''محطات .. توقف وارقص''.... استرجاع الفنون للفضاء العام

يحاول مشروع طموح متعدد الثقافات في مصر بعنوان "قف وارقص" دعم حرية التنقل لفناني الشوارع في القاهرة. أميرة الأهل تعرفنا من القاهرة بهذا المشروع المميز، الذي أصبح ممكناً بعد أن فتحت الثورة المصرية أمام الفنانين إمكانيات ومسارح جديدة لم تكن متوفرة خلال حكم نظام مبارك السلطوي.

الكاتبة ، الكاتب: Amira El Ahl



تقف ثماني نساء خلف بعضهن البعض على سلم متحرك يقود إلى محطة سانت تريز في حي شبرا بالقاهرة، ولا تلقي إحداهن بالاً إلى الأخرى. لكن فجأة، وعندما تصل أولى السيدات إلى نهاية السلم، فإنها لا تتوجه إلى رصيف المحطة كبقية المسافرين، بل تلتصق بالحائط وتبدأ بالتلوي على طوله.

السيدة التي كانت تقف خلفها تقوم بنفس الشيء، وكذلك السيدات الست الأخريات. كلهن يقمن بالتقلب والتلوي والزحف على طول الحائط، حتى يصلن إلى بداية الرصيف، وهناك تبقى النساء ملتصقات بالحائط دون أن يتحركن.

وبينما يصل قطار المترو إلى المحطة، ويبدأ الركاب بالصعود إليه والنزول منه، يتوقف البعض للنظر إلى ما يحدث بحيرة، قبل أن يواصلوا طريقهم. لكن آخرين يقفون ويبتسمون. رجل مسن يقف بشكل ملاحظ لفترة أطول، برأس منحن وجبهة مجعدة، ناظراً إلى النساء اللواتي يتلوين على الحائط. نظرته توحي بأنه يتساءل: ما الذي يفعلنه؟ ما هذا؟ صافرة قطار المترو تقطع عليه حبل أفكاره. حتى سائق القطار بدأ بإطلاق الصافرة عدة مرات، فهو قد رأى النساء ويبدو أنه يستمتع بالعرض.

الصورة اميرة الأهل
فن عشوائي ومفاجئ: عروض مشروع "توقف وارقص" تبدأ بالنسبة للمشاهد بشكل عشوائي ودون إعلان مسبق. لهذا لا تلائم هذه العروض خشبة المسرح.

​​هؤلاء النساء الثماني هن جزء من "محطات"، وهي مبادرة فنية متعددة الثقافات قام أربعة مؤسسين بإطلاقها في السنة الماضية. وتهدف هذه المبادرة إلى تقديم الفن في الأماكن العامة من أجل إيصاله إلى المواطنين. ولهذا فإن جميع المشاريع المنفذة هذا العام تندرج تحت عنوان "شوارعنا". ويتم تمويل "شوارعنا" بشكل رئيسي من معهد الحوار الدنماركي-المصري، إضافة إلى السفارة الألمانية في مصر، التي تدعم ورشات العمل في مشروع "توقف وارقص".

وبالإضافة إلى مشروع "توقف وارقص"، تنظم "محطات" خلال العام الجاري عدداً من العروض العامة، من بينها "مشروع الشجرة" في حي الدقي بالقاهرة. وستعكف كل من الفنانة المصرية يارا مكاوي والدنماركية نانا غولدهامر، بالتعاون من طلاب فن مصريين وشباب من الحي، على تنظيم ورشات عمل يتم من خلالها ابتكار تصاميم فنية لأشجار الحي. وفي ختام الورشة سيتم تنظيم احتفال مدته يوم واحد في الحي، لعرض الأعمال التي أنتجت.

من أجل حرية التعبير الفني

وتقول ميادة سعيد، وهي من مؤسسي مبادرة "محطات": "كل نقوم به من أجل الفن"، مضيفة أن مجموعة "محطات" نشأت بفعل المزاج الذي ساد مصر ما بعد الثورة، ومن خلال رغبة مؤسسيها ونشاطهم ونظرتهم حيال دعم حرية حركة الفن في الأماكن العامة. كما تهدف المجموعة إلى دعم حرية التعبير الفني في مصر، ذلك أن فن الشوارع وثقافة الشوارع لا تزال منظراً نادراً في مصر، ولهذا فإن المبادرين والفنانين لا يزالون مستعدين للتعامل مع أي مشاكل تواجههم أثناء تنظيم فعالياتهم في الأماكن العامة، إذ يرافقهم حراس يتعاونون مع أفراد الأمن المتواجدين في مكان إقامة الفعالية، ويتعاملون مع الجمهور إذا تطلب الأمر ذلك.

