الاستنساخ في الاسلام: ضرورة علاجية أم تشويه لخلق الله؟

لا تمثل الحضارات المتنوعة رأياًً موحداً فيما يخص تقنيات الاستنساخ الطبية المختلفة، ففي العام الإسلامي نجد أيضا آراءً متعددة حول هذه المسألة الحساسة كونها تخص قضايا الحياة والموت. الباحث الألماني في الدراسات الإسلامية توماس أيش يتناول الاختلافات الموجودة بين الفقهاء المسلمين ويقارنها بالآراء المنتشرة في الغرب.

الكاتبة ، الكاتب: توماس أيش

لقد كان التصويت الذي أجْرته هيئة الأمم المتحدة في خريف 2003 حول حظر تكنولوجيا الاستنساخ تَصْويتاً درامياً، فقد كانت هناك مجموعة – خاصة من ألمانيا وفرنسا - تُنادي بالحظْر فقط على الاستنساخ لإعادة نسخ كلي، ومجموعة أخرى تتزعمها كوسْتاريكا، وتُساندها الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك، تنادي بحظر كل أنواع الاستنساخ، حتى العلاجي منها، متجاهلين أن بعض العلماء يُمنّي نفسه أن يساعد الاستنساخ في علاج أمراض مثل تصلّب أَلْزهَيْمر أو الشلل الرّعاش. وفي اللحظة الأخيرة من التصويت ظهر فجأة رأيٌ ثالثٌ نَادى بتأجيل التصويت ونَال أغلبية قليلة. وكان هذا الاقتراح من إيران، بوصفها رئيسة منظمة المؤتمر الإسلامي لدى هيئة الأمم المتحدة آنذاك، والتي يبلغ عدد أعضاؤها 56 دولة مسلمة. ومنذ ذلك الحين والمحللون يتفقون على أن العالم الإسلامي لا يمكن تَجَاهله سياسيا في المسائل المحورية التي تمس المبادئ الأخلاقية المتعلقة بعلم الحياة.

زراعة الأعضاء العادية

ولكن لماذا أرادت منظمة المؤتمر الإسلامي تأجيل التصويت على حظر الاستنساخ؟ إن منظمة المؤتمر الإسلامي كانت تعتمد على فتوى مهمة للفقيه المصري أحمد الطيّب، التي أصدرها في بداية عام 2003، حيث كان يعمل آنذاك في وزارة العدل في القاهرة.

ويقول الطيّب في فتواه إن الشريعة الإسلامية ترفض الاستنساخ لإعادة نسخ كلي، إلا في حالة توظيفه للأغراض الطبية، وذلك على أساس أن هذه التكنولوجيا تفيد الإنسان وتساعد على إنتاج أعضاء وأنسجة معينة يمكن زراعتها في جسم الإنسان، وعليه فإننا ننظر إلى الاستنساخ على أنه مِثْل زراعة الأعضاء العادية التي تُبيحُها الشريعة الإسلامية والتي قد تُنقِذُ حياة الإنسان أو قد تساعد على الحفاظ عليها. ولا ندري ما السبب في رفض منظمة المؤتمر الإسلامي - بناءً على هذه الفتوى - اقتراحَ ألمانيا الذي يسمح بالاستنساخ العلاجي.

قد يكون أحد أسباب ذلك يكمن في ظهور آراء مختلفة في البلاد الإسلامية أثناء مناقشة المبادئ الأخلاقية المتعلقة بعلم الحياة في السنوات الأخيرة، حيث لا يوجد رأي موحد "للإسلام" بهذا الخصوص. وعندما نتأمل عملية الاستنساخ لإعادة نسخ كلي نجد أنها مسألة تكنولوجية بحتة، حيث تُزرع نواةُ خليةٍ في خلية بويضة مفرغة لكي تُهَيّء هذه الخلية للإنقسام ثم تُزرع في رَحم المرأة لتحمِل جنيناً ثم تأتي بحملها إلى الدنيا. هذا الإنسان الجديد قد يكون له نفس البصمة الوراثية للشخص المتبرِّع بنواة الخلية. ما رأي العلماء المسلمين في هذه المسألة؟

