كشف حساب مبدئي

كثرت المناقشات هذه السنة عن الإصلاح في العالم العربي، ولكن ما هو الاستعداد الفعلي للأطراف المعنية المختلفة وإمكانياتها للدخول في عملية الدمقرطة؟ تحليل الباحث في العلوم السياسية عمرو حمزاوي

عمرو حمزاوي

​​

ربما كان من المناسب الآن، مع قرب انتهاء ما يمكن أن ننعته «عام الإصلاح العربي الأول 2004»، محاولة القيام بجردة مبدئية تتقصى حدود وفرص المضمون الأساسي، وإن لم يكن الوحيد، لمفهوم الإصلاح، ألا وهو التحول الديموقراطي. ولعلي لست بصادم للقراء الكرام حينما أشدد على مركزية أزمتين بنيويتين تعترضا طريق الديموقراطية:

من جهة غياب الفاعل الجمعي القادر على، أو الراغب في إنجاز التغيرات المطلوبة، ومن جهة أخرى محدودية التوافق العام حول هدف الديموقراطية ذاته، والأخطر حول المتوقع منه مجتمعياً.

لا تقتصر معالجة معضلة الفاعل الجمعي على التدبر في توجهات وسياسات النخب الحكومية وغير الحكومية في البلدان العربية، بل تمتد لتشمل أدوار القوى الدولية الفاعلة في الشرق الأوسط، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، منتجي خطاب الخارج حول الإصلاح العربي.

أبدأ من هنا فأقول إن عام 2004 قد أظهر وعلى مستويات متعددة، المحدودية الواقعية لأولوية قضية الديموقراطية في سياق السياسات الغربية تجاه المنطقة. وعلى الرغم من توالي مبادرات وبيانات وتصريحات المسئولين الغربيين ذات اليافطات البراقة، من شاكلة إعلان قمة الدول الثمانية بشأن «الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع الشرق الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا»، إلا أن واشنطن ولندن وباريس وغير الأخيرتين من العواصم الأوروبية، ما تزال في المحصلة الأخيرة تعلي من قيمة استقرار النظم العربية كضمانة وحيدة لمصالحها الاستراتيجية.

تحول النموذج إلى وهم

وواقع الأمر أن إدارة بوش الجمهورية قد تخلت تدريجياً مع استمرار تفجر الأوضاع في العراق، وردود الفعل العالمية المعادية عن نواياها المعلنة سلفاً في محاولة فرض إصلاحات على الحكومات العربية. تبدو واشنطن في اللحظة الراهنة أكثر اهتماماً بتأمين دعم إقليمي لجهد إعادة بناء الدولة بمؤسساتها الأمنية والتمثيلية في العراق، وباستثمار علاقاتها المتميزة بعدد من دول الشرق الأوسط لضبط إيقاع المنطقة السياسي بقدر الإمكان.

خرجت المغامرة الكبرى المعنونة «تصدير الديموقراطية الليبرالية إلى العالم العربي» تماماً من حسابات المحافظين الجدد الجيوستراتيجية ولم يتبق منها أو من وهم نموذج ديموقراطي في العراق يفيض نوراً، على شبه الجزيرة والهلال الخصيب ووادي النيل، سوى رغبة الدمج بين استقرار النظم وحماية المصالح وبين القيام بعدد من التجميلات الليبرالية، تسوق عالمياً على أنها بدايات لتحول ديموقراطي شامل، يستجيب لضغوط القوة الأعظم، ويحترم خصوصيات متوهمة لعرب القرن الحادي والعشرين.

أما الاتحاد الأوروبي، وإذا ما استثنينا من جهة نقاشات وأوراق داخلية حول قضية المشروطية، أو بعبارة أوضح إمكانية الربط بين المساعدات الاقتصادية والتغير السياسي، ومن جهة أخرى إظهار ورقتي حقوق الإنسان والحوار البناء في عدد من اللحظات المنتقاة بعناية، فلم يبتعد ولو مليمترات بسيطة عن مبدأ أولوية الاقتصاد في علاقته بالمنطقة.

وما التكالب الأوروبي الراهن على ليبيا والعقيد القذافي، إذا ما قورن بإهمال الملف الفلسطيني وتوافق الحد الأدنى فيما يخص العراق، سوى دليل بين على ذلك التوجه. أما الأطراف العربية فهي حائرة من جهة بين نخب حكومية غير راغبة في إنجاز تحولات وما بين قوى سياسية ودينية لا تملك القدرة على صنع التغيير.

