المملكة العربية السعودية في مواجهة الربيع العربي

ينظر قطاع عريض من المراقبين إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها الدولة التي تقود ثورة مضادة ضد ثورات الربيع العربي. فالسعوديون لا يريدون قوى معادية للسعودية، بما في ذلك أعداء مثل إيران وتنظيم القاعدة، حتى يتسنى لهم أن يبسطوا نفوذهم في الشرق الأوسط. برنارد هايكل أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون وذها التحليل.

الكاتبة ، الكاتب: Bernard Haykel



لقد شاهد بعض الزعماء السعوديين الأكبر سناً هذا الفيلم من قبل. فالثورات القومية التي اندلعت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، التي ألهمتها وحفزتها مصر تحت زعامة جمال عبد الناصر، كادت تطيح ببيت آل سعود. ومع ذلك، يبدو أن الأمراء السعوديين اليوم يدركون أن شيئاً ما قد تغير حقاً في الشرق الأوسط: فالجيل الأحدث سناً من العرب لم يعد مستعداً لتقبل حكومات غير مسؤولة وفاسدة ووحشية. والواقع أن المملكة العربية السعودية، التي نصبت نفسها حصنناً للتيار المحافظ الإسلامي، حيث لم تُعَد الديمقراطية قط شكلاً مشروعاً من أشكال الحكم، كانت أكثر عدوانية في بعض الساحات مقارنة بغيرها. ففي الداخل ضربت العائلة المالكة ضربتها بسرعة، ففرضت حظراً على المظاهرات العامة وأعمال العصيان المدني. ويفسر التأويل التقليدي للإسلام في المملكة الشرعية السياسية باعتبارها التطبيق السليم للشريعة الإسلامية من قِبَل الحاكم. وفي المقابل يدين له رعاياه بالطاعة في حدود الشريعة الإسلامية.


وينبغي للمعارضة، إذا نشأت أي معارضة، أن تأخذ دوماً هيئة النصيحة القائمة على حسن النية والمقدمة إلى الحاكم في مجلس خاص. أما المظاهرات العامة من جانب المعارضة فينظر إليها باعتبارها مخالفة للإسلام، لأنها تعزز الانقسام وتؤدي إلى الصراع الأهلي. ولقد أعلن المجلس الأعلى لعلماء الدين السعوديين مؤخراً أن المظاهرات مخالفة للإسلام قطعا. وفي مواجهة احتمالات تنظيم مظاهرات حاشدة في الحادي عشر من مارس/آذار ـ أو ما أطلق عليه يوم الغضب على إحدى صفحات الفيس بوك ـ فرض الحكام السعوديون ذلك الحكم بنشر أعداد هائلة من قوات الأمن في الشوارع.


كما لعبوا أيضاً ببطاقة الشيعة، وهي ورقة فعّالة ورابحة في المجتمع السعودي ذي الأغلبية السُنّية. وزعم الحكام أن الاحتجاجات العامة المنتشرة في مختلف أنحاء المنطقة مدبرة بواسطة إيران الشيعية، وأنها احتجاجات طائفية ومعادية للسُنّة. والآن بعد أن بات خطر الفوضى واضحاً جلياً في ليبيا، وسوريا، واليمن، فإن هذا يصبح في مصلحة الأسرة المالكة. إن بيت آل سعود يدعي لنفسه الحق في الحكم تاريخياً في المملكة، ويظل وعده بالاستقرار المفتاح لقدرته على البقاء.


سياسة المكرمات الملكية


مظاهرات في القطيف، الصورة ا ب
"أعلن المجلس الأعلى لعلماء الدين السعوديين مؤخراً أن المظاهرات مخالفة للإسلام قطعا"

​​كما ساعدت حزمة إعانات دعم حكومية هائلة في فرض الهدوء في الداخل. فعلى نحو مفاجئ، قررت الحكومة السعودية إضافة 130 مليار دولار إلى تقديرات الإنفاق على مدى الأعوام الخمسة المقبلة. وتم رفع الرواتب لكل موظفي الخدمة العامة، الذين يشكلون غالبية قوة العمل الوطنية، كما قررت الحكومة زيادة العدد الإجمالي لوظائف القطاع العام. وتعهد الملك عبد الله بأعداد كبيرة من الوحدات السكنية الجديدة، وهي لفتة بالغة الأهمية في دولة حيث لا يستطيع الشباب، وخاصة الشباب المتزوجين، الوصول بسهولة إلى سوق الإسكان.


وفي البحرين المجاورة، سارع السعوديون أيضاً إلى التحرك لتعزيز نظام الأقلية السني ضد موجة الاحتجاجات الصاعدة التي قادتها الأغلبية الشيعية في تلك المملكة الجزيرة. فسارت القوات السعودية إلى البحرين تحت لواء مجلس التعاون الخليجي، وأصدر الحكام السعوديون تعليمات واضحة بتبني سياسية القبضة الحديدية في التعامل مع المظاهرات، ومرة أخرى بدعوى أن يد إيران الشائنة تلعب دوراً قذراً لتخريب البلاد. لا شك أن السعوديين يعتقدون أن البحرين التي يقودها الشيعة لابد وأن تؤدي إلى تعزيز هيمنة إيران على عتبات بلادهم. وهنا أيضاً وظفت المملكة سياسة السخاء من خلال مجلس التعاون الخليجي، فوعدت البحرين بنحو 10 مليار دولار على مدى العقد القادم. كما بُذِلَت تعهدات مالية أخرى واسعة النطاق لعمان والأردن، اللذين يمثلان بالنسبة للسعودية حليفين نجحا في إخراس الهمسات المبكرة للاحتجاجات الحاشدة.


