مهرجان كناوة- روعة موسيقية بروح عالمية

شكلت الدورة الخامسة عشر من مهرجان كناوة وموسيقى العالم في مدينة الصويرة المغربية ظاهرة فنية وثقافية متميزة ، حيث يلتقي في كلِّ عام في هذه المدينة الخلابة الواقعة على سواحل المحيط الأطلسي عشَّاق موسيقى كناوة بكبار الموسيقى العالمية وموسيقى الجاز والبوب. أندرياس كيرشغيسنر يسلط الضوء على فعاليَّات المهرجان.

الكاتبة ، الكاتب: Andreas Kirchgäßner



اعتاد زوَّار مهرجان كناوة على مشاهدة طقوس تقام على خشبات تمتد في جميع أحياء الصويرة، حيث يقام في البدء حفل موسيقي لفنَّان عالمي مدعو للمشاركة في المهرجان ويستطيع الجمهور سماعه والاستمتاع بموسيقاه. وثم يليه على الخشبة ذاتها حفل موسيقي تحييه فرقة كناوة تندمج فيما بعد مع الموسيقي العالمي.

وتحظى حفلات الكناوة بشعبية واسعة لدى المغاربة، بينما تثير هذه الموسيقى حيرة الزوَّار القادمين من أوروبا لأنَّها تبدو لغير المعتادين على سماعها قديمة وأقرب إلى صوت الخشخشة. ولكن الجمهور المغربي يعرف كلمات هذه الموسيقى على الرغم من أنَّها ممزوجة بكلمات من لغة شعب بامبارا في غرب أفريقيا وقبائل الولوف. ويشارك الجميع في الغناء وتصبح رقصاتهم وجدانية أكثر. وتتحوَّل هذه الرقصات إلى رياضة لدى الفتيات الصغيرات اللواتي يفلتن من أيدي أمهاتهن وأخوتهن ويرقصن مع الجموع في نشوة حتى يسقطن على الأرض.

وثم تلي حفل الكناوة جوهرة هذا المهرجان، أي دمج الموسيقيين العالميين مع الكناوة. وفي هذا الدمج لا يرتجل موسيقيو فرق الكناوة أي جديد تقريبًا، بل يعتمدون على مخزونهم من الموسيقى ذات الأصول الأفريقية والنغمات الخماسية التي يتم عزفها بنغمات متعدِّدة. ومن المثير للإعجاب مدى سرعة تناغم هذه الموسيقى التقليدية مع الموسيقيين العالميين. وفي كلِّ مرة ينشأ لون موسيقي خاص وجديد.

لقاء يشبه اللقاء بأخ مفقود

أومو سنغاري  الصورة ماريون بيكهويسر
فنَّانة ملتزمة بالدفاع عن حقوق المرأة - تعتبر الفنَّانة أومو سنغاري القادمة من عاصمة مالي باماكو من أشهر ممثِّلي موسيقى الواسولو وتطرح في كثير من نصوص أغانيها موضوع الحب والزواج والحرية وتقرير مصير المرأة.

​​ولا عجب من أنَّ أفضل وصلات الدمج الموسيقي هي التي تتم بين موسيقيين أصولهم من أفريقيا وفرق الكناوة، وذلك لأنَّ الكناوة هم شعب أصله من العبيد الذين كان يتم سبيهم في السابق من غرب أفريقيا إلى المغرب. وعن ذلك يقول عازف السكسفون المختص بموسيقى الجاز والمولود في جزر جوادلوب، جاك شفارتز-بارت: "كان ذلك بالنسبة لي تفاهمًا غريزيًا من دون ألفاظ مع موسيقيي الكناوة". ويضيف أنَّ ما يجمع الموسيقيين هي الإيقاعات والنغمات الخماسية ولكن قبل كلِّ شيء مبدأ الطلب والاستجابة، أي المغنِّي والجوقة، مثلاً ما يطلق عليه راهب الفودو الهايتيّ إيرول جوزويه اسم "الإنجيل الأفريقي". وهنا تجتمع روح موسيقية مشتركة ما بين الفودو والكناوة. وشفارتز-بارت يجد أنَّ لقاءهما يشبه اللقاء بأخ مفقود منذ زمن طويل ويقول: "نحن نتعرَّف في هذا اللقاء على أجزاء من هويَّتنا ونعبِّر عن أنفسنا فيه ولكن بألوان جديدة تعمل على تقويتنا جميعنا".

