جنود الاحتلال الاسرائيلي يكسرون صمت المحتل في معرض خاص في برلين

يقدم معرض "كسر الصمت" صورة عن تجاوزات الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. القائمون على المعرض ليسوا ناشطين مناصرين للفلسطينيين، بل جنوداً سابقين في الجيش الإسرائيلي. ماريان بريمر تكتب حول هذا المعرض ومنظميه.



تدرب ناداف فايمان لسنة وشهرين من أجل الانضمام إلى وحدة خاصة في الجيش الإسرائيلي. ومع بلوغه سن الثامنة عشر، تعلم في معسكرات الجيش قيادة الدبابات وتفتيش الأشخاص واقتحام المنازل وقتل الإرهابيين. في إسرائيل يجب على الجميع تأدية ثلاث سنوات من الخدمة العسكرية، ومن يرفض ذلك يتم اعتقاله.

بعد التدريب النظري بدأ التطبيق، إذ كانت أولى مهام ناداف في مدينة جنين بالضفة الغربية، التي تعتبر من أشد المناطق سخونة في الشرق الأوسط، ضمن وحدة تتكون من اثني عشر قناصاً. يصف ناداف هذه المهمة بالقول: "فجأة وجدت نفسي في الجحيم". تلقت وحدة ناداف تعليمات بمصادرة منزل فلسطيني وتحويله إلى ثكنة عسكرية لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي"، وهي مهمة باتت تعتبر روتينية، وسيؤديها ناداف فيما بعد ثلاث إلى أربع مرات أسبوعياً. طريقة سير هذه المهمة تحولت أيضاً إلى روتين، ففي البداية يتم الاستعلام من جهاز المخابرات عما إذا كان إرهابيون يقيمون في المنزل، وإذا ما ثبت أن العائلة المقيمة فيه بريئة، يبدأ الاقتحام.

الصورة كسر الصمت
"إنها كلعبة فيديو كبيرة": مهمة لجندي إسرائيلي في منزل فلسطيني

​​يتابع ناداف فايمان بالقول: "الأمر كان يبدو وكأنه لعبة فيديو كبيرة"، فكل شيء يحصل بسرعة. وفي وقت قصير وجد ناداف نفسه شاهراً سلاحه ومرتدياً زياً عسكرياً مموهاً في وسط غرفة معيشة عائلة غريبة. ويضيف الجندي السابق: "أول فكرة خطرت ببالي آنذاك كانت: هل هذا ما يعنيه الدفاع عن بلدي؟". سكان المنزل الأبرياء يتم جرهم عنوة من أسرتهم، ثم تتم مصادرة كل أجهزة الهاتف المحمول، وبعد ذلك يتوجب عليهم مغادرة المنزل، الذي سيطلق منه الجيش الإسرائيلي النار على الإرهابيين.

على الناس أن يطرحوا الأسئلة

اليوم يبلغ عمر ناداف فايمان 26 عاماً، وهو منذ حوالي العام عضو في منظمة "كسر الصمت"، التي أسسها جنود سابقون في الجيش الإسرائيلي في مارس سنة 2004. هدف هذه المنظمة هو توعية الرأي العام في إسرائيل بممارسات الاحتلال اليومية، وذلك بناء على شهادات عيان لمئات الجنود، من أجل جسر الهوة الكبيرة بين حقيقة الجيش الإسرائيلي وما يتخيله الشارع الإسرائيلي حول هذا الجيش.

وتتحدث منظمة "كسر الصمت" عن "انحطاط أخلاقي" أصاب خلال السنوات الماضية كل نواحي الجيش والمجتمع الإسرائيليين. فالظلم والمضايقات، التي كانت في السابق استثناءات، أصبحت الآن عادية. وحول ذلك تكتب المنظمة بالقول: "بينما نحمي أنفسنا من مخاطر، فإننا نخلق في نفس الوقت كارثة أخرى".

من ناحيته يوضح فايمان أنه "لا أحد في إسرائيل يعلم حقيقة ما يجري. نريد أن ندفع الناس إلى طرح الأسئلة". ولهذا السبب تقوم منظمة "كسر الصمت"، على سبيل المثال، بتنظيم ندوات في الجامعات وجولات في الأراضي الفلسطينية.

معرض "كسر الصمت"، الذي يستمر أسبوعين في دار فيلي براندت ببرلين، يعرض واقع الحياة اليومية للاحتلال، من خلال صور التقطها الجنود بأنفسهم. ويقوم ناداف فايمان، إضافة إلى جنود سابقين آخرين، بمرافقة الزوار في أرجاء المعرض حتى التاسع والعشرين من الشهر الحالي، ويروي لهم بعض تجاربه. كما يقوم فايمان بالتوقف أمام الصور التي تثير لديه مشاعر خاصة.

