يوميات السراب

الكاتب الألماني إينغو شولتسه يمثل شباب ألمانيا الشرقية السابقة. كتابه "قصص بسيطة" صدر أخيرا في ترجمة عربية عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالتعاون مع معهد غوته في القاهرة. مراجعة إسكندر حبش

إينغو شولتسه، الصورة: د ب أ
إينغو شولتسه

​​الكاتب الألماني إينغو شولتسه يمثل شباب ألمانيا الشرقية السابقة، يتحدث في أعماله عن بعض المشكلات الاجتماعية والتحولات السياسية التي عرفتها ألمانيا بعد إعادة توحيدها. كتابه "قصص بسيطة" صدر أخيرا في ترجمة عربية عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالتعاون مع معهد غوته في القاهرة. مراجعة إسكندر حبش

تبدو علاقتنا بالأدب الألماني علاقة ملتبسة إلى حد كبير. فلو نظرنا إلى عناوين الكتب التي ترجمت من الألمانية إلى العربية، لوجدناها قليلة جدا، فيما لو قارناها بالعناوين التي ترجمت من الفرنسية أو الإنكليزية وحتى الاسبانية. دائما، كانت الثقافة والأدب الألمانيان يجيئان في المشهد الخلفي على الرغم من وجود كتاب ومفكرين أعطوا للثقافة الإنسانية بعدا متفردا، لدرجة أن الفكر الأوروبي المعاصر بأسره مدين للفكر الألماني، بطريقة لا يستطيع تخطيها، وذلك باعتراف هذا الفكر نفسه.

كيف نستطيع إذاً، أن نفهم حضور غوته ونيتشه وهيدغر وغادامير وأدورنو وغيرهم الكثير. أين نضع، في تساؤلنا هذا كتّابا من مثل غونتر غراس وهينرتش بُل ومارتن فالسر وكريستا فولف وغيرهم الكثيرين. بيد أن تساؤلنا هذا لا ينفي بالتأكيد عدة ترجمات صدرت عن الألمانية لكتاب حاضرين في المشهد الكتابي وعبر خارطته الكتابية.

ربما هي ترجمات مرشحة اليوم لأن تتكاثر، وبخاصة بعد "الانفتاح" الألماني "الثقافي" على العالم العربي، كأن نذكر مثلا مشروع "رواة المدن" أو الديوان "الشرقي الغربي"، وغيرها من المشاريع الأخرى التي توجها مؤخرا معرض فرانكفورت.

أدب من الشطر الآخر لألمانيا

لو نظرنا اليوم إلى الأدب الروائي الألماني المعاصر لوجدنا أسماءً جديدة بدأت تفرض حضورها، وأضف إلى ذلك، أن أسماءً أخرى تأتي من تلك المناطق التي كانت تسمّى "ألمانيا الشرقية"، وهي بدون شك، تحمل نظرة مختلفة عما كان يعرف بأدب ألمانيا "الغربية". جيل بأسره، يأتي الآن من "الوحدة الألمانية" حاملا معه مشروعه ورؤاه ومناخاته، كما يتحدث عن بعض المشكلات الاجتماعية والتحولات السياسية التي عرفتها ألمانيا بعد إعادة توحيدها.

وربما أيضا يكتبون حنينهم إلى بلاد لم تعد موجودة إلا في التاريخ والذاكرة. من هؤلاء الكتاب مثلا نجد اليوم إينغو شولتسه الذي تصدر روايته "قصص بسيطة" في ترجمة عربية، قام بها الكاتب والمترجم المصري سمير جريس (المقيم في ألمانيا) والصادرة حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، بالتعاون مع معهد غوته في القاهرة.

"أهتم بأشياء عديمة المعنى، غير محسوسة، سرابية مثل فقاقيع الصابون"، هذا ما قاله إينغو شولتسه، ذات يوم، في أحد حواراته الصحافية حين سُئل عن عمله وعن اهتماماته. اهتماماته هذه تظهر نظرته الثاقبة التي تتأمل الأشياء كما لو كانت ستطير أو تتلاشى. لذلك تبدو المشكلة حينئذ في كيفية تثبيتها أو في كيفية اصطيادها عبر شبكة من تلك الشبكات التي تُستعمل في الإمساك بالفراشات.

