مهرجان قرطاج الدولي بطعم الثورة التونسية

خيمت أجواء الظلمة والهدوء هذه السنة على جنبات المسرح الأثري بقرطاج لأول مرة منذ سبعة وأربعين عاما. فقد توزعت سهراته على أربعة فضاءات أخرى حيث أن الملفت في هذه الدورة عقب الثورة التونسية هو انبعاث الأغنية الملتزمة. مبروكة خذير أعدت هذا التقرير من قرطاج.



عدد الجمهور الحاضر في سهرة الثورات العربية كان قليلا مقارنة بالآلاف التي كانت تملأ كل سنة مدرجات المسرح الروماني الأثري ،لكن رغم قلتهم فقد استمتع الحاضرون بالمستوى الراقي للأغنية الملتزمة كلمة وأداء ولحنا. أغنيات ملتزمة مثل"ارحل" و "أم الشهيد" و "عودة النوارس" و "الوطن"،لم تكن المدرسة التونسية احلام الحديجي تتخيل أن تعرض يوما ما في فعاليات مهرجان قرطاج الدولي،لكنها اليوم سعيدة لرؤية سمو الفن الملتزم وسط أرجاء متحف قرطاج، وتعبر أحلام الحديجي عن سعادتها، وتقول لموقع دويتشه فيله:" لم أكن أحضر مهرجان قرطاج الدولي في السابق ،أما الآن فأنا فخورة بهذا التوجه الجديد نحو الكلمة الحرة و الهادفة التي تتحدث عن أحلام الشعوب العربية وآلامها وآفاقها. إنها انطلاقة ممتازة للأغنية الملتزمة التي حرمنا منها منذ نهاية الثمانينات في تونس..."

لم يكن عدد الشباب كثيفا بين الجمهور في سهرة الثورات العربية في الدورة الأولى بعد الثورة التونسية لمهرجان قرطاج الذي أصبح البعض يسميه ليالي قرطاج. فالغاليبة كانت من المسنين الذين عاصروا فترة انقطاع الأغنية الملتزمة عن الظهور في تونس هالة بوعصيدة جاءت لمشاهدة عروض فرقة "المرحلة للموسيقى" التونسية التي واكبت بداياتها منذ عشرين عاما مضت. هذه الفرقة قمعها نظام الدكتاتور زين العابدين بن علي، لكنها تعود اليوم للظهور. وتكشف هالة بوعصيدة متذكرة تلك المرحلة :"مهرجان قرطاج الدولي أعاد في دورته الحالية العبرة لهذه الفرقة الموسيقية التي عانت من الظلم والقهر، فتشتت أفرادها وسجن بعضهم ورحل بعضهم الآخر عن البلاد. لقد آن لهؤلاء الفنانين الملتزمين وغيرهم أن يجدوا حظهم للحضور في المشهد الموسيقي في تونس."

مهرجان قرطاج الدولي "امتداد" للثورة التونسية

 

الصورة دويتشه فيله
الموسيقار محمد علي كمون يقدم عرض "تونسولوجيا" في فضاء النجمة الزهراء ضمن ليالي قرطاج

​​ترسيخ مبادئ الثورة التونسية وقيمها وتقديم تحية إلى الشباب العربي الذي ثار على الظلم في البلدان العربية التي تواصل ثوراتها ضد الدكتاتورية ،هذا ما تحاول برمجة مهرجان قرطاج الدولي في دورته الأولى بعد الثورة القيام به من خلال فسح مجال اكبر للأغنية الوطنية والحماسية و الملتزمة . غير أن الموسيقى الهادئة والكلمة البديلة لم تجلب إليها الشباب التونسي في دورة هذا العام .فقد تعود الشباب على السهرات الساخبة وأسماء المطربين العرب مثل وردة الجزائرية وفضل شاكر وصابر الرباعي وماجدة الرومي ...

لكن هالة بوعصيدة تعتبر أنه "حتى وإن كان الشباب التونسي لا يقبل على هذا النوع من الفن الملتزم فهو سيتعود عليه إذا ما دأبت المهرجانات التونسية على برمجة مثل هذا الفن في المستقبل. لقد حاول النظام السابق تمييع الشباب وإبعاده عن الفن الراقي، وبالتالي فهم سيتعودون من جديد على هذه الموسيقى الراقية التي تربينا على وقعها في الصغر"  في المقابل تعتقد أحلام الحديجي أن الشباب التونسي لم يبتعد عن الأغنية الملتزمة، بل ترى عكس ذلك وتقول:" هذه ليست موسيقى النخبة، والإقبال كبير بعكس ما يعتقده الكثيرون، فالشباب التونسي الذي صنع الثورة أصبح أكثر وطنية و ميولا للأغنية الملتزمة و اللحن الراقي الذي يعكس وطنيته "

المهرجان الذي أعجب المتفرجين، أغضب الفنانين

 

عادة ما تمثل المهرجانات الصيفية و خاصة مهرجان قرطاج الدولي الحدث الأبرز الذي ينتظره عموم التونسيين خلال فصل الصيف، غير أن مهرجانات هذا العام بدت ضعيفة الجاذبية للجماهير باعتبار التوترات السياسية التي شهدتها البلاد ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية التي تبث الرعب من حين لآخر في نفوس التونسيين. نوال اسكندراني راقصة كوريغرافية تونسية نظمت سهرتين راقصتين في مهرجان قرطاج الدولي و كذلك مهرجان الحمامات الدولي ،وان كانت هذا الفنانة متألمة من غياب الجمهور عن العروض، فهي ترى أن عرضها بعنوان "تهديد" هو امتداد لموقفها من الثورة و ما قبل الثورة التونسية.

