السينما المغربية ومأزق كسر التابوهات

أفلام كثيرة من التي تُخرج وتُصور في المغرب تعالج في الظاهر قضايا اجتماعية، غير أنها في واقع الأمر - هكذا ترى الناقدة إيريت نايدهارت - تخفي عن الأبصار المشكلات الاجتماعية والسياسية الحقيقية.

الكاتبة ، الكاتب: Irit Neidhart



في مطلع سبتمبر / ايلول نظم "مركز الشرق الحديث" و"معهد الفيلم وفن الفيديو - أرسنال" في برلين أيام سينمائية مغربية تحت عنوان "التحول والتنوع". في إطار هذه الأيام عُرضت تسعة أفلام اُنتجت ما بين 2001 و2011. في تلك الفترة تم انتاج 120 فيلماً في المغرب على وجه الإجمال.

وتقول سونيا حجازي – التي ساهمت في تنظيم الأيام المغربية السينمائية – أن معيار اختيار أفلام الأيام البرلينية هو عرض أفلام تكسر حاجز الصمت حول الموضوعات المثيرة للجدل في المجتمع المغربي، وكذلك إظهار التحول البطيء الذي تشهده البلاد منذ عدة سنوات.

تنوع أساليب الحياة في المغرب

افتتح الأيام السينمائية فيلم المخرجة نرجس نجار "عيون الجفا" (فرنسا / المغرب 2003)، وهو فيلم حاز على جوائز عديدة، ويعالج موضوع الدعارة في المغرب. أما المخرج محمد شريف ترباك فيعالج في فيلمه الأول "زمان الرفاق" (المغرب 2008) الصراعات بين الجماعات الطلابية الماركسية والإسلامية في مطلع التسعينات.

الصورة مصطفى حبيس
أسلوب قيادي نخبوي وسلطوي: الأفلام التي تلقى الدعم في عهد الملك محمد السادس هي في كثير من الأحيان أفلام نقدية ظاهرياً فقط، في عديد من الحالات - هكذا ترى الناقدة إيريت نايدهارت - ترسخ هذه الأفلام رؤية النظام وطريقة معالجته للأمور.

​​وتصور ليلى كيلاني في فيلمها الوثائقي "أماكننا الممنوعة" (فرنسا / المغرب 2008) عمل لجنة تقصي الحقائق التي تعمل على كشف انتتهاكات حقوق الإنسان في عهد الملك الحسن الثاني. وتعالج ياسمين قصاري في فيلمها "الراقد" (المغرب / بلجيكا 2004) مشاكل النساء اللاتي يتركهن رجالهن الذين يرحلون للبحث عن عمل في أوروبا، في حين تمزج المخرجة طلال سلهامي في فيلمها "أيام الوهم" (المغرب 2010) بين سمات أفلام الرعب والإثارة والتشويق مع سمات الفيلم الفنتازي، مسلطةً الضوء على الجوانب المظلمة في عالم العمل اليوم في المغرب. ولم يكن برنامج المهرجان ثرياً ومتنوعاً في الموضوعات فحسب، بل أيضاً في الأساليب السينمائية.

البرودة الدالة

غير أن كل الأفلام تقريباً تترك شعوراً بالبرودة في تصويرها لأبطالها، كما تبدو هذه الأفلام غريبة عن الأحوال المعيشية في المغرب أو عن موضوع الفيلم. إلى أي شيء يرجع ذلك؟ يمكن إرجاع ذلك على نحو جزئي إلى أن عدداً كبيراً من مخرجات الأفلام ومخرجيها لا يعيشون في المغرب، بل وقد يكونون في بعض الحالات مولودين في الخارج.