هناك مجموعة من علماء المسلمين تقول بأنها عمل شيطاني، مستندة في ذلك إلى آية قرآنية، ويمثلها الفقيه الشيعي شمس الدين في لبنان ومفتي مصر السابق نصر فريد واصل، وهم يستندون في رأيهم إلى قول الشيطان لرب العزة في الآية 119 من سورة النساء: "ولأَمُرَنَّهم فلَيُغَيِّرن خلْق الله". ومجموعة أخرى، أمثال الشيخ اللبناني حسين فضل الله، ترى أن هذه الآية ليست مناسبة لهذا المعنى، لأن الاستنساخ ليس تَغْييرا لِلخَلْق، وإنما هو اكتشاف لِطُرقٍ جديدةٍ للإنجاب. وإذا افترضنا أن الاستنساخ أمرٌ محرمٌ، فإن هذا التحريم لا يرجع إلى الفعل نفسه، لأننا لا نشك في قُدْرة الله وحده على الخَلْق، وإنما التحريم يرجع إلى النتائج الاجتماعية التي قد تسببها هذه التكنولوجيا.

إن الشريعة الإسلامية جعلت الحفاظ على النسب من أهم واجباتها، وهذا لا يعني فقط أن يكون نسب المولود دائما معروفا، بل إن الشريعة تحرص أشد الحرص على أن يكون هذا الإنجاب في إطار شرعي، أي ناتج عن زواج. وبناءً على ذلك يُعتبر العنصر الأخلاقي والشرعي في الشريعة الإسلامية مُهِمّا جدا لدرجة أنه غطّى على علم الأحياء إلى حد كبير. إن الطفل الذى يُولد من علاقة غير شرعية، ليس له نسب إلى والده (إن تعريف الأمومة في الكثير من التفسيرات القانونية ينبني على الإنجاب)، وبهذا لا يصبح الطفل إبن شرعي للرجل، ولا يعتبر ابنه على الإطلاق. فإذا أراد العلماء تحريم الاستنساخ، لأنه قد يؤدي إلى إختلاط الأنساب، فإنهم يعنون بذلك ألا يكون الاستنساخ ناتجا عن خليط من البصمات الوراثية لرجل ولإمرأة. والعلماء يستندون في ذلك على الطريقة التي اسُتخدمت لإنجاب الشاة "دوللي"، حيث أُخِذَت بصمات وراثية من شاة، وزُرعت في بويضة مفرغة لشاة أخرى، ثم زُرِعت هذه البويضة في شاة ثالثة لتحملها ثم تلد.

الاستنساخ داخل الحياة الزوجية

وإننا إذا حاولنا تطبيق طريقة استنساخ "دوللي" على الإنسان، فإنه من الواضح أن الرابطة الزوجية التي تَعْنيها الشريعة الإسلامية لا تلعب دورا على الإطلاق. وإذا تأملنا أقوال الفقهاء جيدا فسيتضح لنا أن الاستنساخ لا يُعتبر عندهم مشكلة، طالما ظل هيكل الأسرة دون مساس، وهذا ما لا يُدركه الكثير. إن الصّحُف العربية نشرت في بداية عام 2003 مقال لشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي بعنوان: "شيخ الأزهر يحرم الاستنساخ"، وكان هذا المقال يعتبر إعادة لنص الحديث الصحفي باختصار شديد. فقد صرح الشيخ طنطاوي: "بأن كل أشكال الاستنساخ التي تساعد على تخليق إنسان من العدم وخارج حدود الأسرة، محرمة شرعاً". كما أن علماءٌ آخرون من ذوي التأثير أمثال الشيخ وهبه الزهيلي في دمشق لم يروا عام 1998 بأساً في التناسل عن طريق الاستنساخ داخل حدود الأسرة.

