الواقع بأسماء مستعارة!

شهدت السنوات الماضية صدور العديد من الأعمال الإبداعية بقلم كاتبات من المملكة العربية السعودية اللواتي يتناولن بجرأة كبيرة موضوعي الجنس والدين. ماهر شرف الدين يلقي نظرة نقدية على هذه الظاهرة.

​​

"يكشف الله عن ساقه فإذا خلخاله يحدث شنّة ورنّة لكن القوم لاهون: أنف فلوة في مؤخرة علي، ولسان عبد الله الخشن يجوس بين فخذي فاطمة"، "وساوس الله وساقه وخلخاله"... هذا بعض ما ورد في رواية "الأوبة" آخر الروايات السعوديات الصادرة في بيروت تحت اسم مستعار "وردة عبد الملك". وإذ سمح كاتب هذه السطور لنفسه باستهلال مقالته عن ظاهرة (ولا داعي لاستخدام المزدوجتين) الكاتبات السعوديات باستشهادات كهذه، فلأن هذه الرواية بلغت في كسر التابو الديني ما لم تبلغه رواية أخرى.

قبل شهور قليلة من صدور "الأوبة" صدرت رواية "الآخرون"، في بيروت أيضاً، لكاتبة سعودية اختارت اسماً مستعاراً “صبا الحرز"، وفعلت في تابو الجنس ما فعلته كاتبة "الأوبة" مع تابو الدين. وقبلهما صدر ديوان "نصف تفاحة" لشاعرة اختارت اسم فايزة سعيد.

الصحيح أن ما يشبه "الإنزال" هو ما يحدث في بيروت، وحتى في قلب المملكة السعودية وإن على شبكة الإنترنت. إنزال نسائي جندياته كاتبات سعوديات، روائيات وشاعرات وقاصّات وصحافيات، بعضهن القليل واتتهن الجرأة، فجعلن من أجسادهن، وجنسهن، رايةً يلوّحن بها فوق العمائم والفقهاء.

وبعضهن الآخر، خوفاً أو اقتناعاً، لا يزلن يرفضن مجرد نشر صورة شخصية في مطبوعة، أو حتى في موقع الكتروني. وأخريات سخّرن أقلامهن لقضية واحدة ووحيدة، هي قضية المرأة، محاذرات خدش الحياء الاجتماعي في بلد "يتمتّع" فيه شيوخ الدين بملكة النقد!!

رجاء الصانع، نداء أبو علي، فايزة سعيد، هيلدا اسماعيل، بدرية البشير، زينب حفني، هيام المفلح، رجاء عالم، هداية درويش، سارة الهاجري، رانية سلامة، سهاء النهدي، إيمان القويفلي، هناء حجازي، حكيمة الحربي، وفاء العمير، نادين البدير، ثريا الشهري، ليلى الجهني، أمل الفاران، خديجة الحربي، عائشة القصير، وردة عبد الملك... بالطبع، سيبدو حشد الأسماء هذه، على نحو كهذا ضرباً من ضروب استعراض الغنى، أو في أقلّ الأحوال، دليلاً على وجود مثل هذا الغنى.

لكن الكتف لا تؤكل هكذا، في موضوع مثخن بالأزمات والمحاذير، كموضوع الكاتبات السعوديات (بدأ التعليم الرسمي للفتاة السعودية قبل أقل من نصف قرن، تحديداً في العام 1960، حيث تمّ إنشاء أول مدرسة رسمية ابتدائية للبنات).

معركة عادلة!

كان لأي كتاب، ما دام قد كُتب بقلم فتاة سعودية، أن يأخذ الضجة التي أخذتها رواية "بنات الرياض" لرجاء الصانع. أقول، كان في وسع أي رواية سعودية أن تربح معركتها منذ عنوانها: لم يكن لرواية الصانع أن تأخذ ما أخذته من سجال وكلام قيل، ولم يزل، لو كان اسم كتابها: "بنات بيروت"، على سبيل المثال، أو "بنات دمشق"، وحتى "بنات الكويت". ليس جديداً أن نقول، إذاً، إن هذا الكتاب أخذ مجده سلفاً، وكسب معركته على سطح الغلاف.

فالرواية، كما يعرف جميع قرائها، تَعِد بأكثر مما تفعل، ولا تتجاوز المحظور (حتى بالقياس إلى تشدّد المجتمع السعودي) بأكثر مما تتجاوزه امرأة قرّرت إخطار أبناء جلدتها بأنها قادت سيارة حين كانت خارج المملكة.

فلنقل إن هذه الرواية كانت نموذجية، لجهة سقفها الواطئ، كي تُخاض، كمعركة اجتماعية، في داخل المملكة: يريد المجتمع السعودي أن يخوض معركة "عادلة"، يستطيع فيها أحد الجانبين الدفاع عن حرية نسبية. وهذا ما دفع بكاتب وناقد ليبيرالي كعبد الله الغذامي إلى كل هذا الاحتفاء بالرواية، واعتبارها أول رواية سعودية (كتب الغذامي أكثر من عشر مقالات عنها).

