هيرمان هيسه- نبي التحرر وصاحب النظرة البروتستانتية على الطريقة الشرقية

في الروحانية الشرقية عثر هيرمان هيسه على البروتستانتية كما عرفها في طفولته. بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاته وضع غونّار ديكر سيرة جديدة للكاتب الناجح والتي تعطي أيضاً تفسيراً لاستشراقه. أندرياس بفليتش والمزيد من التفاصيل.



ذات يوم كتب هيرمان هسه يقول: "ليس الواقع سوى سيرة ذاتية مختصرة، لايجوز للإنسان أن يكون راضيا عنها في أي ظرف من الظروف. هذا الواقع الرث دائما والمخيب للآمال والمقفر، لا يمكن تغييره إلا اذا أنكرناه، وأثبتنا أننا أقوى منه". إن هذا التعبير عن إزدراء الواقع لدى الشاعر، في ظل المعطيات، يشير إلى دافع الهروب الأبدي عند هيسه والى سعيه المتواصل من أجل البحث.

اهتم غونار ديكر في هذه السيرة الذاتية التي حملت عنوان "هيرمان هيسه، الرحالة وظله" (دار نشر هانزر، ميونيخ 2012، 703 صفحة)، بهذا الشاعر الذي أصبح منذ زمن طويل شخصية أسطورية، بالكثير من التعاطف (ولكن من دون مبالغة) و بحيادية نقدية (لكن من دون غطرسة).

كتب ديكر " إن صاحب قبعة القش، هذا الإنسان العاطفي، غير قابل بأي حال أن يعيش في الجماعة. يجب البحث عن هذا الطائر الراحل في مكان آخر. إنه شخص نفور وسريع الإنفعال دائماً، لا يمكن أن يتحمله شخص آخر- حتى زوجاته الاّ بتحفظ كبير. كان ينزعج من الازدحام ولا يحب الزيارات المفاجئة. بالكاد ينعم بالانسجام الداخلي، رغم أنه يستحضره باستمرار مع غوته. حياته متأرجحة. مرحلة النشوة الإبداعية تليها فترات من الاكتئاب العميق". هكذا يصور لنا ديكر هيسه إنسانا ممزقا دائم الترحال، قضى حياته في البحث عن الانسجام يرافقه شيطان التدمير الذاتي كأنه ظله.

تاريخ متأرجح

الصورة زوركامب
ذات يوم كتب هيرمان هسه يقول: "ليس الواقع سوى سيرة ذاتية مختصرة، لايجوز للإنسان أن يكون راضيا عنها في أي ظرف من الظروف"

​​بل إنً تاريخ أعمال هيسه كان متأرجحت هو الآخر ، يخضع لظروف إقتصادية متنوعة. أما استقبال الناس لأعماله فخضع لتقلبات الموضة الأدبية. هكذا أصبح هيسه واحدا من أنجح الكتاب الألمان، وفي الوقت نفسه لم يؤخذ على محمل الجد. بعد حصوله عام 1946 على جائزة نوبل للآداب، لم يجد في أمريكا النجاح على الفور. فقط حين كتب سيرته الذاتية أصبح "الزعيم الخفي للحركة المناهضة لحرب فيتنام."

الفرقة الموسيقية الأميركية التي أطلقت على نفسها اسم " ذئب البراري" (عنوان رواية شهيرة لهيسه) ، عبرت بأغنيتها "ولد ليكون برياً"„Born to be wild“ عن روح جيل كامل، في حين أوصى تيموثي ليري بقراءة أعماله أثناء تناول عقاقير LSD . إكتشف الهيبييون وجيل ال 68 "عناد هيسه وإصراره "وأعجبوا به، كما أعجبوا بمقته للقومية والوطنية، وهم الذين ساهموا في إحداث "نهضة هيسه" في جميع أنحاء العالم، التي مازالت الى اليوم السمة المميزة للكاتب.

نبي التحرر

 في السبعينيات أصبح هبسه أكثر كاتب ألماني نجاحا في العالم. وبعد خمسين سنة على وفاته مازال موضع جدل. حسب ديكر، هو في نظر البعض "ساذج ومتحمس للطبيعة ، شاعر الفن الهابط، مستواه أعلى من كورث مالر بقليل "، بالنسبة للآخرين هو نبي التحرر وتحقيق الذات.

نشأ في أسرة بروتستانتية من مذهب "التقوى" معروفة بالصرامة والتقشف بلا هوادة. عانى هيسه الذي ولد عام 1877 في ولاية هيسن، من الدوغمائية، ناهيك عن العيش في أفق ضيق تسيطر عليه دقة الالتزام بالوصايا والقواعد. نشأ على تربية صارمة وعلى الإنضباط والتهديد بالعقاب. كان الأدب خشية الخلاص ووعد النجاة. قرأ هيسه الشاب غوته وهاينه ، ثم بدأ بالكتابة. في سن ال18 كان يخطط للهجرة إلى البرازيل، واتخذ قراراً بترك ألمانيا وأوروبا . بدلا من ذلك، أصبح متدربا في مكتبة في مدينة توبنغن.

في كلمات هيسه الواردة أعلاه حول ازدراء الواقع شيئان متقابلان: من ناحية هي ردة فعل على الوسط التقوي الذي نشأ فيه، وفي الوقت نفسه هي صدى لتلك المثالية الكامنة في هذا الوسط. ميله الى الرومانتيكية والغرائبية شيء، والحيرة القهرية شئ آخر. يُشيد بالعناد والكسل في آن معا، لكنه لايحققهما إلا في لحظات نادرة. رغم هذه المثل العليا، لا يتخلص من الشك المتغلغل فيه ولا من التحريض على النشاط . في البومة الصغيرة يكمن دائما الصفراوي.