ويتضح من ذلك اختلاف كبير في الأراء عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقولون بأن تكنولوجيا الاستنساخ تمثل اعتداء على كرامة الإنسان، لأن الإنسان بهذا يصبح هدفا لشيء آخر وليس هدف لذاته. ومصطلح "كرامة الإنسان" لم يرد في نقاش فقهاء المسلمين إلا نادراً، وهذا لا يعني أن المسلمين لا يعرفون هذا المصطلح أو لا يعرفون حقوق الإنسان، ولكن الأمر ينحصر في أنهم لم يذكروه في هذا المجال. وكان مفتي تونس الأسبق محمد مختار السلمي هو الوحيد الذي ذكر هذا المصطلح في هذه المناسبة، وكانت كلماته كما لو كانت ترجمة حرفية لمصطلحات الفيلسوف كَانْت إلى اللغة العربية، وكلماته هذه لا يجب أن تُفهم تلقائيا على أنها غير إسلامية، ولكن لا أساس لها من الصحة، وهذا يدل على أن براهين السلمي لا يُأخذ بها في المناقشات الإسلامية إلا قليلاً.

لا يُجد فصلٌ دقيقٌ بين القانون والأخلاق

وإذا أراد المرء مناقشة أقوال الفقهاء المسلمين المعاصرين حول موضوع معين، فإن على المرء إدراك شيئين أساسيين، أولاً: أن الشريعة الإسلامية في مدلولها هي شرع يهتم بقواعد قانونية معينة، وهذه القواعد لا ينبغي أن تكون دائما حدود، ولكن يمكن – كما في القانون الألماني – أن تُعالِجَ هذه القواعد مسائل أُخرى مثل النفقة والميراث. وثانيا: أن الشريعة الإسلامية لا تعتمد في كثير من الأحوال على الناحية القانونية، ولكن على الناحية الأخلاقية، وعليه فإن عقاب المذنب مَرْجِعُه إلى الله وحده واليوم الآخر، وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بالضبط بين القانون والأخلاق كما هو الحال في أنظمة القوانين العلمانية.

إن التطوير الحديث للقوانين الشرعية يتم عن طريق الفتوى، وهذه تأتي دائما في صورة أسئلة معينة تُطْرح على المفتي ليجيب عليها، والمرء يمكنه أن يسأل المفتي عن كل شيء، ابتداءً من آداب الأكل وكيفية الصلاة وحتى شرعية حرب العراق وحكم الجماع عن طريق الفم والسؤال عن الاستنساخ. والمفتي يجيب عادة فقط على الأسئلة المحددة التي تطرح عليه. فلو سُئِل فرضا عن الرابطة الأُسرية لكائن خرافي ناتج عن تلقيح بين إنسان وحيوان، سوف يجيب المفتي فقط عن صلة القرابة المذكورة في السؤال (كما فعل رئيس جمهورية إيران الإسلامية علي خاتمي)، والإجابة على هذا السؤال ليست دليل على أنه يبيح مثل هذه التجارب أَوْ أنه لايرى حَرَجا فيها. والسؤال هنا كان يجب أن يكون: هل إنجاب هذا الكائن مباح في الشرع؟ وهنا سوف يجيب فقهاء المسلمين على هذا السؤال قطعا بالنفي، لأن المسألة تتعلق هنا بتغيير خلق الله. إن هاتان النقطتان – تَذَبْذُب الشريعة بين القانون والأخلاق من ناحية، والتطوير الحديث الذي يتم بناءً على مسائل الفتوى من ناحية أخرى – تُسَببان صعوبة للمشاهد المحايد في تحليل أقوال فقهاء الإسلام المعاصرين بدقة، بغض النظر عن تبعيته الدينية.

استنساخ الأعضاء

لِنَرجِعَ مرة أُخرى إلى فتوى أحمد الطيب، المصري، حيث سُئل عن إباحة الاستنساخ العلاجي، فأجاب "بنعم"، وعلل ذلك بأن هذه التكنولوجيا تساعد الإنسان في علاج الأمراض. وبرهانه على ذلك هو "المنفعة العامة" التى نجدها دائما عند الفقهاء المسلمين، وهي مبدأ أساسي في الشريعة ويعرف بمصطلح "المصلحة". والمشكلة هنا هي التسمية في حد ذاتها، فالاستنساخ العلاجي له مصطلح باللغة العربية، هو "استنساخ الأعضاء" ويترجم حرفيا إلى "تصوير الأعضاء". وهذه التعبيرات المختلفة التي نجدها عند الفقيه الواحد دليل واضح على عدم معرفته بمضمون هذه التكنولوجيا. والاستنساخ الطبي يتضمن في الخطوة الأولى تَخْليقُ نسخة بشرية ثم يتم مُعالجتها بطريقة غير قَوِيمة في المرحلة الأولى لإنقسام الخلية حتى لا تصبح إنسانا، ولكن تصبح عضوا في كائن مُضِيف.