الصحيح، أن المغري في تناول هذه الرواية هو ذلك المؤشر الكامن تحت النص، والذي يقود إلى المتغيّر الثقافي النسقي في المجتمع السعودي. فالرواية، التي عرضت لقصص فتيات أربع، على لسان الراوية موا، اختارت صيغة رسائل البريد الكتروني وسيلة لذلك (ناهيك باختيارها غير العبثي ليوم جمعة، من أجل بثّ رسائلها إلى جميع مستخدمي شبكة الإنترنت في السعودية).

وهذا ما يدور فعلياً في شرائح واسعة في المجتمعات المغلقة، والتي لا تجد أفضل من الوسائل التكنولوجية، لجهة سرّيتها وسهولتها، لبثّ مكبوتاتها، على مثال ما يفعل الإرهابي الأصولي (وما أبعد التشبيه هنا) في استخدامه شبكة الإنترنت للترويج لجرائمه، وبثّ المشاهد "الحيّة" لقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث. لا بدّ لنا، بعد ذلك، أن نقرأ الكثير من الاستهجان المعادي، الوارد من "بنات الرياض ونسائها"، من خلال شبكة الإنترنت أيضاً، منكرات على الصانع التحدث باسمهن و"تشويه سمعتهن"، إلى درجة أن دعوى قضائية رُفعت ضدّ الرواية وكاتبتها!

أسماء افتراضية في عالم افتراضي

بالطبع، من الظلم تناول الأدب من زاوية المؤشر، سواء أكان اجتماعياً أم غير ذلك. لكنا إذ نفعل هذا، مكرهين، فلأن وضع تلك الأعمال الغضة في الميزان النقدي، هو ظلم أكثر. من ثم لأننا سنقع، بكثير من الدهشة، على أعمال مذهلة في جرأتها، وأشدّد على كلمة جرأة، قياساً بجنس الكاتب (أنثى)، وجنسيته (سعودية). من قرأ فايزة سعيد؟

"نصف تفاحة"، هو عنوان الديوان الثاني لفتاة عشرينية تكتب تحت اسم مستعار: فايزة سعيد (على ما أكّد لنا ناشر الكتاب فرحان صالح). الصحيح أن كتاب فايزة سعيد هذا، كان أحقّ بالضجة من رواية رجاء الصانع، لو وجد يداً تتصفّحه، أو لو كان في مقدور صاحبته - وهذا مستحيل بالتأكيد - التوقيع باسمها الصريح.

بكثير من الثورة والإنشاء، تكشف فايزة سعيد عن صدرها، مصيّرةً الجنس إلهاً "ينسلّ من فوق الرمش/ يسقط على الشفة/ يتسلل من تحت الجلد/ يسكن بين اللحم والدم"، هاجيةً تاريخاً طويلاً من التسكع عبر المناجم تحت الأرض، مستغرقةً، في الجنس، العالمَ كلّه: "يخلع القمر سرواله/ الذهبيّ/ وينام في حضن/ صديقته الغيمة/ الليل مزمار/ والسماء فرج الأرض الملتهب". كان لكتاب فايزة سعيد هذا، أن يكون أكثر مما كانه شعريّاً، لو أن صبيّتنا وجدت من يرعى تجربتها، ويسدّد خطاها. لكن الواضح أنها لم تكن تبتغي أكثر من إطلاق الصرخة، ولو بفمٍ آخر.

والحق أن "قضية" الأسماء المستعارة باتت قضية سعودية بالفعل، وخصوصاً مع انفجار عالم النشر الالكتروني: لم تستطع الصحافة الورقية أن تلعب الدور الذي لعبته الصحافة الإلكترونية في تظهير كاتبات سعوديات، والتعريف بهن. وذلك بسبب أن الرقابة أقل سطوة مع فضاء الإنترنت. إضافة إلى أن عمل السعوديات، بسبب الرقابة الاجتماعية، أكثر سهولة مع نوع كهذا من الصحافة (بعض الكاتبات السعوديات يمارسن عملهن من المنزل). لذلك كانت مساهمة الكاتبات السعوديات كبيرة في هذا المجال.

وبالعودة إلى ظاهرة الروائيات نجد نداء أبو علي كاتبة شابة (22 عاماً) قرأتُ لها "مزامير من ورق"، وهي رواية تدور، من خلال سرد شعريّ، في فلك صراع تربوي، حيث "القنوط يمارس ألاعيبه"، تعيشه الشخصيات على خلفية انتقالها الاجتماعي من الشرق إلى الغرب.

كذا بدرية البُشْر، القاصة والروائية، التي أصدرت روايات عدة، منها: "مساء الأربعاء"، "حبّة الهال"، وكان آخرها "هند والعسكر"، والتي لا تخرج فيها على عالم النساء المغلق في المجتمع السعودي، مدينة الرياض تحديداً، حيث السلطة الذكورية تصيّر القمع والعنف بديهيتين. في هذا العالم، الأسود والمعقّد كفنجان القهوة، تتناسل حكايات النسوة، "كل منهن لها حكاية في قلب فنجان، إن لم يجلبها الغيب معه صنعن هنّ الحكاية".

