فسيفساء موسيقية... وتعددية ثقافية

يشكل مهرجان الصويرة الموسيقي الذي تحتضنه مدينة الصويرة المغربية علامة فارقة في المشهد الثقافي المغربي، إذ يشكل استحضارا لمظاهر التعددية الثقافية التي تجد لها تمثلا حقيقيا في إيقاعات الرقص وأنواع الموسيقى المختلفة التي تشكل لوحة فسيفسائية تمتزج فيها الروح الأندلسية وأهازيج المقامات الإفريقية وتراث الأمازيغية. أندرياس كيرشغيسنر حضر المهرجان وينقل إلينا بعض أجوائه.

فرقة موسيقية مشاركة في مهرجان الصويرة الموسيقين ، الصورة: أندرياس كيرشغيسنر
يشكل مهرجان الصويرة الموسيقي تظاهرة ثقافية عالمية وواحة موسيقية

​​ يعتقد البعض أن "مهرجان كناوة" بمدينة الصويرة تطور وأصبح أكبر مهرجانات الموسيقى في القارة الإفريقية. ولكن من المؤكد أن المرء لا يكاد يجد مهرجانا آخر على مستوى العالم يهتم بمثل هذا التنوع والاندماج وتخطي الحدود. فعلى مدى أربعة أيام وليال امتزجت كل أنواع الموسيقى الأفريقية الأصيلة التي تخطر على البال مع موسيقى الكناوة الشعائرية على منصّات مزخرفة أمام سور المدينة وفي أماكن احتفال صغيرة في قلب المدينة ومنصّتين على شاطئ البحر، والكناوة هم نسل عبيد من غرب أفريقيا.

ومن بُعد يسمع المرء عازفي الكناوة الذين يتبعون اللحن الأساسي الذي يعزفه مُعلّمهم بالعود ذات الأوتار الثلاثة وعلى أنغامها يتمايل الراقصين بالصاجات المعدنية. ويغني المعلم بصوته الرخيم تعاويذ دينية مناجيا الأرواح فرادى والعازفون يرددون ذلك وراءه. إلى جانب ذلك يرتجل موسيقي الجاز والفونك والاثنو وحتى موسيقي التكنو من جميع أنحاء العالم ألحانا مناسبة، وهي تقاليد تعود جذورها إلى ستينيات القرن العشرين. آنذاك اكتشف راندي وسطن عازف الجاز على البيانو موسيقى النشوة لهذه الفرقة، وفيما بعد جيمي هندركس وتبعه كات ستيفن وبوب مارلي وبيتر جبريل وكارلوس سانتانا وكثير غيرهم عندما أصبح المغرب في السبعينيات هدفا سياحيا للهيبيز ومَن أقلع عن نمط حياته الشخصية.

ملك الراي...

ملك الراي ، الشاب خالد، الصورة: أندرياس كيرشغيسنر
مشاركة الشاب خالد في المهرجان ألهبت حماس الجماهير وأطربت آذانهم وأفئدتهم..

​​ كما كانت مشاركة "ملك الراي" الشاب خالد الجزائري حدثا مهما، إذ استطاع اكتسابه ميشائيل غيبس قائد أوركسترا الجاز الألمانية بالنيابة التابع لإذاعة غرب ألمانيا "ويست دوتشر ريندفونك". وفي مؤتمر صحفي بيّن غيبس وهو يجلس على وِسادة مغربية كيفية كسب النجم الشاب خالد بواسطة عازف الإيقاع كريم زياد الجزائري للعمل مع مجموعة كناوة برئاسة حميد القصري. وقد استطاع بِلباقة تفادي الإجابة على سؤال أحد الصحفيين المغاربة عما إذا كانت فرقته تخشى أرواح الكناوة، مؤكدا على "روح" كل أنواع الموسيقى الجيدة التي تمس كل واحد سواء كان يفهمها أم لا. وقد أحسن فيما قال. تصفيق!