وكان النجم الأبرز في المهرجان لهذا العام المغنِّية القادمة من مالي - البلد الذي يعاني من حرب أهلية، أومو سنغاري ومجموعتها. وغنَّت الفنَّانة أومو سنغاري في وقت متأخر من المساء على الخشبة الكبيرة الموجودة أمام جدار المدينة، حيث ازدحم المكان هناك بالمستمعين المغاربة، إذ إنَّ موسيقى غرب أفريقيا تحظى بشعبية واسعة في جنوب المغرب. ورافقها كذلك عرض راقص مثلما جرت العادة مع كبار نجوم البوب، شاركت فيه راقصات ومغنيات جميلات بالإضافة إلى الغزل المتبادل باستمرار بين الفنَّانة سنغاري والموسيقيين الرجال.

دعوة للإفطار مع الفنَّانة سنغاري

الصورة ماريون بيك هويسر، صورة يواخيم أكون
يهتم عازف البيانو الموهوب والمختص بموسيقى الجاز يوآخيم كون بالعمل مع فنَّانين من ثقافات أخرى ويعمل حاليًا في ثلاثي موسيقي مع المغربي عبد المجيد بقاس وعازف الدرامز الإسباني رامون لوبيز.

​​كانت الإيقاعات والأنغام تعزف تمامًا حسب موسيقى الواسولو التي تحظى بشعبية واسعة في غرب أفريقيا وقد نشأت من أغاني الصيد التقليدية ويتم عزفها على آلات موسيقية تقليدية وعلى آلات حديثة. وفيما بعد انضم بطبيعة الحال إلى هذه الفرقة موسيقيو الكناوة بآلاتهم الموسيقية ذات الأوتار الثلاثة، آلة الكمبري وبصنجاتهم المعدنية. واستمع الجمهور لموسيقى الساحل في لونيها الأفريقي الغربي وكذلك المغربي، ونالت هذه الموسيقى تقدير المستمعين وإعجابهم. وفي النهاية وجَّهت الفنَّانة سنغاري نداء من أجل السلام في بلدها مالي. وفي اليوم التالي قال لي بعض الأشخاص المغاربة من دون أن أسألهم إنَّ نداء السلام هذا كان الأكثر إثارة في حفل أومو سنغاري. وهذا خير دليل على مدى قرب المواطنين المغاربة من الأحداث في غرب أفريقيا.

وما تزال هذه المغنية البدينة قليلاً والتي يبلغ عمرها أربعة وأربعين عامًا جميلة حتى من دون مكياج. وليس لهذا السبب فقط حاولنا إجراء مقابلة معها. بعد أن ظهر في البداية أنَّ المكتب الإعلامي الخاص بالمهرجان مشغولاً تمامًا تلقينا فجأة دعوة للإفطار مع الفنَّانة أومو سنغاي. وكانت أومو ما تزال متعبة من حفل الليلة الماضية، ولكنها بدت مرة أخرى من دون مكياج. ومثلما ظهرت على الخشبة كانت ترتدي كذلك زيًا ضيقًا له تقويرة واسعة ويبرز امتلاءات جسدها.

وبطريقة ودية ومرحة جدًا أكَّدت لنا بين رنين هاتف الآي فون المتواصل والرسائل التي كانت تتلقاها على الآي باد مدى الصلة الموسيقية الوثيقة بينها وبين موسيقى الكناوة. وقالت إنَّ سبب ذلك يعود إلى تجارة الرقيق التي نقل من خلالها العبيد ثقافتهم إلى البلاد التي تم سبيهم إليها. وهناك اختلطت هذه الثقافة مع التأثيرات المحلية؛ ولذلك تسمع لدى الكناوة تأثيرات شرقية وفي الولايات المتَّحدة الأمريكية تأثير البلوز الإنكليزي. ولكن يبقى الإيقاع حسب وصفها هو السمة الرئيسية المشتركة.

