الجزائرية حورية عيشي...سفيرة الغناء الأمازيغي إلى العالم

بنغمات موسيقى الجاز الحديثة مزَجَت المطربة الجزائرية الشهيرة حورية عيشي الغناء الشاوي الأمازيغي، وحملَت تراث جبال الأوراس الجزائرية معها عبر حدود البلدان لتُمتِع به أذواق الناس حتى في البرازيل، سليمان توفيق التقاها أثناء حفلتها في مدينة مولهايم الألمانية.

 هل كان الغناء جزءاً من حياتك اليومية؟ هل من السهل - بالنسبة لك - تعلم الأغاني التراثية؟

حورية عايشي: ولدت ضمن عائلة تقليدية شديد المحافظة على تراثها الغنائي، كنت أستمع إلى هذا الغناء يوميا. وكنا نحن النساء والفتيات نعيش في بيت "حوش" كبير. حيث نمارس حياة اجتماعية وفنية خاصة بنا، وهناك تعرفت وعشقت الغناء.

كانت الثقافة التي ترعرعت فيها قائمة على الترابط الأسري، وعلى أحكام صارمة وتقاليد لغناء لا مثيل له إلاَّ في هذه المنطقة.

 في المنطقة التي ولدتِ فيها، هل تتمتع المرأة بنوع من الحرية مقارنة بوضعها في مناطق أخرى؟ وهل لديها مساحة من الاستقلالية أو الثقة بالنفس؟

حورية عايشي: أنا من بلدة صغيرة، حيث تعيش المرأة في حوش خاص بها. لكن في الريف تعمل المرأة في الحقل أيضا. لم تكن النساء منقبات وإنما سافرات الوجه. فهل يمكن القول إن المرأة تتمتع بحرية أكبر؟ لا أعرف؟، لكن النساء لم يكنَّ معزولات وكانت لديهن حرية الحركة.

في ذلك الحوش، ألا تختلط النساء بالرجال، أم أن هناك عزلة مفروضة ؟

حورية عايشي: نعم، الرجال يتركون المنزل في الصباح ولا يعودون إلا قبل المساء، لذلك كان المكان في النهار لنا وحدنا، وهناك كانت تحدث أشياء كثيرة.

وبصرف النظر عن الكثير من الضحك والمشاركة في تربية الأطفال، كانت هناك حياة ثقافية وفنية متاحة. النساء يغنين ويعزفن الموسيقى، ويقمن بأعمال التطريز والخزف، في فصلي الربيع والصيف وكان يوجد نول (آلة للحياكة والنسيج) في طرف الحوش.

وكانت كل النساء يقمن بالحياكة، عندما يسمح وقتهن بذلك. وعموما كانت النساء يقمن بأنشطة فنية متعددة: مثل التمثيل المسرحي، وتلاوة الشعر، وسرد القصص، وأحيانا، نقوم بتقليد الرجال والسخرية منهم.

 الشغف بالغناء جزء من تراث عائلتك، وأنت مستمرة به حتى الآن كجيل ثالث. كانت جدتك ذات صوت وأداء متميزين، وكانت تحظى بتقدير واسع النطاق. هل هذا الشغف بالغناء آت منها؟

حورية عايشي: توفيت جدتي قبل أن أحترف الغناء، لكنها لعبت دورا مهما جدا في تربيتي الموسيقية. للأسف توفيت قبل ذلك. لقد علمتني منذ الصغر الغناء، حين كنت أرافقها في حفلات الزفاف والختان، وأسترق السمع إليها وأغني معها ومع غيرها من النساء. في الواقع لقد استمعت بالفعل إلى غنائي.

 هل يوجد هناك أغاني خاصة بالنساء لا يُغنيها الرجال؟

حورية عايشي: هناك نوعان من البرامج الموسيقية، برنامج خاص بالنساء وبرنامج خاص بالرجال. لكن النساء يغنين أكثر الأحيان أيضا النصوص الخاصة بالرجال، وعلى العكس تماما، لم أسمع أبداً عن رجل يغني نصا خاصا بالنساء .

 ​​أنت مازلتِ متجذرة جدا في منطقتك، رغم أنك تعيشين منذ 40 سنة في فرنسا؟

حورية عايشي: حقيقةً لم أترك هذه المنطقة عاطفياً، لأن أسرتي مازالت كلها تعيش هناك، ولم أتركها اجتماعيا لأنه لا يزال لدي الكثير من أصدقاء المدرسة هناك، ومن الجيران الذين ترعرعت بينهم.