وهذه المعالجة لابد منها للقضاء على الجنين قبل أن ينمو. وتوجد بالفعل عمليات تكنولوجية لاستنساخ الأعضاء، مثل تجربة زراعة أُذُن فى ظهر فأرة. وهذه العملية ليست لها علاقة بالاستنساخ، لأن الأُذُن أو الأنف تتكون من غضروف سريع النمو ولا يمكن أن يقوم فيما بعد بأي وظيفة كعضو من أعضاء الجسم، على عكس القلب أوالرئة أو الكلى، فهذه الأعضاء لا يمكن صناعتها، ولهذا فإن الأمل كبير في تطبيق تكنولوجيا الاستنساخ العلاجي. وهنا تبدأ المشاكل المتعلقة بمبادئ الأخلاق، لأن الاستنساخ العلاجي يعني تخليق جنين لكي يستفيد به إنسان آخر. ففي مناقشة المبادئ الأخلاقية المتعلقة بعلم الحياة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نجد أن هذه التكنولوجيا تُنْتَقَد مرارا "بحجة كرامة الإنسان" على أنها غرض في حد ذاته. ومن الممكن أن نتصور أن مدرسي الدين المسلمين لا يواجهون صعوبات في ذلك لأن كرامة الإنسان لا تلعب دورا في المناقشات الإسلامية من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أن "المصلحة" مَخْرجا للعلماء في إباحة الاستنساخ على أنه من الممكن أن يساعد في علاج الكثير من الأمراض.

"الرأيُ الإسلاميُ" الموحد غير موجود

إن هناك علماء بارزين أباحوا الاستنساخ العلاجي عامةً، أمثال الشيخ أحمد الطيب، وآية الله محمد سعيد الحكيم في العراق، ومفتي مصر السابق الشيخ نصر فريد واصل. ومما يُذكر هنا أن القضاء على جنين في هذا مسألة ليست واضحة لهم بالفعل. ونجد علماء آخرون لهم ثِقَلهم أمثال مفتي التلفاز الشهير الشيخ يوسف القرضاوي، الذي ينظر إلى الاستنساخ العلاجي نظرة ناقدة. فهو يرى أن الإباحة تكون فقط لاستنساخ الأعضاء بطريقة زراعتها مباشرة في الكائن المُضِيف، بحيث لا تتطلب تخليق جنين بشري. وعلى هذا النحو يرى علماء الشيعة، أمثال الشيخ حسن الجواهري في مدينة قُمْ الإيرانية، أن إباحة الاستنساخ العلاجي لا تكون إلا إذا تجنبنا عملية القضاء على الجنين، وهذا مؤدّاه – حسب الوضع الحالي للأبحاث العلمية – إلى رفض هذه التكنولوجيا. إنه من الواضح جدا أنه لا يوجد "رأي إسلامي" موحد بخصوص الاستنساخ، فهناك مجموعات تقول برفض هذه التكنولوجيا، ومجموعات تقول بإباحتها سواء كان الاستنساخ الجسدي أو الاستنساخ العلاجي. ويبدوا أن الإتجاه العام يدل على أن المجموعة التي لا ترى حرجا في إباحة الاستنساخ الجسدي تزداد مثل المجموعة التي لها تحفظات شديدة تجاه الاستنساخ الطبي.

 

تُومَاس أَيْش عالم في الدراسات الإسلامية ويعمل بجامعة الرور في مدينة بوخوم ومتخصص بمسائل علم الأخلاق البيولوجية في الثقافات المختلفة.

نشر المقال في صحيفو نيوه تسورشر السويسرية  2004

ترجمة عبد اللطيف شعيب