحد المؤتمرات الطلابية الهامشية عام 2005 لم يكن إلا اقتباساً من كلام آية الله الخميني وترجمته الصحيحة كالآتي: "النظام المحتل للقدس يجب أن يختفي من صفحة التاريخ".

كما أن توضيحات أحمدي نجاد التي تلت ذلك، من أن تصريحه لم يكن يتضمن على الإطلاق إرادة الحرب ومن أن الفلسطينيين هم من عليهم تقرير مصيرهم بأنفسهم، لم تغير إلا قليلاً في الانطباع السائد بأن تدمير إسرائيل هو الهدف المعلَن للحكومة الإيرانية الجديدة. في البداية، كان أحمدي نجاد نفسه متفاجئاً من تأثير تصريحه، لكنه أدرك فيما بعد ما قد يسهم فيه هذه الموضوع من إبراز لصورته. فجعل هجومه الكلامي على إسرائيل وإنكاره اللاحق لمحرقة اليهود جزءاً لا يتجزأ من خطاباته.

لا توجد نية مبيتة للحرب

إيران نت

​​أصبحت انتقادات إيران ضد إسرائيل دون شك أكثر من مجرّد طقوس خطابية، لأن إيران تهدف من خلال ذلك إلى التأكيد على هويتها المناهضة للإمبريالية. وبات الرفض الذي تواجهه الدولة العبرية من قبل القيادة الإيرانية، وصولاً إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي يمتلك قرار الحرب والسلام كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، أمراً لا ريب فيه. وكما هو الحال في الدول العربية، يرى أغلبية السكان في إيران أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين هو ظلم يبعث على السخط.

ولكن من الخطأ مساواة هذا الغضب بوجود نية للحرب أو استنتاج هذا من ذاك. فالقضية الفلسطينية لم تكن قط بالنسبة لمعظم الإيرانيين أكثر من مجرد قضية هامشية. كما أن شن حرب على إسرائيل وحلفائها من أجل الفلسطينيين لم يؤخذ بتاتاً على محمل الجد في ايران. كذلك فإن هجوماً من هذا النوع يتناقض مع نهج السياسية الخارجية الإيرانية الذي كانت على مدى العقود الماضية أقل عدوانية وأكثر دفاعية وواقعية بطبيعته. فتصدير الثورة الإيرانية، الذي بدأ ينتشر لأول مرة عام 1979 وأقلق الكثير من الدول العربية، تخلت عنه إيران لاحقاً بعد سنوات قليلة. وبعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، اتسم تعامل طهران بمنطق ردة الفعل بدلا من تبني مواقف عدوانية وكان اتخاذها لقراراتها مبنيا بالأحرى على أساس المصالح أكثر منه على أساس إيديولوجي.

وخلال حرب ناغورنو كاراباخ (1988-1994) ألقت إيران بثقلها وراء أرمينيا المسيحية داعمةً إياها ضد أذربيجان الشيعية. وأثناء الحرب الأهلية الطاجيكية (1991-1997)، لم تدعم إيران المعارضة الإسلامية، ولكنها جعلت نفسها وسيطاً في المفاوضات. بعد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، دعمت طهران ميليشيات الأقلية الشيعية في الحرب الأهلية. وعندما قتلت طالبان الآلاف من طائفة الهزارة الشيعية العرقية في مزار الشريف، هددت طهران بالتدخل في سبتمبر/أيلول 1998، ولكنها لعبت دورا ثانويا في المنطقة بالمقارنة مع إسلام آباد وواشنطن والرياض.

استعداد للتعاون على المستوى السياسي

ا ب
ساعة الحساب مع العدو العراقي اللدود: بعد سقوط صدام حسين، أبدت القيادة الإيرانية استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.

​​وعندما قامت الولايات المتحدة وأيضاً حلف شمال الأطلسي الشمالي باستهداف طالبان والقاعدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، أعربت طهران عن ترحيبها بذلك بشكل صريح. كما أبدت الحكومة الإيرانية استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة عام 2003 إبان الإطاحة بنظام الدكتاتور صدام حسين عدو إيران اللدود. وفي السنوات التي تلت ذلك، لم تثبت التقارير التي تحدثت عن تزويد إيران لحركة طالبان وتنظيم القاعدة بشحنات من الأسلحة، ونظراً إلى أن لهاتين المجموعتين موقفاً مناوئاً للشيعة فإن هذا الطرح فيه بعض من عدم المصداقية.

طهران لم تكن معترضة بالتأكيد على التمرد الحاصل آنذاك في العراق وأفغانستان، فالحد من تجدُّد نهوض السُّنة في بغداد وكابول كان يشكل لديها أولوية أكبر من انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة. فشيعة العراق، كما هو الحال بالنسبة لشيعة البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية، اعتبرتهم طهران حلفاء طبيعيين لها وسعت إلى تشجيعهم ودعمهم. في حين كان يرى زعماء السُّنة في المنامة والكويت والرياض أن طهران تشكل تهديداً محتملاً ودائماً لهم بوصفها حامية للشيعة. غير أن سبب الاحتجاجات المتكررة والثورات الشيعية، على سبيل المثال في البحرين، لم يكن قط نتيجة للدعم الإيراني بل نتيجة للقمع الممارس ضدهم من قِبَل الأُسَر الاستبدادية الحاكمة.

