المسيحية في أوروبا.......مشكلة وجودية وهوية ثقافية

من شأن التحالف مع منتقدي الإسلام الإساءة إلى المسيحية والانتقاص من قيمتها. ولذا لا بد للمسيحيين من أنْ يقبلوا بأنهم أقلية، وهذا هو تماثل التسامح المسيحي مع الصليب، كما يرى القس الإنجيلي يوخن تويفل في هذا التعليق.

الكاتبة ، الكاتب: Jochen Teuffel

تعاني المسيحية في أوروبا من مشكلة وجودية. ولا تتمثـَّل هذه المشكلة في العَلمَنة المتنامية في المجتمع أو في انتشار مزعوم للدين الإسلامي فيه. بل يكمن التهديد الوجودي بالأحرى في عدم تصديق رسالة وأعمال السيد المسيح فعليًا. فعلى خلاف شكّ القديس توما قبل أنْ يؤمن، ليست هناك رغبة في جسِّ جراح جَنبِ السيد المسيح وهو على الصليب للتأكد من قيامته وبالتالي التوصّل للإيمان.

 يكمن استفزاز الدين المسيحي في كلمة السيد المسيح الأخيرة على الصليب: "قد أكمل (tetelestai)!" ليس هناك ما يضاف من قِبَلِ البشر إلى تضحية ابن الله بحياته بالنيابة عنهم. وما يتبقى على المسيحيين فعله هو الاحتفال بسِرّ الفصح في قداسٍ إلهيٍ، وشهادة القيد الكنسية التبشيريَّة، وخدمة الغريب من الأقرباء. وما عدا ذلك يُعمل بالتسامح الذي لا يعني إلا تحمُّل "شدة المقت"، لأنَّ المرء لا يستطيع الإعراض عنه ولا تجاهله ولا حتى القبول به.

 للمسيحيين طريق أقلية

الصورة د ب ا
"لطالما يجري الحديث عن ثقافة مسيحية راشدة بوصفها مرجعًا اجتماعيًفي الجدل الدائر حول اعتراف المجتمع بالإسلام في ألمانيا، حيث يُراد بهذا نشر مشاعر التحفظ المسيحية الغربية تجاه المسلمين، إلا أنَّ هذا يُشكل السبيل الأكيد للإساءة الاجتماعية إلى الإنجيل"

​​

 يتجلى هذا التسامح الشغوف على صليب المسيح بشكل ملموس – بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالتالي يؤكد المسيح لتلاميذه على ما سيتبع على طريق الشهادة بكلماته: "من أراد أنْ يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإنَّ من أراد أنْ يخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها (مرقس 8،34 وما يتبع). يخط الإنجيل للمسيحيين طريقًا بوصفهم أقلية، حيث يكون عليهم تحمّل الافتراءات والملاحقات، لا بل وحتى تحمل المعاناة من العنف بسبب ارتباطهم بالمسيح: "وجميع الذين يريدون أنْ يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 3،12).

 ولسببٍ وجيهٍ يتحدث مارتن لوثر في أحد نصوص مجلس الكنيسة (1539) عن [الاضطهاد] الملاحقة باعتبارها واحدة من سِمات المسيحية السبعة: "وسابعًا يتعرف المرء في الظاهر على الشعب المسيحي المقدس من خلال وسيلة خلاصه وهي الصليب المقدّس، وبأنَّ عليه أنْ يعاني من المحن والاضطهاد، ومختلف أنواع وساوس الشيطان وشروره، ومن معاناة المعاش والجسد، لكي يتماثل مع مرشده السيد المسيح". وبحسب لوثر على المسيحيين المعاناة من الكراهية حتى في مجتمعهم، وهي كراهية أكثر مرارة من التي يتعرَّض لها اليهود والكفـَّار والأتراك. ولا بدَّ لهم من أنْ "يُسَمُّوا أكثر الناس ضررًا على الأرض، بحيث يتعرض أولئك الذين يقومون بالقدّاس للشنق والإغراق والقتل والتعذيب والمطاردة، وليس لأنهم زناةٌ أو قتلةُ أو لصوصٌ أو محتالون، بل لأنهم يريدون المسيح وحده ولا يريدون ربًا سواه".