إحدى هذه الصور تظهر مجموعة من الأطفال الفلسطينيين يقلدون مشهداً للتفتيش على أحد الحواجز العسكرية، وبجانبهم يقوم جندي إسرائيلي بدوريته ضاحكاً. حول هذه الصورة يتحدث فايمان قائلاً: "في طفولتي كنت ألعب لعبة رعاة البقر الأمريكيين (الكاوبوي). أما هؤلاء الأطفال فيلعبون لعبة الاعتقالات". حياة هؤلاء الأطفال شكلها الاحتلال في كل مناحيها.

"يمكننا فعل أي شيء"

الصورة كسر الصمت
"كنت ألعب في طفولتي لعبة الكاوبوي. هؤلاء الأطفال يلعبون لعبة الاعتقال": أطفال فلسطينيون يقلدون التفتيش على أحد الحواجز العسكرية بالقرب من جندي إسرائيلي.

​​وفي المعرض يمكن ملاحظة لوح طويل معلق على الحائط وتتدلى منه العشرات من سلاسل المفاتيح. إنها مفاتيح أخذها الجنود من الفلسطينيين على أحد الحواجز العسكرية خلال شهر واحد فقط. السبب غالباً تعسفي، فربما قاد أحدهم سيارته بسرعة أكبر من المعتاد، وربما لم يكن مزاج الجندي المناوب يومها جيداً.

لكن بالنسبة لفايمان لا تحتوي سلاسل المفاتيح هذه مفتاح السيارة أو المكتب أو المنزل فقط، "فالمرء لا يصادر مفاتيح الشخص وحسب، بل وحقوقه أيضاً". فهذه المفاتيح تمثل بالنسبة له رمزاً لمدى تدخل الجيش الإسرائيلي في حياة الفلسطينيين، وهو ما يلخصه ناداف فايمان بالقول: "يمكننا فعل أي شيء".

في المعرض أيضاً صور التقطها الجنود لأنفسهم مع المعتقلين الفلسطينيين على الحواجز العسكرية. المعتقلون معصوبو الأعين والجنود يتحلقون حولهم ضاحكين، ويعاملونهم كأنهم جوائز أو غنائم. هذه الصور التقطت سنة 2004 لكن في إسرائيل استغرق الأمر حتى سنة 2010، عندما نشرت جندية إسرائيلية صور لها مع معتقلين فلسطينيين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". هذا بالنسبة لفايمان ليس استثنائياً، بل أمراً يمارس بشكل شائع في صفوف الجنود الشباب، "إلا أن ذلك أفضل للإسرائيليين، عندما ينظرون لذلك على أنه حادث استثنائي".

بين اتباع الأوامر والبوصلة الأخلاقية

الصورة كسر الصمت
مفاتيح مصادرة، حقوق مصادرة: تعتبر منظمة "كسر الصمت" المؤسسة الوحيدة في إسرائيل التي تعطي الجنود السابقين مساحة للحديث عن تجاربهم والتعامل معها.

​​

كثير من الشباب الإسرائيلي ينظر إلى الخدمة العسكرية على أنها علامة على بلوغه مرحلة الرجولة، كأحد طقوس البلوغ القبلية التي يحمل فيها الولد سلاحاً. في حالة ناداف فايمان كانت العائلة والأصدقاء يتوقعون منه أداء الخدمة العسكرية، فوالده وجده كانوا ضباطاً في الجيش، وأخوه ما يزال في الجيش. ويقول ناداف: "في إسرائيل تحدد الخدمة العسكرية من تكون، وما هي فرصك في الحياة". لقد كان ناداف فايمان يدرك أن انضمامه إلى وحدة خاصة بالجيش سترفع من فرصه في الحصول على وظيفة لاحقاً.

لكن بعد عدة اقتحامات لمنازل في جنين، بدأ شعور بالضيق يسيطر على ناداف فايمان، إذ كان متردداً بين تنفيذ الأوامر وتوفيق ذلك مع بوصلته الأخلاقية. لذلك استغرق الأمر فترة من الزمن، حتى تمكن من الحديث عن مشاعره مع رفاقه في الجيش. آنذاك أطلق رفاقه عليه اسم "اليساري"، بسبب مواقفه الناقدة. لكن النقاش استمر بعد كل اقتحام لأحد المنازل، إذ يروي ناداف: "كنا نعد القهوة ونراجع المهمة كفريق، وكنا نتساءل عما يمكننا فعله بشكل مختلف في المهمة القادمة". لقد كانت الوحدة على علم بتأنيب الضمير الذي كان ناداف يعاني منه، ولهذا تم تكليفه بمهام الاستطلاع، أما الزناد فكان يضغطه آخرون.