ولنضع على هذه الصورة التبسيطية القاتمة بعض الرتوش التوضيحية. فأصداء خطاب الإصلاح تتردد ولا ريب في جنبات معظم النظم العربية في عالمنا، إلا أنها لا تتخطى في المجمل الأعم حدود التعديلات غير الجوهرية على الحياة السياسية، بصورة تهمش التساؤلات المركزية، أو تفقدها مضمونها الفعلي في إطار إعادة صياغتها كمجرد قضايا فنية أو قطاعية.

وضع المنظمات غير الحكومية

أما الاستثناءات الواردة على المجمل الأعم هذا، فتعبر عنها سلباً بعض الحالات التي لا تناقش في سياقاتها قضية الديموقراطية على الإطلاق، وإيجاباً عدد شديد المحدودية من التجارب الفعلية للتحول الديموقراطي الدينامي، عنصرها الفصل، هو تنامي ضغط قوى مجتمعية مختلفة، من أجل التغيير كما في مملكتي المغرب والبحرين على وجه الخصوص.

على صعيد آخر، وعلى الرغم من مصداقية الدفع بأن جل النخب غير الحكومية غير قادرة على صنع الإصلاح، إن بحكم غياب قواعدها الشعبية، أو اعتمادها المرضي على جهاز الدولة، هناك في بعض البلدان العربية، مثل مصر والأردن واليمن منظمات أهلية، وحركات شديدة الفاعلية والتجذر في الواقع الاجتماعي، إلا أن رؤاها للمجتمع والسياسة لا تتسق مع هدف الديموقراطية.

وأعني هنا بالأساس القوى الإسلامية المعتدلة (ولفظة الاعتدال تفصل بصورة وظيفية بينها وبين تنظيمات العنف المتشحة الرداء الديني) التي وإن تحدثت في الآونة الأخيرة عن حتمية الإصلاح السياسي على نحو ليبرالي، كما في مبادرة مرشد جماعة الأخوان المسلمين المصرية مهدي عاكف المعلنة في الصيف الماضي، إلا أن قناعاتها الأيديولوجية، إذا نظرنا إلى مجمل السياقات المجتمعية، تشي بتوجه شديد الرجعية راغب في استعادة المقدس إلى كل شبر من المساحة العامة تحت يافطات الأسلمة والأصالة.

في التحليل الأخير لا يمكن لمثل هذا التوجه، إن استحال واقعاً، أن ينتج سوى مجتمعات رافضة للتعددية، وغير قادرة على ممارسة التسامح في حركتها الواقعية، وكلاهما من الشروط الأساسية للديموقراطية.

حلم الجماهير العربية

ينقلنا ذلك إلى المعضلة البنيوية الثانية للديموقراطية في عالمنا، وهي غياب التوافق حولها كهدف مجتمعي أسمى. والحقيقة أن التحول الديموقراطي لا يشكل مطلباً عاماً للجماهير العربية. روح الأخيرة ما تزال تتنازعها صياغات توتاليتارية مختلفة للمجتمع والسياسة، تتراوح بين البحث عن الديكتاتور العادل وحلم تأسيس الدولة الاصولية، وهنا تكمن حالة بارنويا الجماهير، بجاذبيتها لدى المواطن العربي.

على مستوى الحياة اليومية، وعلى خلاف حالات مماثلة في القارة الأفريقية وعدد من دول أمريكا الجنوبية، لا يولد تدني الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولا اتساع الفجوة بين الغني والفقير، على نحو يجعل من الوجود المتماسك للشرائح الوسطى ظاهرة نادرة . بل تبدو رداءة الواقع المعاش، وظيفياً، وكأنها عامل إضافي لتعلق الجماهير المرضي إن بالنظم كباب الأمل الوحيد، أو بالأيديولوجيات الشمولية ذات الوصفات الخلاصية البسيطة.

أما القناعة بأن الديموقراطية في صياغتها الليبرالية ذات النشأة الغربية والتطبيقات العالمية، من الهند إلى البرازيل، قد تشكل كنظام للمجتمع والسياسة فرصة حقيقية للتقدم، وأن مناط حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة، إنما يتمثل في إرادة سياسية تنجز تحديث المؤسسات العامة ومناهج عملها، فلم تتخط في ظهرانينا، وبعد عقود ثلاثة من النقاشات المكثفة، حدود النخب الثقافية والفكرية. قاتمة هي الصورة رغم الرتوش الملونة.

بقلم عمرو حمزاوي، صدر المقال في صحيفة الشرق الأوسط

حقوق الطبع عمرو حمزاوي ‏2004‏‏

الكاتب أستاذ بقسم العلوم السياسية، في جامعة القاهرة