أنا لم أقطع علاقتي أبداً مع هذه المنطقة. من خلال الغناء عُدت من جديد لأغوص في هذه المنطقة، فأنا أسافر إلى هناك كثيراً لأسجل الأغاني وأوزعها من جديد.

وقد استعملت أسهل الوسائل لذلك: أذهب إلى قريتي وأزور أقاربي والجيران. وعندما أعود من باريس للزيارة يجتمع الناس للترحيب بي - هذا تقليد عندنا- يتناقشون ويشربون القهوة، ويتناولون الغداء، وبعد الظهر – هذا أيضا من صميم العادات – يبدؤون بالغناء.

لقد سجلت هذه الأغاني على مُسجِّل وعُدت بعد ذلك إلى باريس للعمل عليها. لهذا أشعر بأنني لم أغادر البلاد، على العكس من ذلك، خاصة الآن. حين تعرّف الناس على عملي، أخذوا يرسلون لي الأشياء التي جمعوها، وأنا أقوم بتوزيعها موسيقياً.

 في البداية، لم تُفكّري يوما في احتراف الغناء. لقد غادرتِ قريتك لدراسة علم الاجتماع في قسنطينة والجزائر. عام 1970 انتقلتِ إلى باريس لإتمام دراستك الجامعية. بعد ذلك تذكرتِ تراث عائلتك. لماذا؟ كيف أصبحتِ مغنية محترفة؟

حورية عايشي: هذه قصة لطيفة جدا أرويها دائماً لأنها حقيقية وحدثت فعلاً. لدي عادة الغناء في حفلات الأصدقاء للترفيه. بعد العشاء يطلبون مني قائلين: "حورية غني لنا أغنية". ولإرضاء الأصدقاء كنت أغني دائما أغنية.

كنت في حفلة عيد ميلاد أحد الأصدقاء، وبعد العشاء، وكالعادة طلب مني، فغنيت ككل مرة وتفننت في الأداء. بعد ذلك تقدمَتْ امرأة مني ، لم أكن أعرفها - رأيتها لأول مرة- ولم تكن تجلس في هذه الأمسية بجانبي، لذلك لم تكن هناك فرصة لنتحدث مع بعضنا.

قالت لي المرأة: "أنا مساعدة مدير المهرجان الدولي للغناء والموسيقى النسائية في باريس، وقد أُعجِبْتُ بصوتك، وأود دعوتك للمشاركة".

كان ذلك في شهر فبراير/ شباط 1984 والمهرجان يبدأ في شهر يونيو/ حزيران، و كان أمامي فقط أربعة أشهر لتحضير عرض مباشر. كان يمكن أن أقول "لا، أنا لست مغنية محترفة ولا يمكنني المشاركة بهذا المهرجان." ولكن لحسن حظي قلت نعم. وهكذا بدأت مسيرتي كمغنية.

 ما هي مواضيع الأغاني التي تقدميها؟

حورية عايشي: هي بالأساس قصائد شعبية يتم ترجمتها إلى الموسيقى. موضوع هذا الشعر الشعبي تقليدي جدا لمجتمع جبلي ريفي.

هناك مواضيع أساسية، وبطبيعة الحال الحب. هناك العديد من قصائد الحب، ولكن ليس هذا فقط. فخلال حرب التحرير الجزائرية نظمت النساء المئات وربما الآلاف من الأغاني لتمجيد الرجال الذين ذهبوا لمحاربة الاستعمار.

وهناك أيضا العديد من الأغاني التي تُغنَّى أثناء العمل. وتوجد أيضا أغانٍ عن المنفى، لأنه في منطقة القبائل البربرية وفي الأوراس الفقيرة، هاجر الكثير من الرجال خاصة إلى فرنسا للعمل. إذن فهناك العديد من الأغاني حول الغربة. هذه هي المواضيع الكبرى.

