حقيقة الحرب القذرة

فجر موقع "ويكليكس" الإليكتروني نقاشاً عالمياً حول الحرب في أفغانستان عندما نشر نحو تسعين ألف وثيقة سرية مصدرها الجيش الأمريكي. ورغم أن الوثائق لا تكشف عن حقائق جديدة، إلا أنها تغير من وعينا بالحروب الحديثة، مثلما تقول بريتا بيترسون في تعليقها الآتي.

الصورة د.ب.أ
"انتزعت ويكليكس حقيقة الحرب القذرة من النسيان المتعمد"

​​

هناك حكايات لا تكتسب أهميتها من مضمونها، بل من كيفية نقلها وتوقيتها. واحدة من تلك الحكايات هي يوميات حرب أفغانستان التي نشرها موقع "ويكليكس" مؤخراً على شبكة الإنترنت. "الكينوينة هي الوعي": هذه الجملة التي قالها الفيلسوف جورج بيركيلي تصدق بشكل خاص على الحروب، فما لا نشعر به ونعيه، لا يكون له وجود في عالمنا. لذلك فمن أهداف دعاية الحروب هو إخفاء بعض الحقائق.

إن الذين يخوضون حرباً يجتهدون دوماً في إخفاء أحداث معينة عن الرأي العام. تصنيف وثيقة باعتبارها "سرية للغاية" لا يعني شيئاً آخر. فالحرب الحديثة أيضاً – حتى تلك التي تُخاض من أجل أسباب وجيهة وإنسانية – هي في نهاية المطاف حرب؛ أي أنها تعني قتل بشر يعتبرهم المرء أعداءً. وقتل البشر يسبقه إضفاء سمات وحشية عليهم، وهو ما يجعل الجناة أيضاً متوحشين. هذه الفكرة كان دائماً من الصعب تحملها، وكان يتم تبريرها في الماضي دائماً عبر حجج حماسية ووطنية.

مأزق الحرب الحديثة

ولكن، إذا لم يعد بالإمكان استخدام تلك الوسائل والحجج، فلا يتبقى سوى حجب الحقيقة. هل من الممكن أن تنتظر دولة ديمقراطية أن يؤيدها أحد لأنها أرسلت مواطنيها إلى الحرب من أجل الحصول على مصادر جديدة للثروة أو مكاسب جيوسياسية؟ هل من الممكن تبرير الوحشية باسم الإنسانية؟

إن الحروب الحديثة تسير في طريق مسدود. وطالما أننا لا نحاول الإجابة على السؤال السابق فلا يتبقى أمامنا سوى أن نصدق الحكمة التي يرددها الصحفيون: "إن الضحية الأولى في الحرب هي الحقيقة."

حكايات وحشية منسية

رئيس موقع إكيليكس، الصورة د.ب.ا
"قتل البشر يسبقه إضفاء سمات وحشية عليهم، وهو ما يجعل الجناة أيضاً متوحشين"

​​ "ويكليكس" انتزعت حقيقة الحرب القذرة من النسيان المتعمد. أقول النسيان لأن المرء لا ينسى سوى ما يعرفه. نحن جميعاً نعلم ما تعنيه الحرب، غير أننا نطرد ذلك العلم من وعينا عندما نقرأ الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء يومياً عن الضحايا المدنيين الذين يلقون حتفهم على يد قوات الناتو، وعندما نقرأ عن العمليات الانتحارية على المساجد أو على رتل سيارات تابعة لقوات "ايساف". على كل حال فإننا نطرد من وعينا الحكايات الكامنة وراء الأنباء.

وهذا ما يحكيه الآن موقع "ويكليكس". لا يعني ذلك أن تلك الحكايات لم تحك أبداً من قبل. كلا، إن كل من قام بدارسة الوضع في أفغانستان خلال السنوات الماضية لا بد أن يكون قد اطلع عليها. مثلاً، حكاية القنابل التي انفجرت في حفل الزفاف في نانغارهار مزيلة من الوجود حياة عائلة كاملة. حكاية الجندي الذي فقد ساقه في أوروسغان ثم عودته إلى وطنه وهو يعاني صدمة شديدة، وانتظاره حتى اليوم أن يلقى التقدير.