وقد ملأ اسم الشاب خالد الأسماع في حارات المدينة القديمة كذلك أيضا اسم معلم الكناوة حميد القصري من مدينة الرباط، فمكانة موسيقى الكناوة في المغرب لا تكاد تقل عن مكانة موسيقى الراي أو البوب الأوروبية.
وكنت أجوب شوارع المدينة بحثا عن منصات وأماكن احتفال صغيرة التي كانت تعزف عليها في السنوات الماضية فِرق دون مقابل. ولا يكاد المرء يجد مكانا للمهرجان أفضل من الثغر الخلاب مدينة الصويرة. وكانت الصويرة أول مركز تجاري مغربي ربط القوافل القادمة من منطقة تمبكتو بخطوط التجارة البحرية إلى أوروبا وأمريكا. ولم يأت التجار من أفريقيا فقط بالعاج أو الذهب أو ريش النعام ولكن أيضا بالعبيد الذين نظموا أنفسهم كجماعة صوفية للكناوة. وهم يعدون حتى اليوم كمداوين لأنهم على صلة بالأرواح التي تسبب الأمراض. وهم يعرفون أرواحا إفريقية وبربرية ومسلمة ويهودية وبعض الأرواح المسيحية.

أعلام موسيقية..

وفي القلعة التي لا تزال في حالة جيدة قابلت أحد الأصدقاء القدماء الذي قدم من ميونخ قبل ميشائيل غيبس بمدة طويلة ليقيم جسرا للتواصل الموسيقي، ألا وهو عازف القربة توماس غوندرمان. وهو يذهب كل عام إلى المهرجان، وقد عزف عام 2006 مع مجموعة الكناوة بقيادة عبد الله غينيا، وهو أخ لأشهر معلمي كناوة محمود غينيا. كما قام أيضا بالعزف مع معلم الكناوة الشاب سعيد بو الخميس الذي اعتُبر منذ بضع سنين أكبر المواهب الناشئة للكناوة، وعزف أيضا مع مجموعات اندماجية مثل "بلو موغادور" و"جنجا فوزيون".

معلم الكناوة محمود غينيا، الصورة: أندرياس كيرشغيسنر
المهرجان يشكل ملتقى مهما لكبار أصحاب فن الكناوة

​​ لكن أحوال توماس غوندرمان لا يُحسد عليها هذا العام، فعبد الله لم يحصل على موافقة بالمشاركة كما أن سعيد على خلاف مع الجميع. وبلو موجادور هي التي ستشارك مرة أخرى، بيد أنها جاءت على التو من مدينة بوردو وليس لديها وقت لعمل بروفة مشتركة. أما توماس غوندرمان فواصل طريقه، ولم يرتبك حتى عندما اضطر لأداء عزفه الرسمي الوحيد دون جهاز لتقوية الصوت، الشيء الذي جعل الجمهور لا يسمعه، وقام بلا ملل في الشوارع والميادين الصغيرة بالعزف مع فِرق موسيقية صغيرة قام بتوليفها بسرعة، وهو يستطيع ذلك لأنه من المرتجلين، والارتجال الذي يعني سماع ونطق لغة الموسيقى عبر الحدود، وهذا هو السبب في مجيئه إلى هنا كل عام. وهذا مما يعجب الجمهور ويجعله يخاطبه في كل مكان ويأخذ صورا تذكارية معه ويتجمع في انتظار عزفه مرة أخرى.

عالم من النشوة.....

وفي أثناء ذلك يعزف مؤسس جماعة الكناوة محمود غينيا على أكبر المنصات، ويسحر الجماهير الغفيرة هو وأعضاء فرقته بحُللهم فاقعة الألوان الحمراء أو الخضراء أو الصفراء، أما هو فيلبس حُلّة بيضاء. وهو يعزف على أرض بلاده بين جمهور يعرفه في حين أن فرقة "افوكسيه لوني" البرازيلية الألمانية لها ارتباط مع الديانة البرازيلية "كاندومبليه" وهي قريبة من الكناوة. كما أن محمود لا يكاد يضطر لأن يتوافق مع قارعي الطبول والمغنيين والراقصات، فبينما تعزف فرقته يتقدم الواحد منهم تلو الآخر ويرقص في استرخاء، مشيرا في ذلك إلى الصيد وإلى أوطانه القديمة جنوب الصحراء. وعلى الرغم من أن مجموعة الجاز الإلكتروني الفرنسية المسماه "سيكسون" التي تلتها تتفوق عليها في العزف إلا أنها لا تخاطب وجدان الجمهور ولا تحرك له قلبا، فهي غاية في التعقيد ولا يمكن الرقص معها.

