العودة الى القرن التاسع عشر بحثا عن "الغريب"

يدور موضوع رواية "جامع العوالم" لإيليا ترويانوف حول حياة سير ريتشارد فرانسيس بورتن، البريطاني المغامر والشخصية التاريخية الواقعية. كان بورتن ضابطا يتقن لغات عدة، أعتنق الإسلام لتسهيل دخوله إلى عالم المسلمين. أجرت المقابلة اولريكه ساركاني.

إيليا ترويانوف، الصورة: دويتشه فيلله/أندرياس هاسيبيه
الكاتب البلغاري الأصل إيليا ترويانوف الذي يكتب باللغتين الألمانية والإنكليزية.

​​يدور موضوع رواية "جامع العوالم" لإيليا ترويانوف حول حياة سير ريتشارد فرانسيس بورتن، البريطاني المغامر والشخصية التاريخية الواقعية. كان بورتن ضابطًا في القوات المستعمرة يتقن لغات عدة، أعتنق الإسلام لتسهيل دخوله إلى عالم حياة المسلمين. أجرت المقابلة اولريكه ساركاني.

السيد ترويانوف، لقد فتحت عينيك على الحياة في بلغاريا، وترعرعت في كينيا، وعشت في السنوات السبع أو الثماني الأخيرة في الهند وجنوب أفريقيا. لماذا تكتب باللغة الألمانية؟

إيليا ترويانوف: أكتب الشعر بالانكليزية دائمًا، وذلك منذ خمس وعشرين عامًا. لكنني عندما عقدت العزم على الإقدام على كتابة روايتي الأولى، قررت بإدراك تام ملازمة اللغة الألمانية –لأسباب عملية، ولكن أيضًا لأنني نوعًا ما أصون علاقة حب مع اللغة الألمانية. أشعر نفسي أقرب إلى الألمانية من أي لغة أخرى. وإذا ما قارن المرء اللغة بصندوق الأدوات، فانه سيجد أن اللغة الألمانية تحتوي على أدوات مختلفة يفوق عددها أدوات أية لغة أخرى. إنها لغة مرنة وذات تنوع بارز، وهذا يلائم النثر والرواية بشكل كامل.

لو كنت شاعرًا، لاخترت أغلب الظن اللغة الانكليزية. لأنني أعتقد بأن الانكليزية تمتلك في الشعر فوائد ومقدرات أخرى. أعتقد أن اللغة تمتلك دائما طاقة تعريف عالية تجعل الناس يشعرون بالقرب من لغتهم الخاصة بهم.

إذا سألتني ما يهم البشر فعلا إلى جانب كل ما هو مادي، لكان جوابي: اللغة هي أهم شيء. فالشعور بالوطن والهوية تحدده برأيي اللغة أكثر من المكان الجغرافي أو من العلاقات السياسية التي يعيش المرء في ظلها.

روايتك "جامع العوالم" التي نُشرت حديثًا في ألمانيا حازت مؤخرًا على الجائزة الشهيرة لمعرض الكتاب في مدينة لايبزيغ. تدور أحداث الرواية حول شخصية تاريخية، وبالتحديد الانكليزي سير ريتشارد فرانسيس بورتن. ما الذي دفعك للانشغال بهذه الشخصية؟

ترويانوف: أعتقد أنه كان في بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر بالذات عدد كبير من المفكرين المستقلين الغريبي الأطوار ولكن كان ثمة أيضا أناس أقوياء وشجعان أيضًا، دعموا الإمبراطورية إلى حد بعيد من جهة، وكان لهم فكرهم المستقل من جهة أخرى. أناس عرفوا السبيل الى الاستحواذ على العالم بأساليبهم الخاصة للغاية، وعلموا ما يتوجب البحث عنه، وكيفية التعبيرعن الاختلافات الثقافية والدينية والكتابة حول هذه الاختلافات.

عندما ينظر المرء إلى تاريخ العالم، يرى أنه لا توجد حقبات تاريخية كثيرة تُظهر هذا الكم الكبير من الأفراد المتميزين، كما هو الحال في انكلتره في القرن التاسع عشر. وريتشارد فرانسيس بورتن هو بلا شك إحدى هذه الشخصيات المتميزة للغاية.

لا يجد المرء في الواقع في كل أوروبا أحدًا يمكن مقارنته بريتشارد فرانسيس بورتن ما عدا الكسندر هومبولدت. كان لبورتن اهتمام موسوعي بالعالم، ولا يكاد يوجد أي شيء لم يجذب اهتمامه. وفي حال إنشداده الشديد إلى موضوع ما، كان عظيم الدقة في تعطشه للعلم، حيث سعى لمعرفة كل شاردة وواردة حول الموضوع.

في كتابه„The Sword“ "السيف" على سبيل المثال، يجد المرء معلومات مفصلة للغاية حول السيوف الصينية واليابانية، وحول طريقة صنعها واستخدامها وحول مختلف طقوسها. ويشبه ذلك مقاله الختامي عن حكايات "ألف ليلة وليلة" – وكان أيضًا أول من ترجم هذه المجموعة القصصية كاملةً إلى الانكليزية. وكان على نحو مماثل ضليعًا بكثير من عناصر الثقافة العربية.