 سيادة إلهية تؤثر العجز الدنيوي

الصورة د ب ا
"إنَّ تحديد جديد لحق الاندماج الاجتماعي باسم القيم المسيحية، سوف يوقظ حتمًا في الذاكرة الجمعية فكرة المجتمع المسيحي قبل التنوير"

​​ في الواقع إنَّ " كلمة الصليب" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1،18) هي للمسيحيين فرضٌ يكاد لا يحتمل. ولا يمكن معها إقامة دولة في المجتمع. ولكنَّ هذا بالتحديد ما لم يرتضِه السيد المسيح لا لنفسه ولا لتلاميذه أثناء الاستجواب أمام الحاكم بيلاطس حيث أجاب يسوع: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خـُدَّامي يجاهدون" (يوحنا 18،36). إشارة عمانوئيل– "الله معنا" (متى 1،22 وما يتبعها) – ليس مكانها مدموغة على أقفال الأحزمة الحديدية [التي يرتديها رجال السلطة] . جدلية الانكفاء على الصليب الخاصة بسيادة إلهية تؤثر العجز الدنيوي فتأبى أي اعتبار لسلامة الدولة ومصلحتها العليا. بيد أنه في هذا بالذات يكمن انفتاح شرعية الدولة العلمانية للمسيحيين.

 لطالما يجري الحديث عن ثقافة مسيحية راشدة [بوصفها مرجعًا اجتماعيًا] في الجدل الدائر حول اعتراف المجتمع بالإسلام في ألمانيا، حيث يُراد بهذا نشر مشاعر التحفظ المسيحية الغربية تجاه المسلمين، إلا أنَّ هذا يُشكل السبيل الأكيد للإساءة الاجتماعية إلى الإنجيل وإلى صليب المسيح والانتقاص من قيمتهما. يبرز هنا بدلا من تسامح الانكفاء [السماوي] على الصليب مفهومٌ لممارسة الدين من صنيعة الإنسان وجعله سائدًا بوسائل سياسية خارج نطاق المعتقدات الشخصية. وقد ينتج عن هذا على المدى القريب تحالفات لمسيحيين محافظين على القيم مع مبتعدين عن الكنيسة أو حتى مع ملحدين ناقدين للإسلام. بيد أنه على المدى الطويل لا يمكن أنْ يتم فهم المناداة بمجتمع التراث الغربي المسيحي إلا باعتباره مسعىً "ما بعد علماني" لإعادة تشكيل ارتباط بتقاليد كنسية مُجزأ وذلك بأسلوبٍ اجتماعيٍ سياسي.

 إنَّ تحديد جديد لحق الاندماج الاجتماعي باسم القيم المسيحية، سوف يوقظ حتمًا في الذاكرة الجمعية فكرة المجتمع المسيحي قبل التنوير. وضد تصورات ترميم انضباط اجتماعي ذي دوافع دينية، ينتصب هدف الحرية المدنية وتقرير المصير. إنَّ ما يجري اعتماده في ألمانيا باعتباره نقدًا للدين ضد الإسلام، سوف يطال الكنائس على المدى البعيد. وبالتالي لا يمكن للنقاش الدائر حاليًا حول الإسلام إلا أنْ يعزز التغيُّر نحو الدولة العلمانية، ما يعني أيضًا إقصاء الكنائس من الحياة العامة.