حكاية المسؤولة عن حقوق المرأة في قندهار التي قُتلت بالرصاص أمام باب بيتها، وحكاية حاكم غازني الذي مزقت قنبلة جسده إرباً في المسجد عندما كان بصدد الصلاة على أحد المتوفين، وحكاية سائق التاكسي الذي اُعتقل عند حاجز في أحد شوارع كابول، ثم نُقل إلى سجن باغرام العسكري، وبعد مرور سنوات طويلة يُفرج عنه - بريئاً، ولكن محطماً من التعذيب.

معلومات تمنع الرؤية

قائمة الحكايات المعروفة هذه يمكن بكل سهولة استكمالها حتى ما لا نهاية. ما هو وجه الاختلاف إذاً بين تلك الحكايات المعروفة وما نُشر في اليوميات على الموقع الاليكتروني؟ هل الكم الفظيع هو الذي يجعل الحكايات غير محتملة؟ ألا تُذكر هذه الحكايات بخنادق القناصة وليالي القصف بالقنابل و"العنصر البرتقالي" الشديد السمية الذي استخدم في حرب فيتنام؟ باختصار: ألا تُذكّر بكل الأهوال التي خلفتها الحرب في اللاوعي الجمعي؟

تفجيرات في كابول، الصورة ا.ب
"الضحية الأولى في الحرب هي الحقيقة"

​​ "الحقيقة الجديدة الوحيدة هي تأكيد الشائعات التي تقول بأن حركة طالبان تمتلك بالفعل صواريخ ستينغر المتتبعة للحرارة، بل وأنها استخدمتها ضد طائرات الناتو"، هذا ما كتبه توماس رورتيغ، الخبير بالشؤون الأفغانية من "شبكة المحللين الأفغان"، عن الوثائق التي نشرتها "ويكليلكس". ربما. غير أن هذه ليست إلا تفاصيل قد يستخرج منها مؤرخو الحروب يوما ما حكاية متماسكة.

إلى أن يحدث ذلك فإن مصيرنا هو "الغرق في أدغال معلومات تمنع الرؤية"، مثلما لاحظ – عن حق - أحد قراء "الغارديان" البريطانية التي حصلت على الوثائق البالغ عددها 29 ألف وثيقة بالتزامن مع صحيفة "نيويورك تايمز" ومجلة "دير شبيغل".

لا حقائق جديدة إلا نادراً

إن الكثير مما كتبته وسائل الإعلام المذكورة عن اليوميات قديم ومليئ بالتكرار ولا يحوي جديداً. على سبيل المثال كتبت مجلة "دير شبيغل" أن المعلومات المنشورة تبين أن "الحرب في شمال البلاد – حيث تتركز القوات الألمانية – تزداد خطورة يوماً بعد يوم".

هذه جملة فاضحة، إذ إن "الخطورة" كلمة ذاتية للغاية. غير أن المرء يستطيع أن يقرأ بالفعل في أي أرشيف صحفي أن نشاط المتمردين في شمال أفغانستان بدأ يتزايد في تلك الفترة. بعد ذلك نقرأ أن "المقاومة ضد وجود القوات الدولية لم تتشكل إلا في نهاية عام 2005 ومطلع عام 2006". إن كل من قضى تلك الفترة في أفغانستان أو تابع كصحفي سير الحرب منذ عام 2001 يعرف ذلك، بل وكتب عنه أيضاً.

كما أن صرخات الاحتجاج التي سرت في باكستان لن تفاجئنا كثيراً، بعد أن "كشفت" الوثائق مرة أخرى أن جهاز الاستخبارات الباكستاني (أي إس أي) قد تعاون مع قيادة طالبان (مع ما يُسمى بمجلس كويتا)، وأن ضباطاً متقاعدين يقيمون اتصالات بشبكة "حقاني" التي تربطها علاقات بالمنظمة الإرهابية القاعدة.