هؤلاء المخرجون يُطلب منهم أن يصنعوا أفلاماً عن المغرب للاستفادة من التمويل الذي تقدمه الدولة منذ عدة سنوات إلى صناعة السينما المحلية. وقد أمست المغرب منذ فترة طويلة مكاناً يفضله صنّاع السينما في هوليوود عندما يقومون بتصوير أفلام تاريخية؛ وهكذا نشأت صناعة بأكملها في مدينة ورزازات، وهي صناعة تجتذب المستثمرين من الخارج. والآن تريد الدولة أن تستفيد صناعة الفيلم المحلي من هذه البنية التحتية السينمائية. ولأن عدد الطلبات المقدمة للحصول على دعم حكومي ليس كبيراً، فإن صنّاع الأفلام من أصل مغربي يستطيعون أن يتقدموا بطلب للحصول على تمويل من الدولة. في الوقت نفسه فإن الأموال المغربية وحدها لا تكاد تكفي لانتاج فيلم واحد، ولذلك أصبح الإنتاج المشترك مع أوروبا ضرورة لا غنى عنها بالنسبة للمنتجين.

سلطة تأويل التاريخ والسياسة

غير أن التناقضات في الأفلام قد ترجع إلى أسباب سياسية أو اجتماعية أيضاً، فالوصول إلى أموال الإنتاج المشترك – وهي عملية مكلفة للغاية – ينحصر في الدول التي تنتمي إلى ما يُسمى بالعالم الثالث في العادة على مجموعة صغيرة من الذين ينتمون إلى الطبقتين العليا والوسطى، وهي مجموعة لا بد أن تكون قادرة على التعاون مع أوروبا. في الوقت ذاته فإن الموضوعات التي تجد تمويلاً تتمحور في الغالب حول التخلف والفقر بالمعنى الواسع للكلمة.

الصورة فيرلاي
قمع الآخرين: يوحي الفيلم الوثائقي "أماكننا الممنوعة" الذي أُنتج عام 2008 أن المغرب لم يشهد ملاحقات سياسية في الآونة الأخيرة.

​​ولذلك فنادراً ما تعطي الأفلام رؤية للموضوع من الداخل، بل قد تكون الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعرقية مفروضة على بنية الأفلام التي تقترب من سلطة تأويل التاريخ والقيم السياسية. ويكمن مأزق كسر التابوهات في أن هذه الأفلام غالباً ما تؤثر في نفس المشاهد، غير أنها في الوقت نفسه تبسط الأمور تبسيطاً كبيراً، وفي بعض الأحيان تزوّر هذه الأفلام الواقع، ونادراً ما تقوم بتحليله. وهكذا نجد أحداث فيلم "العيون الجافة"، على سبيل المثال، تدور في قرية أمازيغية نائية، وهناك تعيش النساء منذ أجيال وحدهن. هؤلاء لا يستقبلن الرجال إلا عندما يكون القمر بدراً وبعد أن يسدد الرجال مبلغاً من المال.

ويقوم ممثلون محترفون من نجوم السينما المغربية بأداء أدوار الشخصيات الثلاث الرئيسية في الفيلم، وهي هالة ومِنّه وفهد. وتمثل النجمة التلفزيونية والمغنية سهام أسيف دور هالة، بينما يقوم بتمثيل دور فهد الممثل خليل بن شكرة الذي أصبح يمثل في الآونة الأخيرة أدوار بطولة وأدواراً ثانوية في أفلام هوليوود التي تُصور في ورزازات. أما الممثلة راوية – التي تؤدي دور مِنّه – فقد رآها الجمهور الألماني مؤخراً في فيلم "عن البشر والآلهة" للمخرج كسافي بوفوا.

أما كل الممثلات الأخريات فقد تم اختيارهن من ثلاث قرى في المنطقة، وهن لا يتحدثن في الفيلم إلا باللغة الأمازيغية، في حين يتفاهم الممثلون المحترفون باللغة العربية. وعند اختيار الممثلات "الكومبارس" لهذه الوظيفة ذات الدخل المجزي للغاية لم يخبرهن أحد بشيء عن موضوع الفيلم سوى أنه يناقش موضوع الدعارة، دون الخوض في أي تفاصيل.

الصورة فيرلاي
"مقطع مشوه للواقع": ترى نايدهارت أن الأفلام يجب أن توضع في سياقها حتى لا يصل المرء إلى استنتاجات خاطئة.