 هل مازالت النساء يحفظنَّ هذا التراث، أم أن هناك أشياء كثيرة تعرضت للضياع؟

حورية عايشي: المدينة التي أنتمي إليها كانت في الماضي صغيرة جدا، وتوسعت الآن بشكل كبير. يوجد تنصُّل من التراث الريفي إلى حد ما، لكن عناصر من هذه الثقافة بطبيعة الحال ما زالت قائمة، مثل تراث الفروسية، أو تراث ما يسمى البارود، أي تراث أولئك الذين يطلقون النار في الهواء للتعبير عن شرفهم. كل هذه المشاعر من التراث الريفي لا تزال موجودة.

 أساس هذه الموسيقى هو الإيقاع. و هو الذي يُثير حماس الجمهور. و هذا يُذكّر كثيراً بالنغمات الأفريقية؟

حورية عايشي: يلعب الإيقاع دوراً مركزيا في الغناء الشاوي، وأنا في الواقع، اكتشفت أثناء عملي وأثناء عملية التجميع، نغمات أفريقية كثيرة.

 

غلاف أحد ألبومات المطربة حورية عايشي.
أيقونة الغناء الأمازيغي: حورية عايشي أخذت بصبر تجمَع الأغاني التقليدية من القرى الجزائرية، سجلت أغاني المرأة وأعادت توزيعها موسيقياً، لكنها حافظت على طبيعتها الغنائية، وطريقتها في الغناء جعلت منها سفيرة للثقافة الشاوية.

​​وهل هذا بسبب تلك العلاقات الوثيقة مع أفريقيا؟

حورية عايشي: بالطبع، هناك تأثير إفريقي، وهذا أمر مؤكد، ولكني أعتقد أن هناك تأثيرات أخرى.

نرى هناك إيقاعات على سبيل المثال لها علاقة بعدْو الحصان. أجد هذه العلاقة مهمة، لأن الخيول تلعب دورا هاما عند الشاوية في الأوراس. وللحصان في الثقافة الشاوية أهمية مركزية.

لذلك أتساءل عما إذا كان في الإيقاع شيئاً يشبه خبب الخيول (مشي الخيول). ولكن هذا بالطبع ليس سوى سؤال.

 الخيول هي أيضاً موضوع عملك الأخير. بهذا الألبوم "فرسان الأوراس" الذي يستمد كلماته من التراث الشاوي، عن حياة الرعاة الذين هم بنفس الوقت فرسان.


حورية عايشي: حتى عنوان الألبوم وجميع القطع الموسيقية لها علاقة بهذا الموضوع. قلت للمدير الفني لشركة اسطواناتي، وبهذا أعود إلى مسألة التأثير الأفريقي في الثقافة الشاوية - إنني عندما أغني وأسمع صوت الطبول أسمع بنفس الوقت أصوات موسيقى الجاز والأنغام الإفريقية.

قدَّمت هذا العمل مع مجموعة من الموسيقيين الشباب المعروفين من مدينة ستراسبورغ. وعزفنا على آلات موسيقية تختلف كلياً عن الآلات في الأوراس، وقد أصدرتُ الألبوم وقمنا بجولة ووصلنا إلى البرازيل.

 كيف يُنظَر إلى عملك في الجزائر؟ و هل تقيمين حفلات في وطنك؟

 حورية عايشي: اليوم أغني كثيراً في الجزائر، على الأقل مرة واحدة، إن لم تكن مرتين، في السنة. وأعتقد أن هناك تقديراً للجهد الذي أقوم به لتعريف الجمهور بهذه الموسيقى في الخارج، ولمواصلة العمل والفرح الذي أشعر به لنقل هذه الأغاني إلى البعيد.

لقد عُدنا للتو من جولة في مختلف المدن البرازيلية، ودُهِشْتُ جدا من رد فعل الجمهور البرازيلي ومن كيفية احترامه وتقديره بفرحٍ كبيرٍ لهذا الغناء البعيد عن ثقافته.

 

أجرى الحوار: سليمان توفيق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013

تنحدر المطربة الجزائرية حورية عايشي من عائلة أمازيغية يُطلق عليها اسم الـ"شاوية"، تسكن في منطقة جبال الأوراس التي تقع في شمال شرق الجزائر، إحدى المنحدرات الشرقية لسلسلة جبال الأطلس. درست علوم الاجتماع في مدينة قسطنطين والجزائر. انتقلت عام 1970 إلى باريس لمتابعة دراستها. بدأت عام 1984 البحث في فرنسا عن جذور الموسيقى الشاوية في جبال الأوراس، وتعيش في باريس.