الصورة كريم كمون
مهرجان قرطاج عقب الثورة التونسية يحيي الكلمة الحرة والفن والملتزم

​​وفي هذا الاطار تقول نوال اسكندراني لموقع دويتشه فيله :"عرض بعنوان "التهديد" يتحدث عن علاقتي كفنانة مع الإدارة التونسية. أتناول فيه كيف قلت لا لإدارة بن علي و كيف هاتفوني لأمضي على قائمة المناشدة الرئاسية ل2014 فرفضت .هو عرض موسيقي راقص و مسرحي قدمته كتجربة ل23 سنة من التضييق لم تدفعني للهرب الى الخارج مثل ما فعل غيري من الفنانين . ما عشته موجود في جسدي وسأتحدث عنه بجسدي. هي كلمة يعبر عنها الجسد، انه عرض مضحك ومبكي، عبرت فيه عن الوجع والألم الذي عشته وفي نفس الوقت بقيت حرة. "

لكن نوال اسكندراني غير راضية عن مهرجان قرطاج الدولي في دورته الأولى بعد الثورة، فهو بالنسبة إليها ارتجالي يفتقد الى التنظيم المحكم ويعمل وفق صيغ قديمة كانت سائدة قبل الثورة. فهو يهمش على حد اعتبارها الفن والموسيقى و يقصي الرقص ولا يفهم قيمة الراقص .

و لا يختلف رأي الموسيقي محمد علي كمون الذي نظم في فضاء النجمة الزهراء في إطار ليالي قرطاج عرضا بعنوان " تونسولوجيا" عن رأي الفنانة الكوريغرافية نوال اسكندراني ،بل هو يضيف في السياق ذاته أن " هذا العرض الذي قدمته هو محصلة جهود وبحوث سنوات قضيتها بين تونس وفرنسا ولكن يبدو أن هناك أطرافا داخل وزارة الثقافة لا تقدر الموسيقى والفنون ولا تعي قيمتها الحقيقية .لقد قدمت اقتراحا لتحديد قيمة العرض المادية ب12 ألف دينارا (حوالي 6آلاف يورو) كتقييم لمجهود المجموعة الموسيقية المنفذة للعرض، لكن تم رفض هذا المقترح. فيما حددوا قيمته لتكون أربعة آلاف دينارا (حوالي الفي يورو) لا تغطي حتى ما أنفقناه في تنقلاتنا لاجراء التمارين." و يعيب الموسيقي محمد علي كمون على وزارة الثقافة التونسية عدم تغيير إستراتيجيتها في تنظيم المهرجانات الكبرى مثل مهرجان قرطاج الدولي .

محمد علي كمون اختار على طريقته تقديم عينة من الأغاني التي ضمنها لبرنامج عرضه في أول مشاركة له في مهرجان قرطاج الدولي بعد الثورة االتونسية .و قد أراد لعرضه ان يبرز صورة أخرى لتونس التي يحاول البعض على حد اعتباره حصرها في جانبها العربي المسلم في حين هي تزخر بثقافة افريقية يحاول الكثيرون طمسها.

 

التغطية الإعلامية المنقوصة

 

جرت العادة أن لا تجد لك مكانا تقف فيه بين الصحافيين في تغطيات سهرات مهرجان قرطاج الدولي ،غير أن مواكبة بعض سهرات هذه الدورة الأولى للمهرجان بعد الثورة تجعل المرء يقف على حقيقة غياب كبير للصحافيين. بل تكشف تجربة هذا العام وجود تعطش واضح عند منظمي المهرجان والفنانين لوجود صحافيين لتغطية العروض.

نزهة بن محمد صاحبة إذاعة راديو 6 ،صحافية تونسية أجرت العديد من التحقيقات حول الإقبال الإعلامي على مهرجانات هذه السنة، وتقول بشأن غياب الإعلاميين عن مواكبة الشؤون الثقافية ان "مهرجان قرطاج الدولي فقد بريقه هذا العام ،لقد كانت إدارة مهرجان قرطاج مقصرة جدا في حق الإعلاميين، فالاتصال معها يكاد يكون مفقودا . كما أن الإعلاميين كانوا مقصرين حيث لم يبحثوا عن المعلومة وانشغلوا بالشأن السياسي و أهملوا الجانب الثقافي ..."

 

مبروكة خذير ـ تونس

مراجعة: محمد المزياني

حقوق النشر: دويتشه فيله 2011