أحداث بورسعيد الدامية: ألتراس وأمن وبينهما عسكر

لا يمكن فهم ما جرى في بورسعيد، وما يجري، الآن من تداعيات مأسوية في "وسط البلد" لتلك الأحداث المأساوية إلا في ثلاثة سياقات، لم يجزم المراقبون، يقينا، حتى الآن، أيها الأقرب للحقيقة. أميرة محمد تستطلع من القاهرة خلفيات وأبعاد مأساة إستاد بورسعيد.

حسم ميدان التحرير الجدل حول أحداث بور سعيد الدامية باتجاه السياقين المتمثلين في تحميل المجلس العسكري الحاكم المسؤولية السياسية عن تلك الأحداث، إضافة إلى تحميل وزارة الداخلية، وجهاز الشرطة، المسؤولية المباشرة عن التقاعس في تأمين المواطنين. وهكذا خرجت الجموع الغاضبة، الخميس، ملتفة حول جماهير "ألتراس أهلي" و"ألتراس زمالك"، التي فرقتها كرة القدم، ووحدها رفع سقف المطالب الشعبية من "إسقاط" إلى حد المطالبة بـ "إعدام المشير".

وقد انقسم المصريون، نخبة وجماهير، منذ تفجر مأساة "إستاد بورسعيد"، إلى فريق ناقم على المجلس العسكري، متهما إياه بتعمد إغراق البلاد في الفوضى، وثان ٍ يكيل اتهاماته لأعوان النظام السابق في جهاز الشرطة، وثالث لا يستبعد ألا يعدو الأمر كونه شحنة غضب غير مسبوقة ألمت بالجماهير، ودفعتهم إلى تلك المجزرة. لكن القاسم المشترك بين الآراء الثلاثة هي حالة "الحيرة" وعدم اليقين من حقيقة ما جرى.

 

اللافتة الغامضة تثير علامات الاستفهام

 

تتباين الآراء حول الجهات المسؤولة عن أحداث العنف التي وقعت مساء الأربعاء في ملعب لكرة القدم بمدينة بورسعيد المصرية، وخلفت 74 قتيلاً ومئات الجرحى، الصورة ا ب
تتباين الآراء حول الجهات المسؤولة عن أحداث العنف التي وقعت مساء الأربعاء في ملعب لكرة القدم بمدينة بورسعيد المصرية، وخلفت 74 قتيلاً ومئات الجرحى

​​

يقول الشاب البورسعيدي رامي سميسم الموظف بشركة ملاحة: "مبدئيا، لابد أن نتفق أن الألتراس موجود في كل بلد، وأنهم يتبادلون الوعيد، ودائما ما يكون هناك توتر في المباريات الكبيرة بسبب جماهير الألتراس، وكثيرا ما تحدث اشتباكات". ويضيف رامي، الذي يشجع النادي الأهلي، رغم انتمائه لمدينة بورسعيد، أن الجميع كان يعلم قبل المباراة أنها ستكون ساخنة، وكانت المناوشات متوقعة بين ألتراس فريق المصري البورسعيدي، المعروف بـ "جرين إيجلز"، وألتراس فريق الأهلي، المعروف بـ "ريد ديلفز".

ويرصد رامي ملاحظتين، قائلا بحيرة: "الغريب كان ظهور اليافطة المستفزة بين جماهير الأهلي، ثم إنزالها بسرعة، فالمعروف أن الألتراس لا يتراجعون عن لافتة يرفعونها. والأغرب كان مشهد الجماهير وهي تجتاح الملعب. من معرفتي بهذا الاستاد وعدد بواباته وأماكنها، أدرك أن الناس عندما تقفز من سور المدرجات لا يمكن أن تجتاح الملعب بهذه الكتل البشرية. هذا يعني أن البوابات تم فتحها عمدا لإدخال الجماهير، على النحو الذي شاهدناه".

 

بورسعيد تتشح بالسواد

 

مواجهات في القاهرة في ميدان التحرير وغضب شعبي بعد مأساة إستاد بورسعيد و بورسعيد تتشح بالسواد، الصورة ا ب
مواجهات في القاهرة في ميدان التحرير وغضب شعبي بعد مأساة إستاد بورسعيد و بورسعيد تتشح بالسواد

​​


كان رامي يتحدث على الهاتف من بورسعيد، وكان صوت "القرآن" واضحا، فأشار إليه قائلا "الناس حزينة. سرادقات العزاء في كل مكان في بورسعيد. المحال أغلقت، والبيوت تشغل تسجيلات قرآن. هناك حداد، وأسف لأن تلك المجزرة التصقت ظلما بشعب بورسعيد". وختم رامي قائلا: "نحن شعب ننساق بقلة وعي. للأسف هناك شباب عاديين انساقوا بسذاجة وراء المحرضين لتلك الأحداث. أنا متأكد أنهم نادمين لانسياقهم وراء ما جرى، ومشاركتهم دون قصد في تلك المجزرة".

وحول تأمين الاستاد، أقر النقيب حسام سرحان، ضابط في مديرية أمن القاهرة، بأن "موضوع الدخول والخروج من الاستاد كانت له معايير اختلفت قبل الثورة عن بعدها". وأوضح في حديثه لدويتشه فيله: "قبل الثورة، كان التفتيش ذاتي، وكان هناك إحكام أمني، لمنع استخدام الشماريخ (صواريخ كالتي تستخدم في السفن للإشارات البحرية) والزجاجات الفارغة والآلات الحادة، أما بعد الثورة، انتهت هذه الإجراءات تماما، بسبب الفجوة الكبيرة، التي حدثت بين الضباط والجماهير".