متمرِّدون لطفاء

انتظرت قبل أن تجيبنا على السؤال حول التزامها الكبير بالدفاع عن حقوق المرأة والذي تم منحها عنه عدة جوائز دولية، وثم أجابت بنظريتها الخاصة وقالت حيثما يلتقي المرء شخصًا ذكيًا سيجد أنَّ والدة هذا الشخص كانت امرأة ذكية أيضًا. وأضافت أنَّ الأب بكلِّ تأكيد مهم، ولكن الأمّ تكون أقرب بكثير إلى الطفل بحيث أنَّ ذكاءها يؤثِّر على الطفل. ولذلك فإنَّ دعم المرأة يعدّ حسب قولها أمرًا على قدر كبير من الأهمية ليس فقط للنساء بل للمجتمع برمَّته. وثم حاولْتُ مناقشة التغيرات في العالم العربي مع المغنِّي وعازف الغيتار المغربي رضا علالي من فرقة هوبا هوبا سبيريت من الدار البيضاء. وهذه الفرقة تعزف موسيقى الروك وتعتبر معروفة بكلمات أغانيها الجريئة التي كثيرًا ما تكون وقحة. وقال رضا إنَّ المغرب ليس تونس أو مصر أو ليبيا أو حتى سوريا، بل إنَّ المغرب يشبه على سبيل المثال الأردن - مملكة فيها إصلاحات وملك يعدّ في الوقت نفسه ضامنًا للاستقرار وتتمتَّع الصحافة فيها بحرية واسعة إلى حدّ ما.

وأضاف أنَّ الملك الليبرالي محمد السادس له سلطة لا ينازعه عليها منازع في هذا البلد وأنَّ الجميع تقريبًا يحبونه. لقد أدلى بهذا التصريح مغنِّي روك في فرقة كانت تعتبر في السابق فرقة متمرِّدة جدًا كما أنَّها أثبتت مرارًا وتكرارًا شجاعة كبيرة في الجدال الدائر مع السلطات المغربية. وقال رضا علالي إنَّه موسيقي وليس سياسيًا. وبعد ذلك أحيت هذه الفرقة حفلاً موسيقيًا صاخبًا وكان فيه الجمهور يعرف كلمات الأغاني التي كان يردِّدها مع أعضاء فرقة هوبا هوبا سبيريت التي تحظى بإعجاب الكثيرين من الشباب المغاربة.

وودستوك المغرب

الفنان حسن بوسو، الصورة بيكهويسر
فنَّان نشأ مع تقاليد الكناوة - يستلهم المعلم حسن بوسو المولود في الدار البيضاء عمله الموسيقي من مخزون موسيقى الكناوة التقليدي ويهتم كذلك مع أعضاء فرقته البلجيكيين بالموسيقى التجريبية الغربية.

​​وحصلنا على مقابلة بصوت مرتفع وعن طريق النداء من على حافة الخشبة مع عازف البيانو المختص بموسيقى الجاز والمشهور كثيرًا في ألمانيا يوآخيم كون الذي نشأ في جمهورية ألمانيا الشرقية وانتقل من الموسيقى الكلاسيكية إلى موسيقى الجاز ومن ثم إلى موسيقى الجاز الحرّة وفي آخر المطاف إلى الموسيقى العالمية وموسيقى الكناوة. وهو شخص مرح خفيف الظلّ ومنذ طفولته يدخل في حالة نشوة عندما يعزف على آلة موسيقية. ويقول إنَّ أستاذه الأوَّل الذي كان يعلمه العزف على البيانو كان يحاول إبعاده عن هذه العادة. ومن أجل فرقته الموسيقية الحالية عثر على فنَّان الكناوة عبد المجيد بقاس الذي يعتبر أحد فنَّاني الكناوة القلائل الذين يرتجلون أغانيهم.