 ضد نهج محافظ ديني إزاء الثقافة

الصورة خاص، يوخن تويفل
"إنَّ التعدديَّة الدينيَّة وتزايد الابتعاد عن الكنيسة يضيّق في نهاية المطاف المجال حول مكانة المسيحيَّة الفطريَّة المزعومة في المجتمع"

​​ علاوة على ذلك، يجعل التحفظ الغربي على الثقافة سبيل التبشير المسيحي للمسلمين في أوروبا مستحيلاً عمليًا. إنَّ من يطالب بالانصهار الديني (لا بالولاء للقانون) باعتباره الضريبة المُسبقة للاندماج الاجتماعي، لا يمكنه في الوقت ذاته أنْ يشهد على تضحية المسيح بحياته على الصليب باعتباره فعل خلاص. وفقط انطلاقًا من موقع المسيحيين كأقلية متسامحة، أي من موقع لا يُطالب خارج نطاق الإيمان الشخصي بحقٍ اجتماعيٍ في الاندماج، تـُصان المصداقية الذاتية للشهادة المسيحية [الشهادة بالإيمان المسيحي]. وبهذا الصدد تكون حيادية الدولة إزاء الدين تحديدًا وإزاء حرية المعتقد ضماناتٍ لإفساح المجال أمام رسالة المسيح باعتبارها مسألة حياتية حاسمة لتلعب دورها بتلقائية في المجتمع المعني.

 لا يزال من الصعب على المسيحيَّة الكنسيَّة القبول بأنْ تكون في موقع الأقلية. إنَّ التعدديَّة الدينيَّة وتزايد الابتعاد عن الكنيسة يضيّق في نهاية المطاف المجال حول مكانة المسيحيَّة الفطريَّة المزعومة في المجتمع. ويبدو هنا للوهلة الأولى أنَّ الدفاع ثقافيًا عن مشروعية الادعاءات الدينية منطقيًا. بيد أنَّ النهج الديني المحافظ الذي يراهن على المحافظة على الثقافة هو شأنٌ ميئوسٌ منه. ولا يوفر الأمل والثقة للمسيحيين سوى العودة للصليب. إنَّ رسالة السيد المسيح على الصليب "قد أكمل!" تضع الواقع الاجتماعي الراهن حقيقةً تحت انتظار الكمال في الآخرة. قد يكون هناك تزايد في التعدديَّة الدينيَّة، وقد يزيد اضمحلال الأوساط الكنسيَّة، وقد يبدو أنَّ الناس الذين يؤمنون بالله حقًا في تناقصٍ مستمرٍ، لكنَّ كلَّ هذا لا يمسّ فعل الخلاص الإلهي الإنساني على الصليب على الإطلاق.

 ليس لدى المسيحيين شيئًا يخسرونه، ما لم يتم كسبه منذ زمن طويل من خلال السيد المسيح. وما تم انجازه على الصليب من انتصار على الخطيئة والموت، سيتجلى بشكلٍ كاملٍ في نهاية الحياة الدنيا لدى عودة السيد المسيح وفقاً للكتاب المقدس. ومن يصدِّق هذا الوعد لن يكون تسامحه الخاص مجرد قبولٍ استسلاميٍ بمجتمع تعدديٍّ ذي مصيرٍ مشترك. بل أنَّ المسيحيين ينجون بفضل إيمانهم بـ "قد أكمل!" من فخ هوية الانتماء الوطني، حيث يُعبَّر عن مخاوف الحياة المعاشة أو الخوف من الموت عبر نبوءاتٍ بالدمار من نوع "ألمانيا تدمر نفسها" [وهو عنوان كتاب يقول بأن ألمانيا آيلة للانهيار بسبب الأجانب والفقراء الذين يعيشون فيها]. بدلا من ذلك، تبقى الكلمة العليا لشهادة الرسول بولس: "فأني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أنْ تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8,38 وما يتبعها).

 

 يوخن تويفل

ترجمة: يوسف حجازي

مراجعة: هشام العدم

 يوخن تويفل قسيس الرعية البروتستانتية في مدينة فوهرينغن/إللر. نشر في عام 2009 كتابه "التبشير باعتباره شهادة قيد كنسية – نقد أيديولوجي في مسألة الدين".