إنني في طريقي إلى حلقة نشوة ليلية في الزواية الكناوية. وثمن تذكرة دخول هذه الحفلة هذا العام عالي الثمن، لدرجة جعلتني أتواجد فقط بين أوروبيين ومغاربة أغنياء. مع العلم بأن سكان الزاوية يشذون عن المألوف فهم من أفقر سكان الصويرة مثل كثير من الكناوية، ونساؤهم يتسمن بالبنية المتينة وعاميات، أما الرجال منهم فهم نحفاء وشاحبي الوجوه مثل معلم الكناوة في هذه الحفلة علال سوداني، الذي أدرت معه حوارا صحفيا عام 2004 وكان يدخن بلا انقطاع طول الوقت. وعلى الرغم من ظهور الشيب عليه أكثر إلا أن فرقته لا تزال تتمتع بالألوان الزاهية والغناء الجميل. وتُلقى المناديل الملونة على الراقصين، حيث يخاطب كل لون روحا معينة لتهدئتها، لونا تلو الآخر طيلة الليل لتهدئة روح تلو الآخر. ثم يرقص صبي ضعيف البنية حتي يركع أمام أحد الألوان ليهدئ في نشوته روحه الشريرة كنوع من العلاج النفسي على الطريقة الأفريقية.

ويتعجب الجمهور المحترم من السيدة الخارقة لاله ميرا التي أدمنت العطور ورشتنا بها، حتى انتشت وشربت من زجاجة العطر. وبمنتهى السرعة تبعها راقص من مجموعة سيدي حمو يرقص ومعه سكّين. ثم تُطفأ الأنوار وتظهر سيدة غاية في الضخامة ومعها ربطة من الشموع الموقدة، ألا وهي لاله مليكة. وتغسل لاله مليكة زراعيها ووجهها باللهب، وشكلها المتوهج يظهر على صورة أحد الأرواح. وبعد ساعتين تنتهي الطقوس. وبينما كان الأوروبيون معجبين إلا أن المغاربة احتجوا بصوت عال لأن الليلة تستمر في العادة خمس أو ست ساعات على الأقل، وهذا نوع من الاحتيال عليهم.

"كوكتيل من الألحان والأنغام"

أما الحفلة المثيرة في اليوم التالي فكانت للفرقة الثلاثية المكونة من عازف الطبلة الهندي عمرات حسين وعازف قيثارة كهربائية فرنسي وعازف جيتار باس، وهي حقا توليفة غير عادية. وعلى المنصة يعزف عمرات مع معلم الكناوة المثير عبد الرحيم بنتهامي وفولان الذي يعزف على ربابة بربرية تقليدية مثل عزف جيمي هندركس، كما يبدو لي شخصيا. لقد ذابت الحدود وانصهرت الموسيقى الهندية والجاز والبربرية مع الكناوة، وأصبحت جميعها كناوة جديدة لم تُسمع من قبل. ويوضح عمارات حسين "وصفته" قائلا: إن الطلبة تبدو كما لو كانت موقدا للطبخ يمكن للمرء أيضا أن يطبخ عليه وجبات عالمية.

وتشارك في المهرجان المغنية باباني كونيه التي تعد نجما في بلدها مالي ولكنها تغني أشياء معروفة. وعلى العكس منها قام زميلها السنغالي سولو سيسوكو في منتصف الليل بالعزف على آلة الكورا الوترية مزيجا مع تيور كناوة والموسيقي دي جوالا من أغادير.

عازف طبلة، الصورة: أندرياس كيرشغيسنر
ثقافات مختلفة وألوان موسيقية متنوعة احتضنتها مدينة الصويرة، المصنفة على لائحة التراث الإنساني العالمي