الصورة اميرة الأهل
الاستيلاء على الأماكن العامة: في عهد مبارك لم تكن الفعاليات الثقافية ممكنة في الشوارع. لكن الثورة فتحت أمام الفنانين إمكانيات ومسارح جديدة، يتعين عليهم استغلالها.

​​وتقول ميادة سعيد في هذا الشأن: "فن الشوارع متجذر بعمق في الثقافة العربية. فهو ليس بالجديد، إذ لعب الشارع دائماً دوراً مهماً، إلا أن هذا الدور لم يكن حاضراً في الماضي القريب". وبالنسبة لمشروع "توقف وارقص"، قامت كل من مصممات الرقصات الثلاث، وهن كريمة منصور من مصر، وباولينا ألميدا من البرتغال، وبيرغيت بودينغباور من ألمانيا، بتنظيم ورشة عمل استمرت أسبوعين من أجل تدريب الراقصات الثماني على تقديم العروض. ويذكر أن معظم الراقصات يقمن بذلك لأول مرة.

محطة المترو كعنصر درامي

بدأ العروض على هيئة فعالية مفاجئة وعشوائية دون أي إعلان مسبق، يتحول فيها المارة إلى مجموعة راقصة. وتوضح بيرغيت بودينغباور: "نحن نتعامل مع حركات نراها في محطة المترو كل يوم. العروض تجري بشكل رقيق". حتى محطة المترو تعمل كعنصر درامي، بحسب ما ترى بودينغباور. كما ترى باولينا ألميدا أن "كل محطة تختلف عن الأخرى، وهذا يغير العناصر التي نستخدمها". لقد تم تصميم العروض للأماكن العامة، لذلك لا يمكن تقديمها على خشبة المسرح. كما يلعب الارتجال دوراً كبيراً، إذ يجب على الراقصات التكيف بسرعة مع تغير الظروف.

الصورة أميرة الأهل
بالنسبة للكثير من المشاركين في مشروع "توقف وارقص" فإن فكرته جديدة عليهم. وفي ورشة عمل يقوم راقصون محترفون بالتعاون مع هواة في تنفيذ رقصات العرض.

​​وتؤكد مديرة مشروع "توقف وارقص"، ميادة سعيد، أنها مرت بكل الظروف الممكنة، ففي إحدى المرات أراد عناصر الأمن في إحدى المحطات طرد الراقصات فوراً ومنع العرض، ومرة أخرى سلمها أحد عناصر الأمن قرصاً مدمجاً له وطلب منها المشاركة في العرض كمغنّ هاو، بسبب إعجابه بما رأى.

المارة ليسوا الوحيدين الذين يشعرون بالغرابة لرؤية عرض راقص في مكان يجسد صخب الحياة اليومية. فالراقصون أنفسهم كان احترامهم لما يقومون به كبيراً. وتصف أماني عاطف، إحدى الراقصات، شعورها بالقول: "لقد كنت خائفة للغاية". فالطالبة البالغة من العمر 22 عاماً لم تكن تتصور أن يتفهم المصريون أسلوب العرض العشوائي المفاجئ.

 

وتتحدث أماني عن تجربتها، إذ تقول: "في المرة الأولى كنت خائفة للغاية من ردود الفعل، إلا أن معظم المارة كانوا مهذبين. لقد ضحكوا وصفقوا". وتتفق معها مرام أحمد، التي تضيف: "لكن طاقة المجموعة سهلت الأمر علينا. فنحن لم نكن وحدنا على الإطلاق". وبصرف النظر عن ردود الفعل التي أثارها مشروع "توقف وارقص" لدى المارة، فقد حقق الراقصون والراقصات هدفهم، وهو كسر الروتين اليومي للناس من خلال فنهم، ولو للحظات.

 

 

أميرة الأهل
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012