لكن الروايتين الصادرتين أخيراً ("الآخرون" و"الأوبة") تحت اسمين مستعارين، أحدثتا نقلة نوعية على مستويين: المستوى الفنّيّ لجهة البناء والسرد واللغة، والمستوى الـ"هتكيّ"، إذا جاز التعبير وسيجوز، لجهة الاجتراء على "مقدّسات" كالقرآن والرسول أو تناول "محرّمات" كموضوع السحاق. بالطبع سيكون من الظلم تناول مسألة النضج الفني في الرواية السعودية من دون المرور على تجربة رجاء عالم، والتي يمكن القول إنها صاحبة أول رواية سعودية، بالرغم من "أرستقراطيتها" بحسب تعبير عبدالله الغذامي.

تنفرد تجربة عالم عن سائر التجارب القصصية والروائية السعودية عموماً بابتعادها عن المباشرة في طرح "قضيتها"، من خلال سرد يستبطن لغته المشفوعة بنَفَس سوريالي. تحرص رجاء عالم في كتاباتها على كشف الجانب المطموس في الكائن الأنثوي، مستخدمةً المجاز والأسطورة على حدّ سواء. وإذ لا نجد أحداثاً واضحة في أعمالها، فإنما نرى ما يمكن تسميته "الحدث الصُوَري"، أي ذاك القائم في حركته على الصورة، وتحوّلاتها. لذلك يحضر الجسد، مدججاً بحواسه، بـ"نوعيه": الأنثوي المحبوس في "هيئة لا تعرق لا ترغب لا تسيل"، والذكوري "التحفة"، أو الجسد التمثال المحتاج دوماً إلى النحت.

قصائد البرقع

اللافت أن كثيرات من بين الشاعرات السعوديات، والخليجيات عموماً، وقعن في "شرك" نزار قبّاني، في معنى استدعائهن تلك اللغة النسوية التي تستعمل أقلام أحمر الشفاه في ثورتها، والتي تطلي أظافرها، ثم تخرمش بها. ربما بسبب من إلحاح الواقع المحتاج ثورة ما: زينب حفني، التي بدأت عملها في الصحافة منذ العام 1987، أصدرت حوالى عشرة كتب بين رواية وقصة وشعر، أو ما اصطلحت حفني على تسميتها بهذه المسميات.

وهنا أعود للتأكيد أن استعمال السكين النقدي هنا لا يبقي ولا يذر، وأن وقفتنا هذه هي وقفة اكتشاف، أكثر منها وقفة نقد. في إحدى قصائد كتابها "إيقاعات أنثى" تقول حفني: "أيها الرجل الشرقي/ يا جالساً فوق مقعد السلطانية/ تحتسي قهوتك المزاجية/ قاطعاً أوقات لهوك/ بالتطلّع نحوي بنظرات استخفافية". بهذه اللغة المسجّعة التي تحاول محاكاة لغة نزار قباني، من دون أن تنجح بالتأكيد، تحاول حفني وغيرها استخدام الوسائل كافة للتعبير عن قضيتها. ومن قرأ روايتها الأخيرة، "ملامح"، التي تتحدّث عن سيرة عادية لأي امرأة شرقية معنَّفة، يلاحظ طغيان الخطابيّ على كتاباتها.

هيلدا اسماعيل هي استثناء الشعر السعودي عن حقّ. "أيقونات"، هو اسم المجموعة الشعرية الثانية: قصائد قصيرة، لا تتعدّى الكلمات الأربع في أحيان كثيرة، جعلتها الشاعرة شباكاً مخصصة للاصطياد في الماء العكر، من باب أن "أرذل الشعر نصّ طويل"، على ما تقول هي نفسها. ككلّ الأسرار الصغيرة "تفشي" هيلدا اسماعيل بجسدها في شعرها.

ولا بدّ لقارئ هذا الشعر الأنثوي، حتى أخمص قدميه، من ملاحظة تسلّل ألم ما، له طابعه الذاتي أحياناً. بالطبع، لا يخلو شعر هيلدا اسماعيل من هنات ومآخذ، أبرزها الوقوع في شرك اللعب على الكلام. ديوانها الثاني يشي بشاعرة مستحقّة علينا أن نخطو إليها خطوة كبيرة، لأن هاويةً لا يمكن اجتيازها بخطوتين، استنطاقاً للغة هيلدا اسماعيل نفسها.

تحتاج الكاتبة السعودية إلى مَن يأخذ بيدها في طريقها المحفوف بالذكورة، وتحتاج من يلتقط لها صورة، ومن ينشر لها تلك الصورة، و... يصفّق. كذا، أن تكوني كاتبة في المملكة يعني أن تكوني انتحارية. هو زمن اسشهاديات القمع والإنترنت إذاً. زمن قتل المسكوت عنه، زمن الصورة إلى جانب المقال، والوجه إلى جانب اليد. وما علينا سوى أن نعد أنفسنا بالمزيد من أقلام الكاتبات السعوديات، وصورهنّ.

بقلم ماهر شرف الدين
حقوق الطبع قنطرة 2006