​​ ويكتظ ميدان باب مراكش الكبير على الواقع على أبواب مدينة الصويرة مبكرا بالجمهور لدرجة تعذر معها الحصول على مكان جيد، لكن احدى المحررات بالتلفاز المغربي أخذتني أمام المنصة قبالة الموسيقيين. وقد جهز ميشائيل غيبس لفرقته مقطوعات كناوية مأثورة، أما الفقرات الإرتجالية فقام بتدوينها في نوتة موسيقية. ويبدأ معلم الكناوة حميد القصري ويشاركه في الغناء أفواه لا حصر لها مرددين كل صوت وكل إيقاع، حيث إن كل كلمة تعتبر معروفة للجميع. والجمهور يتمايل وفي الأمام تطوح البنات شعراتها الطويلة وعلى المنصة يقفز راقصي فرقة القصري وفي الخلف تجلس فرقة الأوركسترا الألمانية التابعة لإذاعة "ويست دوتشر ريندفونك" وأمامها النوت الموسيقية. والحق يُقال إنها إن الوقت بعد منتصف وهو وقت تنتشر فيه الأرواح الشريرة مع العلم بأن هناك فرقا بين الأرواح المغربية والألمانية في المهرجان. وتعزف فرقة الأوركسترا بطريقة ضعيفة وغير انسيابية ومقيدة بالنوتة الموسيقية. وبشجاعة يتقدم عازفو المزامير واحدا تلو الآخر للعزف المنفرد، ويتقبلون بشجاعة تصفيق الجمهور لهم ثم يجلسون مرة أخرى.

"المعلم توماس"

وعلى كل الأحوال فالأنظار منصبة على القصري ويهتف الجميع حتى وقف الشاب خالد على المنصة وتصرخ البنات وترمي بشالهن على المنصة، وهناك هرج ومرج ولحسن الحظ أن الخمور ليس لها دور في ذلك. ويرى المرء ابتسامة خفيفة على فم فرقة الأوركسترا الألمانية، ثم تتابع الفرقة العزف بطريقة روتينية. ولا عجب فهم عازفون مهرة نجحوا في العزف المنفرد أثناء تدرجهم الموسيقي. ولكنهم هنا يبدون كما لو كانوا غرباء وفي غير مكانهم بجانب الكناوة وبجانب الجزائري الشاب خالد الذي لفّ حوله علم المغرب بسبب التوترات السياسية بين المغرب والجزائر. فخالد يرى أن الوضع لا يتعلق بالتبعية الوطنية ولكن بالموقف الذي عليه المرء.

وتذهب محاولات الشباب بين الجمهور سدى في تهدئة أخواتهم البنات المرتديات ملابس خفيفة والمتحمسات جدا، فالأمزجة معتدلة جدا ونسي المرء بسرعة أشباح فرقة الأوركسترا الألمانية. وعندما جلست أمام التلفاز في الليلة التالية بثت في القناة الأولى للتلفاز المغربي برنامجا في أحسن أوقات عن توماس غوندرمان المقيم في ميونخ وأعطت لمحة مفصلة جميلة عن حياته وأنه أصبح يُطلق عليه لقب "معلم"، أي المعلم توماس. وهذا تقدير بسيط للموسيقار المتواضع الذي شق طريقه بتأنّ حتى وصل إلى الأرواح الأفارقة.

أندرياس كيرشغيسنر
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

الغداء العاري" لوليم بوروز:
أدب أمريكي من المغرب
"الغداء العاري" هي أشهر روايات الكاتب الأمريكي وليم س. بوروز. هذا العمل الذي نشر لأول مرة قبل نصف قرن في باريس، رأى النور في مدينة طنجة المغربية الساحلية، وسط أجواء من عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي . ألفريد هاكنسبرغر اقتفى آثار الكاتب الأمريكي في طنجة.

طنجة تستعيد ألقها القديم:
عاصمة للثقافة في المغرب
"يا له من مكان عجيب!" قال ويليام.س. بوروز، الكاتب الأمريكي، في أحد اللقاءات الصحفية عن طنجة، المدينة التي أصيبت بالإهمال خلال العقود الماضية تشهد الآن حملة ترميم وتجديد، وهاهي تجذب إليها مجددا عددا من المشاهير. تقرير ألفريد هاكنسبرغر

هانس فيرنر غيردتس
اكتشف مراكش قبل ما يكتشفها الأوربيون الأغنياء
حينما وجد الفنان هانس فيرنر غيردتس نفسه في ميدان جامع الفناء بمراكش لم يكن يعتقد بان سحر المكان سيجذبه للبقاء في مراكش لعشرات السنين. هنا يحتفي كريستوف لايستين بالفنان بمناسبة بلوغه الثمانين.