ويوآخيم كون لا يهتم كثيرًا على الرغم من ذلك بالأرواح التي يتوجَّه إليها الكناوة وهم في حالة النشوة بل يفضِّل تفاديها والحديث عن "الحياة السعيدة" التي يعيشها، أي أن لا يتعيَّن عليه إلاَّ تلحين الموسيقى التي يحبها، وأن يعيش منزويًا في جزيرة إيبيزا في بيت فيه أستوديو صوت ويقع في وسط محمية طبيعية ولا يشغل نفسه طوال اليوم بشيء آخر غير التلحين والارتجال... ودَّعناه ودفعنا ثمن الشاي الذي شربناه وكان سعره أكثر من سعر وجبة طعام مغربية كاملة.

وهنا يتَّضح تزايد استغلال المهرجان تجاريًا. في عام 2001 شهد المهرجان على ثلاث خشبات كبيرة وثمان خشبات صغيرة عددًا كبيرًا من الحفلات الموسيقية التي أحيت معظمها فرق موسيقية محلية، بحيث أنَّ كلَّ جولة في المدينة كانت تتحوَّل إلى رحلة لاستكشاف عوالم موسيقية. وفي تلك الأيَّام كانت جميع الحفلات مجانية وكان يبدو وكأنَّ نصف سكَّان المغرب قد خرجوا في طريقهم إلى مدينة الصويرة. وحينها وصفت الصحافة المغربية هذا المهرحان بصفة "وودستوك المغرب".

التجارة والهاجس الأمني

ويوضِّح فنَّان الكناوة الشاب المعلم حسن بوسو لماذا يقل باستمرار عدد المسارح والخشبات وكذلك عدد الفرق المحلية في المهرجان بالإضافة إلى عدد الحفلات الموسيقية المجانية وتصغير المساحة المخصصة للجمهور غير القادر على دفع أسعار التذاكر التي ارتفعت، ويقول إنَّ التكاليف ترتفع أيضًا! وهنا أذكر له أنَّه تم الاحتفال في صحيفة المساء المغربية قبل فترة قصيرة بزيادة ميزانية المهرجان من مليون وستين ألف يورو إلى مليون ومائة وخمسة آلاف يورو، وسألته أين تذهب هذه الأموال. أجاب أنَّه لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال وأنَّ الموسيقيين على أية حال لم يعودوا يحصلون على المال.

وهذا الاستغلال التجاري يؤدِّي إلى تراجع كبير في عدد الزوَّار المغاربة. ومن الممكن أنَّ إدارة المهرجان صارت تركز اهتمامها على الزبائن الأوروبيين القادرين على الدفع. ولكن الأوروبيون لم يعودوا يأتون منذ العام الماضي بأعداد كبيرة بسبب الاضطرابات التي يشهدها العالم العربي ويتم ربطها في أوروبا على ما يبدو مع المغرب. ولذك فإنَّ رجال الشرطة يتعاملون بحزم وشدة أكثر من أي وقت مع المغاربة "الخطيرين" الذين يقتربون من الأوروبيين.

وبعدما ذهبت إلى إحدى الحفلات الموسيقية المجانية القليلة ودخلت بين الجمهور المغربي وتحدَّثت إلى شاب مغربي، جاء رجال الشرطة لي بعد فترة قصيرة وعرضوا عليّ هذا الشاب وهو مكبلاً بالحديد وطلبوا مني التأكد من أنَّ حقيبتي لم تتعرَّض للسرقة. ورغم أنَّني لم أفقد أي شيء ولكن مع ذلك طلب مني رجال الشرطة أثناء الوداع الانتباه أكثر لحقائبي وقالوا يوجد هنا لصوص خطيرون للغاية.

أندرياس كيرشغيسنر
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012