إن ذلك من الحقائق التي يعرفها كل شخص في باكستان وإن كان لا يصرّح بها، لأنها جزء من استراتيجية الدفاع الوطنية. وكما كتب الصحفي خالد أحمد مؤخراً في صحيفة "فرايداي تايمز" فإن "الجميع في باكستان يعلم أن الأحداث الجارية في أفغانستان هي في نظر الولايات المتحدة حرب ضد الإرهاب، بينما هي بالنسبة لباكستان حرب ضد الهند".

تعريف جديد لـ"جرائم الحرب"

بريتا بيترسون، الصورة www.dig-ev.de.png
منذ الأول من يوليو (تموز) 2010 ترأس بريتا بيترسون مكتب مؤسسة هاينريش بول في لاهور / باكستان

​​ ماذا يتبقى إذاً من اليوميات المنشورة؟ لن نعرف ذلك على وجه الدقة إلا عندما تصبح هذه الأحداث في ذمة التاريخ. على كل حال فإنها– ربما في نهاية سلسلة طويلة من التقارير السابقة عن الحرب في أفغانستان – ستغير على ما يبدو وعينا. وهذا أمر حسن.

وهكذا يدعو الباحث السياسي تشارلي كاربنتر في صحيفة "هارالد تريبيون انترناشونال" إلى البحث أخيراً عن تعريف جديد لـ"جرائم الحرب"، لأن التعريف القائم لا يصلح لملاحقة العدد الكبير من عمليات القتل غير المتعمد لمدنيين يلقون حتفهم خلال الهجمات التي تشنها طائرات بدون طيار أو أثناء "تفتيش المنازل" في أفغانستان؛ وهو يشير عن حق إلى أن "القتل المتعمد" للأعداء المثير للجدل الحاد في الوقت الراهن يعتبر تقدماً بالمقارنة مع "تحويل مدن بأكملها إلى كومة رماد".

إن موقع "ويكليكس" سيكون قد حقق الكثير لو ساهم نشر الوثائق في جعل المجتمعات الحديثة أكثر صدقاً في إجراء نقاشٍ عما يعنيه اليوم خوض الحروب.

بريتا بيترسون
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010

منذ الأول من يوليو (تموز) 2010 ترأس بريتا بيترسون مكتب مؤسسة هاينريش بول في لاهور / باكستان. قبل ذلك عاشت بيترسون خمس سنوات ككاتبة وصحفية في نيو دلهي / الهند. في عام 2009 منحها المجلس الهندي للعلاقات الثقافية ICCR جائزة "غيزيلا بون" لمساهماتها المتميزة في مجال التفاهم الألماني الهندي.

قنطرة

حوار مع وزير الخارجية التركية الأسبق حكمت تشيتين حول أفغانستان:
"الغرب لا يفهم طبيعة المجتمع الأفغاني"
أين تكمن المشكلات الكبرى في عملية إعادة إعمار أفغانستان وما الأخطاء التي ارتكبتها الدول الغربية في تعاملها مع الصراع الأفغاني؟ وما سر متانة العلاقات بين تركيا وأفغانستان؟ وزير الخارجية التركية الأسبق والذي عمل أيضا ممثلا سابقا لحلف شمال الأطلسي "ناتو" في أفغانستان، حكمت تشيتين، يتحدث عن هذه القضايا وغيرها في حوار مع عائشة كارابات.

استراتيجية بديلة لأفغانستان:
العراق نموذجا لأفغانستان؟
يرى غيدو شتاينبرغ، الباحث في شؤون الشرق الأوسط، أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفغانستان تحتم على الأوروبيين اتخاذ قرارات مهمة تصب في دعم رؤية أوباما بشأن الصراع في هذا البلد، متسائلا في الوقت ذاته عمّا إذا كانت الاستراتيجية الأمريكية في العراق يصلح تطبيقها في أفغانستان.

الحرب في أفغانستان:
حدود القدرات الاستراتيجية للحلف الأطلسي
جندي ألماني في أفغانستان تشكل الحرب الدائرة في أفغانستان تحديا كبيرا بالنسبة لحلف شمال الأطلسي. فرصيد النجاح الذي حققته قوات كل من الناتو والائتلاف في كفاحها القائم ضد حركتي طالبان والقاعدة يتسم بالضآلة. مقال بقلم تيمو نوتسيل وسيبيللي شايبرز