في الوقت عينه لم يتملكه الخوف أبدًا من المجازفة بحياته، عندما كان يتعلق الأمر بالمزيد من العلم، أي ليس في سبيل جمع المعلومات وحسب، بل لتغيير ذاته أيضًا. هذا ما سعى إليه طوال حياته. هذا ما يشدني إلى العصر الفيكتوري: لأن الناس إستشعروا وقتئذ أن التغييرات ليست ممكنة وحسب، لا بل لا يمكن تفاديها، وكانوا على الرغم من ذلك يأملون الخير منها.

لقد تعرفنا في أيامنا هذه على الجانب المدمر للتقدم، وشهدنا اندثار اللغات والثقافات وغدونا مرتابين. ولكن عند الرجوع إلى القرن التاسع عشر، يجد المرء هناك إيمانا عميقا بأن كل هذه التغييرات تتجه نحو الأفضل، وأن الحضارة ستبلغ ذروتها، وأن التقنية ستحل كل المشاكل.

باختصار، هذه الحقبة التاريخية مشوقة جدًا من جهة، وشخصية مثل بورتن جديرة للغاية بالاهتمام من جهة أخرى. لكن هناك نقطة ثالثة – كانت أغلب الظن الأكثر أهمية أثناء كتابة هذه الرواية– وهي انشغالنا الذي لا يزال قائمًا بالسؤال: ما هو الغريب؟

أفتح كل يوم الصحيفة وأقرأ تقارير عن العراق، وإيران، والهند أو عن الصين. وهناك دائمًا ذاك الصراع حول تعريف الموقع، تحديد الموقع الذي نقف فيه، عندما نكون معرضين لأشياء لا نفهمها. كيف لنا أن نتجاوب معها؟ كيف لنا أن نراجع مواقفنا نظرًا لهذا الكم من الصيغ النمطية والأحكام المسبقة؟ كيف نتصرف في سياق ذلك السعي المؤلم جدًا، والشديد الصعوبة، لفهم الغريب؟

لم نحقق أي تقدم يذكر في العديد من النواحي مقارنةً بزمن بورتن. بل على العكس، عندما ينظر المرء إلى محاولات بورتن لتلافي الصيغ النمطية التي كانت سائدة في زمنه، سيلاحظ عندها أنه كان أكثر نجاحًا من كثيرٍ من كتابنا المعاصرين.

لا بد أن جهود البحث في أعمال ريتشارد فرانسيس بورتن كانت ممتعة جدًا بالنسبة لك. هل قرأت كل كتبه؟

ترويانوف: نشر ريتشارد فرانسيس بورتن أكثر من خمسين كتابًا. البعض منها معروف ولكن من الصعب جدًا الحصول عليه. وبصراحة لا يصلح أي من هذه المنشورات ككتاب بشكل جيد، أو كدراسة ذي بنية معينة. ويعود هذا إلى ما قيل مرةً عن ريتشارد بورتن بأنه مثل فرقة موسيقية بلا قائد يوجهها. فهو لم يهتم قط بالإقتصاد في عروضاته، ولم يكن منتظمًا أبدًا في تحرير كتاباته.

بالطبع هذه نعمة بالنسبة لكاتب رواية. إنها بمثابة دعوة للتجوال في متاهة لا نهاية لها من العلم والخبرات، والتقاط عناصر منفردة يستطيع الكاتب أن يدخلها فيما بعد إلى الرواية.

هل حملت كتاب بورتن عن رحلته إلى مكة مع أمتعة سفرك، عندما شرعت من بومباي إلى مكة برحلة الحج في العام 2003؟

ترويانوف: نعم الكتاب كان معي. لكنني لم أقرأه، لأن رحلة الحج بذاتها كانت بالنسبة لي مؤثرة وموحية للغاية، وبالمعنى الروحي أيضًا، بحيث لم أستطع أن أفعل شيئا آخر. في الحقيقة عشت حقًا حياة الحاج طيلة خمسة إلى ستة أسابيع. بيد انني كنت قد قرأت الكتاب من قبل، وقرأته فيما بعد مرة أخرى. وكما هو الحال مع كل كتاب، كانت هناك لحظات وددت فيها تقبيل الكاتب، ولحظات أخرى أردت فيها أن أضربه. هكذا كان هذا الإنسان. ولكن لهذا السبب بالضبط تستحق كتاباته القراءة.

أجرت المقابلة: أولريكه ساركاني
ترجمة يوسف حجازي
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006

ولد إيليا ترويانوف عام 1965 في العاصمة البلغارية صوفيا، لكنه ترعرع في مدينة نيروبي. درس في التسعينيات في ميونيخ وأسس هناك دار النشر مارينو المختصة بالأدب الأفريقي. انتقل بعدها إلى بومباي، أوحت له رحلته تلك فكرة كتابة رواية عن سير ريتشارد فرانسيس بورتن. رواية ترويانوف "جامع العوالم" تبدأ في الهند أيضًا، حيث كان ريتشارد فرانسيس بورتن يخدم ضابطا في القوات المستعمِرة. قام ترويانوف برحلة الحج إلى مكة عام 2003. وانتقل بعدها إلى مدينة كاب تاون في جنوب أفريقيا، حيث لا يزال يقيم حتى الآن.

إيليا ترويانوف: "جامع العوالم". ميونيخ: دار كارل هانسر للنشر 2006، 480 صفحة.