​​بعد أن شاهدت ممثلات كومبارس فيلم "العيون الجافة" في دار العرض السينمائية بالمدينة، اكتشفن أن الفيلم يختزل مشكلة الدعارة في منطقة جبال الأطلس، وبالتالي ينسبها إلى نساء البربر فحسب. حاولت النساء عندئذ أن يستصدرن قراراً بمنع عرض الفيلم – ووقعت 35 امرأة على الطلب، بعد أن حصلن على دعم ثمانية رجال لهن. وتعد ظاهرة دعارة النساء والأطفال مشكلة هائلة في المغرب، وإن كانت المغربيات ينتقلن إلى الدول العربية الأخرى في المقام الأول، أو ينقلن إلى أوروبا. وتشكو مفوضية الأمم المتحدة للاجئين منذ سنوات من أن الحكومة المغربية تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المشكلة.

غير أن الأمازيغيات لم يكن أمامهن فرصة حقيقية لنجاح طلبهن، لأن المخرجة جعلت الممثلات الكومبارس الأميّات يوقعن على عقود قبل بداية التصوير، وبذا أمّنت نفسها قانونياً. ومنطقة تيزي نيسلي في المغرب – وهي المنطقة التي تجري فيها أحداث الفيلم – معروفة بأن قبائل البربر هناك خاضوا أعنف الثورات وأكثرها دموية ضد قوى الاحتلال الفرنسي التي قامت فيما بعد بفرض حظر على المنطقة لمدة أربع وعشرين سنة، وبعدها قام الملوك المغاربة العرب – بعد الحصول على الاستقلال – بمواصلة الحظر. حتى اليوم يكافح السكان البربر للحصول على البنية التحتية الأساسية في منطقتهم، مثل بناء الشوارع والطرق وإدخال مياه الشرب والكهرباء.

تجاهل متعمد للوقائع

في فيلمها الوثائقي "أماكننا الممنوعة" تصور المخرجة ليلى كيلاني حياة أربع عائلات من المعارضين السياسيين السابقين وضحايا التعذيب في عهد الملك الحسن الثاني. ابن الحسن الثاني - الملك الحالي محمد السادس – أعلن رغبته في الكشف عن الظلم السياسي الذي وقع في عهد والده، ولذلك أمر بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، وهي لجنة أثارت جدلاً كبيراً لأنها لا تسمح للشهود بأن يذكروا في شهاداتهم أسماء الجناة.

ويبدأ هذا الفيلم الوثائقي – الذي ساهمت في تمويله لجنة تقصي الحقائق إلى جانب عدد من مؤسسات الدعم الفرنسية – بلوحة تضم معلومات منها: "1956: حصلت المملكة المغربية على استقلالها. منذ مطلع الستينات، وبشكل خاص في سنوات السبعينات والثمانينات، قامت السلطات المغربية باستخدام التعذيب والخطف لكي تكمم أفواه حركات المعارضة."

غير أن هذه اللوحة لا تذكر حرفاً عن أن الاعتقالات السياسية والعنف والتعذيب في السجون المغربية كان أيضاً موجوداً قبل ذلك، أي في عهد قوى الاحتلال الفرنسية قبل الاستقلال، كما أنه ظل حتى اليوم، في عهد الملك الحالي. هذه المعلومات تعبّر عن موقف سياسي واضح، وهو موقف يثير أسئلة كثيرة بالنسبة للفيلم. إن الأيام السينمائية التي تتناول الثقافات الغريبة لا يمكنها أن تعرض سوى شريحة صغيرة فحسب، وغالباً ما تكون هذه الشريحة مشوهة للواقع، ولذلك لا بد من أن ترافقها رؤية نقدية لوضع الأفلام المفردة في السياق المعقد الخاص ببلد ما.

 

إيريت نايدهارت
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011

إيريت نايدهارت باحثة في العلوم الإسلامية ومنتجة للأفلام، وهي تعد خبيرة في أفلام سينما الشرق الأوسط.