حزب لا يعتمد فقط على نوايا طهران الحسنة

وأثناء ذلك، كان حزب الله في جنوب لبنان هو الاستثناء. فقد نمت الميليشيات الشيعية والحزب الذي أنشأه الحرس الثوري الإيراني إبان الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي وتحول الحزب على مر السنين إلى قوة وطنية. واكتسب الحزب، كونه مدافعا عن الوحدة الوطنية وذا قاعدة اجتماعية قوية، احتراما في أوساط الشيعة ونفوذاً في بيروت. ورغم أن حزب الله يتلقى دعماً من إيران بالسلاح والمال إلى يومنا هذا، لكن الحزب كان على الدوام أكثر من مجرد ميليشيا تعتمد على نوايا طهران الحسنة.

وفي حالة سوريا، كانت أسباب التحالف مع أسرة الأسد سياسية واقعية أكثر منها ثقافية دينية. صحيح أن العائلة الحاكمة تنتمي إلى أقلية العلويين الشيعية، لكن اعتقاد العلويين الديني يختلف جوهريا عن مذهب الشيعة الاثني عشرية في إيران. كما أن نظام دمشق كان على الدوام نظاماً علمانياً، ولم تكن توجد أية قواسم مشتركة أيديولوجية بينه وبين آيات الله في طهران.

ا ب
تحالف استراتيجي من أجل المنفعة السياسية المتبادلة: أنصار حزب الله اللبناني يرفعون لافتات عليها صُوَر أحمدي نجاد وبشار الأسد وشيخ حزب الله حسن نصر الله.

​​وبرغم من أن لإيران بالأحرى نهجاً دفاعياً يتسم بردود الأفعال في السياسة الخارجية لكن يغلب على صورتها حتى اليوم أنها دولة عدوانية تسعى لتحقيق أهدافها دون أي اعتبار لحقوق الإنسان وسيادة القانون، فضلا عن القمع العنيف في الداخل وكذلك الهجمات المتكررة واغتيالات السياسيين في منافيهم التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الإيرانية في الخارج.

بالإضافة إلى أن وجود العديد من مراكز السلطة جعل النظام في كثير من الأحيان يبدو متناقضاً في سياسته الخارجية ويبدو من غير الممكن التنبؤ بتوجهاته. تعزز هذا الانطباع على مدى السنوات القليلة الماضية من خلال السياسات المتقلبة والخطاب المتطرف والسلوك غريب الأطوار لأحمدي نجاد. فبهجومه اللفظي على إسرائيل وإنكاره الهولوكوست وادعائه بأنه على علاقة مباشرة بالمسيح، حطّم بخطابات قليلة الثقة التي راكمها سلفه محمد خاتمي لدى الغرب على مدى السنوات السابقة. وفي مقابل خطابات الكراهية هذه، كثيراً ما كان يتم إغفال أن سياسة إيران الخارجية ظلت كما هي إلى حد كبير.

السلطة المطلقة للمرشد الأعلى

التركيز المتكرر على أحمدي نجاد صرَف الأنظار عن حقيقة أن المرشد الأعلى هو مَن يتخذ القرارات النهائية في السياسة الخارجية وليس الرئيس، وأنه إذا خسر أحمدي نجاد في الانتخابات المقررة العام المقبل فإن خامنئي سيبقى كما كان متحكماً بكواليس السياسة. خامنئي رجل سلطة وسياسة محافظ وحذر، لذا فقد كان هدفه الأول على الدوام هو تأمين النظام والشؤون المستجدة في البلاد. كما أنه حاول تجنب أية تغييرات جوهرية أو اتخاذ قرارات جذرية ومحفوفة بالمخاطر.

وأي هجوم نووي على إسرائيل سيكون بالضبط قراراً محفوفاً بالمخاطر. وسيكون أمراً مُحرّماً لن يتركه المجتمع الدولي يمر دون عقاب. وليس فقط إسرائيل سترد بهجوم نووي مضاد، ولكن الغرب أيضاً لن يهدأ له بال حتى يُسقط النظام في طهران. ربما ستقف فنزويلا إلى جانبه، ولكن هذا ليس بالأمر المؤكد. ليست إسرائيل بل الجمهورية الاسلامية هي التي ستختفي حينها من الخارطة السياسية. ومسألة لماذا قد يريد أي شخص في إيران هذا الأمر، هي ليست الحلقة الوحيدة المفقودة في مسلسل النقاش الدائر حالياً حول الملف النووي الإيراني.


أولريش فون شفيرِن
ترجمة: علي المخلافي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012