السعوديون والمواقف من الثورتين السورية والليبية


وبعيدا، في ليبيا وسوريا، لم يتحدث السعوديون إلا قليلا، ربما بهدف تجنب اختيار الجانب الخاسر في ظروف ملتبسة وغير مؤكدة. والواقع أن المملكة لا تكن أي حب للزعيم الليبي معمر القذافي، الذي حاول اغتيال الملك عبد الله وشن حملة دعائية منظمة معادية للسعودية لمدة عقد من الزمان على الأقل. ولا شك أن السعوديون يتمنون لو يرون القذافي وقد بات مخلوعا، ولكنهم ليس لديهم مصلحة حقيقية في نتائج الانتفاضة الليبية. أما عن سوريا الأقرب جغرافياً إلى السعودية، فإن المملكة تمقت الرئيس السوري بشار الأسد، بسبب تحالفه مع إيران ودوره المزدوج في لبنان. ولكن سقوطه يعني بالنسبة للسعوديين خطر نشوء بلد تحكمه جماعة الإخوان المسلمين. والأسوأ من ذلك، احتمال سقوط سوريا في الفوضى وجر لبنان معها إلى تلك الفوضى ـ بل وربما المنطقة بالكامل.


البحرين
"سارع السعوديون في البحرين إلى التحرك لتعزيز نظام الأقلية السني ضد موجة الاحتجاجات الصاعدة التي قادتها الأغلبية الشيعية

​​ولكن استخدام القوة المفرطة من جانب نظام الأسد، وخاصة القتل المتعمد للآلاف من المدنيين، وأغلبهم من السَنّة، كان سبباً في استفزاز موقف أكثر صرامة مؤخرا. فقد اعتبر الملك عبد الله عمليات القتل هذه غير مقبولة، كما سحب سفيره من دمشق. ولكن العواقب الفعلية لهذه السياسة لم تتحدد حتى وقتنا هذا. وتشكل اليمن المجاورة التهديد الأكثر مباشرة على الإطلاق. فالمعارضة هناك منقسمة إلى حد خطير ولا يرجى إصلاحه، والزعامات القبلية والعسكرية هناك مخترقة تماما. وما ينذر بشر مستطير، أن الجنوب يسقط تدريجياً بين أيدي إسلاميين متشددين، بعضهم متحالف مع تنظيم القاعدة. ولن تفلح استراتيجية الهبات المالية السخية في اليمن، البلد الضخم والمعقد إلى حد يصعب معه تهدئته وإشباع رغباته. والواقع أن البلد أصبح على شفا الانهيار التام.

الأزمة اليمنية

واليوم يرى السعوديون 24 مليون يمني ـ من الجياع المدججين بالسلاح والحاسدين للسعودية على ثروتها ـ يتطلعون عبر الحدود. وإذا اندلعت حرب أهلية هناك، فإن السعوديين لن يتمكنوا من منع الموجات الضخمة من اللاجئين. ولكن المملكة تظل مشلولة، فهي لا تزال مترددة حول ما إذا كان من الحكمة أن تسمح للرئيس علي عبد الله صالح، الذي يقضي فترة نقاهة في الرياض متأثراً بجراح أصابته في هجوم بقنبلة، بالعودة إلى صنعاء واستئناف حكمه.


الصورة د ب ا
"على الرغم من كل ثرواتهم وتخطيطهم فإن السعوديين لا يزالون عُرضة للاضطرابات التي تحيط بهم"

​​على الرغم من كل ثرواتهم وتخطيطهم فإن السعوديين لا يزالون عُرضة للاضطرابات التي تحيط بهم. ففي الداخل، يعمل تراث حكم أسرة آل سعود، والخوف من الفوضى، وزيادة الإنفاق العام، والقوات الأمنية الوفيرة، على تهدئة الأوضاع. ولكن الانفتاح السياسي المتواضع، والتنوع الاقتصادي بعيداً عن الصناعة المملوكة للدولة كانا الضحية. وفي البحرين تظل الأمور هادئة الآن أيضا، ولكن احتمالات نزوع الأغلبية الشيعية في البلاد إلى المزيد من التطرف والعنف أصبحت في ازدياد، ولعل إيران تكون المستفيدة من هذا في الأمد البعيد. إن تغيراً هائلاً قادم إلى الشرق الأوسط لا محالة. ومن غير الواضح على الإطلاق ما إذا كانت سياسة الاستقرار بأي ثمن التي تنتهجها السعودية كافية لتعزيز قوة النظام.

 

برنارد هايكل
ترجمة: أمين علي
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.