التراخي الأمني لا يختلف عليه أحد

وشدد حسام، الذي شارك في أكثر من مهمة تأمين ملاعب قبل الثورة وبعدها، على أن "إجراءات التفتيش بعد الثورة من شأنها أن تؤدي لاستفزاز الجماهير، فأصبح هناك تراخ ٍ أمني، لأن الضباط لديهم إحساس عام بأن لا أحد يحميهم". وبسؤاله عما إذا كانت هناك تعليمات بـ "التراخي"، أكد "مستحيل". وأضاف بأن "هذا إحساس تلقائي من الضباط أنفسهم، مستحيل يكون هناك تعليمات صريحة بذلك". ومضى قائلا "هذا الماتش (المباراة) جماهيري، والأعداد كانت غفيرة، مع ذلك لم يكن هناك أي تفتيش". وختم حسام، معربا عن قناعته بأن "العداء التاريخي المعروف بين الفريقين، الأهلي والمصري، هو الذي يقف وراء تلك الأحداث. مستحيل تكون مدبرة، هذا عداء تاريخي له أبعاد معروفة".

 

غضب شعبي بعد أحداث بورسعيد الدامية واتهامات واضحة ضد المجلس العسكري ورئيسه المشير محمد حسن طنطاوي بالإخفاق في ادارة البلاد في هذه المرحلة الانتقالية. الصورة ا ب
غضب شعبي بعد أحداث بورسعيد الدامية واتهامات واضحة ضد المجلس العسكري ورئيسه المشير محمد حسن طنطاوي بالإخفاق في ادارة البلاد في هذه المرحلة الانتقالية. الصورة ا ب

​​

وحول هذا "العداء التاريخي"، تحدث الناقد والمحلل الرياضي، فريد عمر، قائلا: "معروف عن جماهير خط القناة (السويس وإسماعيلية وبورسعيد) أنهم متحمسون، وأحيانا متعصبون بشكل زائد". ولم يغفل في هذا السياق، "السيكولوجية السواحلية لأهالي القناة، وكونهم ثوار بطبعهم، إذ يشكلون خط الدفاع الأول على الجبهة الشرقية في الحروب".

 

"خط القناة يكره الأهلي ويعشق الزمالك"


ويوضح الناقد الرياضي إلى جانب ذلك أن "هناك أسبابا تاريخية لكراهيتهم للنادي الأهلي على وجه الخصوص، تعود إلى نكسة 1967، عندما تم تهجير أهالي القناة إلى القاهرة، وكان بينهم لاعبو نادي الإسماعيلي، الذين طلبوا من النادي الأهلي استضافتهم في ملعبهم، لكنه رفض، خوفا من غوغائية جماهيرهم"، بحسب روايتهم. ويمضي فريد قائلا لـدويتشه فيله: "في المقابل، فتح الزمالك أبوابه للإسماعيلي، فتشكلت بينهما توأمة كروية قائمة إلى يومنا هذا، وتولدت الكراهية بين فريقي الأهلي والإسماعيلي".

ويوضح فريد بالقول: "منذ ذلك الحين، معروف أنه في كل مباراة أهلي وأي من فرق القناة، تحدث مصيبة، واشتباكات، وشغب، ورشق حافلات اللعيبة، كما تقع إصابات للعشرات". ويضيف بأنه قبل المباراة الأخيرة كان "الجو مشحونا، لدرجة أن الشماريخ كانت لا توجه كالعادة إلى السماء، بل لأسفل، باتجاه اللعيبة، وهم يقومون بالإحماء، قبيل بدء المباراة".


ويرى فريد أن "الملابسات كانت غريبة في هذه المباراة. فاللافتة الاستفزازية التي تم رفعها بين جماهير الأهلي، يرى البعض أنها مدسوسة، لكن الأغرب أن جماهير الألتراس معروف عنهم التنظيم المحكم وأنه لا يمكن اختراقهم، فمن أين جاءت هذه اللافتة".

 

دخول اليافطة بين الألتراس تعني موافقتهم

وكانت لافتة كبيرة قد ظهرت لدقائق معدودة بين جماهير الأهلي أثناء المباراة كتب عليها: "بلد بالة مجبتش رجالة" (البالة هي الجوال لأن بورسعيد معروفة باستيراد الملابس الجاهزة في أجولة). وعلق فريد "طبعا، بعد ظهور هذه اللافتة المسيئة لجماهير المصري، كان لا بد وأن يعتبرها أبناء بورسعيد الثائرين "إهانة تستدعي الثأر لحق مدينتهم الباسلة واستعادة كرامتها".

 

لكنه عاد وأكد: "رغم كل هذا الجنون الذي حدث في استاد بورسعيد، لا يمكن أن يفتعل جمهور المصري كل هذا العنف، إلا إذا هزم. ولو حدث، فالعادي أن تقع اشتباكات يتراوح عدد المصابين بين 20 – 30 جريح، لكن أن يصل عدد القتلى إلى أكثر من 70 شخصا، فهذا بالتأكيد أمر غير طبيعي". وتساءل فريد بالنهاية: "بعد المباراة، تم قطع الإرسال، فلم نر ما حدث، ولم نعرف كيف مات هؤلاء ، وما هي الأداة التي استخدمت في جريمة قتلهم الغامضة والسريعة".

 


أميرة محمد ـ القاهرة
مراجعة: أحمد حسو
حقوق النشر: دويتشه فيله 2012