بكل وضوح يتذكر الجندي الإسرائيلي السابق ليلة شتاء سنة 2006، حيث شارك في أول عملية عسكرية له، إذ كان فايمان قد اكتشف من فوق سطح منزل رجلاً يمسك بجهاز لاسلكي على بعد 520 متراً. بالنسبة للجيش الإسرائيلي يشكل ذلك خطراً محتملاً، ولهذا جاءه الأمر بقتل الرجل. حول هذه اللحظات يستطرد فايمان: "إنك تنظر إلى آخر اللحظات في حياة هذا الرجل، وهي مسألة ثوان قليلة. ومن ثم ترى نقطة صغيرة تهوي، وهذا كل شيء... لقد كنا صغاراً للغاية".

عندما عاد فايمان إلى القاعدة، احتفى رفاقه به وبزميله احتفاء الأبطال، لأنهم قتلوا إرهابياً. لكن بالنسبة لناداف فايمان، لم تكن هذه النقطة في الأفق إرهابياً، ومنذ تلك الليلة ازدادت الأسئلة في عقله. ومع مرور الوقت، وعندما كان فايمان ورفاقه في مهمة أخرى ومروا بنفس الموقف، أطلقوا النار بجانب الهدف. هذه المرة كان المشتبه به يقف مع أطفاله حاملاً جهاز اتصال لاسلكي. الجنود أصابوا الحائط، ولذلك تمكن الرجل من الهرب. لم يكن الرجل وقتها يدرك أن هذا الفريق أنقذ حياته، لأن فريقاً آخر كان سيقتله بالتأكيد.

كسر الصمت

الصورة منظمة كسر الصمت
صور معرض "كسر الصمت" تروي قصص العنف والترهيب والتنكيل الممارس ضد الفلسطينيين. ويقدم المعرض في برلين حتى التاسع والعشرين من الشهر الحالي صوراً خاصة التقطها الجنود الإسرائيليين. النصوص المصاحبة للصور تروي شهادات مروعة عن الاحتلال.

​​بعد إنهاء الخدمة العسكرية يصل كثير من الإسرائيليين إلى الهند، حيث يحاولون نسيان ذكرياتهم في الجيش من خلال تدخين الحشيش. ناداف فايمان اختار السفر عبر أمريكا الجنوبية، وهناك التقى العديد من الأجانب. حول تجربته هناك يقول: "الأوروبيون كان يطرحون أسئلة كثيرة، أما الأمريكيون فكانوا فخورين بي". اليوم يعمل ناداف مدرساً للغة العبرية والتاريخ في مدينته تل أبيب، وهو يقول إنه يحاول أن يترك انطباعاً آخر عند تلاميذه من أجل إحداث تغيير ما.

تعتبر منظمة "كسر الصمت" المؤسسة الوحيدة في إسرائيل التي تقدم للجنود السابقين مساحة للحديث عن تجاربهم والتعامل معها. ولهذا السبب تلقى المنظمة معارضة من البعض، مثل وزير الخارجية الإسرائيلي المتشدد أفيغدور ليبرمان، الذي يعتبر أن أعضاء منظمة "كسر الصمت" "يدعمون الإرهاب". في البداية أيضاً كان رفاق ناداف فايمان ينتقدون نشاطه في المنظمة. كما أنه يعلم أنه قد يعرض نفسه للخطر من خلال نشاطه، خاصة في ظل الحكومة الحالية، التي تعتبر الأكثر تصلباً في تاريخ الصراع في الشرق الأوسط.

لكن هناك أصوات ناقدة أيضاً في الجيل الشاب بإسرائيل، رغم أنها مضطرة للاختباء معظم الوقت. وقبل عدة أشهر، عندما امتلأت شوارع تل أبيب بالمتظاهرين المطالبين بتحسين الأوضاع الاجتماعية، كان الكثيرون يتساءلون: هل يمكن للمبالغ الطائلة التي تنفق على الاحتلال أن تنفق أيضاً لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية في البلاد؟ لكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك علناً. ومن أجل كسر هذا الصمت، انضم ناداف فايمان إلى منظمة "كسر الصمت".

 

ماريان بريمر
ترجمة: ياسر أبو معيلق

مراجعة: هشام العدم

حقوق النشر: قنطرة 2012