هروب إلى الأدب

بالإضافة إلى هروب هيسه الشاب الى الأدب، ظهرت لديه رغبة في الحل والترحال. صحيح أن مخطط الهجرة إلى البرازيل لم ينفذ، لكن على الأقل سافر هيسه إلى إيطاليا. في ذلك الوقت وفرت مدن بولونيا ورافينا وبادوفا والبندقية احتياجاته الى الغرائبية. كان الجنوب في نفس الفترة مثل المشرق يمثل الأصالة والطبيعية، ويبشـّر بعوالم بديلة مثالية. لدا واضحا له أن الإنسان هناك بقي ناجياً من الحداثة وضغطها المحموم ومن صخب التكنيك. "هؤلاء الناس" قال هيسه ممتدحاً الإيطاليين " يتحلـّون بالبراءة وبالثقة في النفس، إضافة إلى نمط عيش يتميز بالطبيعية والمرونة. مقارنة بهم نظهر نحن أبناء الشمال: دمى."  في وقت لاحق لعبت الهند دوراً مماثلاً مثل إيطاليا. عام 1911 قرر هيسه اقتفاء آثار جده هيرمن غوندرت، الذي كان أحد المبشرين في الهند، فسافر إلى "الهند الخلفية"، سري لانكا، وسومطرة وسنغافورة. لم تعد إيطاليا تكفيه. البديل الحقيقي لأوروبا الحديثة موجود في الشرق.

السيخ ا ب
في السبعينيات أصبح هبسه أكثر كاتب ألماني نجاحا في العالم. وبعد خمسين سنة على وفاته مازال موضع جدل

​​لكن حتى هنا كانت تنتظره الصحوة. وكان على هيسه أن يواجه "التجربة البشعة، حيث نظرة المصلي المليئة بالروحانيات والبحث، لدى معظم الهنود ، ليست دعاء للآلهة والخلاص، لكنها ببساطة دعاء للمال". البحث عن الأصالة لم يكن سوى خيبة أمل، ولم تكن الأديان والثقافات، التي كان يأمل في اكتشافها ،سوى فولكلور: "إن البوذية السيلانية" ـ على حد تعبيره ـ "هي جميلة لالتقاط الصور والكتابة عنها في الصفحات الثقافية. علاوة على ذلك فهي ليست سوى واحدة من الأشكال العديدة، المؤثرة، المؤلمة والعجيبة، التي فيها تكمن معاناة الإنسان العاجزة عن التعبير عن بؤسها والمفتقرة إلى لروح والقوة". الهند الحقيقية لا يمكن أن تتطابق مع الهند المرسومة في الخيال.

روح شرقية

عنما بدأ عام 1922 في كتابة "سيدهارتا"، كان هيسه يدرك أن "الهند البراهمنية ليست مجرد لباس" فأضاف يقول "اللباس هنا يتجاوز دلالة الزي". في شكل "شعر هندي"، كما العنوان الفرعي للكتاب، يحاكم هيسه الأزمة في أوروبا ويعلن بحثه عن حياة ذات معنى. كتاب "سيدهارتا" هو محاولة توليف بين الفكر الشرقي والغربي ، كما يشرح الكاتب في مقدمة الطبعة اليابانية عام 1955: "نحن نعترف بأن الحكمة الشرقية والغربية ليستا سلطتين في حالة عداء وحرب، وإنما قطبان تتأرجح بينهما حياة مثمرة ".


في الروحانية المثالية الآسيوية عثر هيسه على شكل للدين أكثر راحة ، وبالتالي بديلا للدين الذي عرفه من والديه. "الشرق كله" ـ كتب حسب تقليد الاستشراق ـ "يتنفس الدين كما يتنفس الغرب العقلانية و التكنولوجيا. وبالمقارنة مع تدين الأسيوي الحميم والمعتنى به والجدير بالثقة، تبدو الحياة الروحية للإنسان الغربي بدائية ومتروكة للصدفة".

في أثناء ذلك ، كان ما وجده في الشرق قريبا من الخصوصية المسيحية في وطنه، مما لا يبدو للوهلة الأولى: لقد استبدل قواعد مذهب التقوى بشكل شاعري صوفي، بالبانتيئية (مذهب وحدة الوجود ). أما النفور التقوي من كل الأمور الدنيوية، فتحول عند هيسه الى عداء للحداثة التي تمجد الطبيعة و التكنولوجيا ، وهذا ماقاده فيما بعد الى حركة البيئة. وفي النهاية كان هيسه يعثر على الغرب دائماً في الشرق، وفي الشرق فقط.

لم يتخلص من بروتستانتية طفولته. بل بقيت مرافقة دائمة لهيسه، كما يقول غونار ديكر، "كفكرة ملازمة لحياته". في " سيدهارتا" يختبر هيسه "النظرة البروتستانتية عن طريق الفكر الشرقي". هيسه نفسه اعترف بأن البديل الشرقي لايقدم إختصارا للخلاص. من يقرأ في أوروبا كلمات بوذا ويصبح من خلالها بوذياً، يختار مخرجا للطواريء بدل الطريق الذي يمكن أن يشير اليه بوذا."

 

أندرياس بفليتش
ترجمة: سليمان توفيق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012