تتشكل الروايتان اللتان كتبهما حتى اليوم من حكايات وسرديات صغيرة بسيطة جدا، تماما كعنوان كتابه الثاني: "قصص بسيطة". كتابه هذا عبارة عن لحظات منزوعة من التفاصيل اليومية "البدائية"، التي قد نجدها خلف خزانة على الحائط، أو تحت كنبة، أو هي قطع وجوه تُرى عبر نافذة سيارة أو أيضا هي عبارة عن أجزاء حوار حُفظ سهواً.

روسيا التسعينيات

كتابه الأول "33 لحظة من السعادة"، جاء بعد إقامة لمدة عشرة أشهر في مدينة سان بطرسبرغ، وهو يكتب فيها "تأريخا>" و"تعليقا" عن هذه الأيام العادية، المشتركة بين الناس. ثمة انطباع يتولد عند قراءتها ويسيطر علينا وهو شبيه بذلك الانطباع الذي نشعر به ونحن ننتظر مجيء أحدهم في شارع مكتظ بالناس حيث يتردد إليه المارة بكثرة. نكون في الانتظار. نشعر بالقلق ونبدأ النظر بدقة إلى هذا الحشد، إلى كل شخص يمر:

أول ما نشاهده في انتظارنا هذا، هو تلك البداهة المزدوجة "للمشابه والمخالف"، ذلك الحقل المزدوج "للبعيد والقريب"، نبحث عن شيء وسيط بينهما. يتبدى كأن شولتسه يستعير في كتابه هذا، أسلوب الكتّاب الروس (أو السوفيات)، إذ يمارس فيه قطيعة مستمرة في النبرة واللغة، كي يعكس في النهاية ذلك الواقع المتقطع لروسيا في أواسط التسعينيات.

بدورها، تجمع "قصص بسيطة" كمية من الأحداث الصغيرة، كأن نجد ضجيج معصرة الغسالة في الشقة المجاورة، رنين هاتف في عز الليل، الرحلة الأولى إلى "الغرب"، ساعة تناول القهوة في مكتب ما. أي إنها الحكايات العادية التي نرويها كل يوم. ومع ذلك، لا يشكل مجموع هذه القصص، مشروعا لكتابة "مينيمالية" كتلك التي وجدناها عند عدد من كتاب الولايات المتحدة إذ انه مسكون بحاجة أعمق من حاجة التعرف على أمكنة مشتركة.

رواية قصص التسعينات

ما يحاوله شولتسه في رسمه هذه البورتريهات، هو البحث عن تلك الخريطة الكبيرة التي لا تُقرأ بوضوح في الخطابات الجيو سياسية أو في الحنين الإيديولوجي لسطح الحركات الرائجة. في قلب هذه المحاولة، يكمن تحول علاقة الكائنات مع الأشياء، من هنا نجد أن الانتباه الكبير الذي يوليه إلى أغلفة السلع والى ماركات المنتجات (الإسفنج، أكياس الأرز، علب الفطر البلاستيكية، معجون الأسنان...) ليس سوى طريقة ما ليروي قصة التسعينيات هذه في منطقة كانت تعتبر بلدا مركزيا، وقد أصبحت اليوم من المدن الهامشية.

يظهر إينغو شولتسه في كتابه هذا، الذي عرف نجاحا شعبيا في ألمانيا يوم صدوره، كأنه كاتب حقبة ما بعد التوحيد، ولكنه توحيد يمر بشكل أقل عبر إهمال الحائط والحدود، أي إنه توحيد يرتكز عبر اقتباس المراجع الجديدة وتبني الأشياء المشتركة.

بالتأكيد ثمة شكل من أشكال سوء الفهم في هذه الطريقة بإعطاء الرواية هذه النية التوافقية، إذ هناك جانب من جوانب نجاحه يعود إلى بعض نتائج التماثل والاعتراف التي استطاعت ترفيه كل قارئ ألماني، ضمن إطار الصورة التي يعرفها عن نفسه وعن الآخر. بيد ان إينغو شولتسه لا يكتب أبدا ليصنع من الحكاية خميرة للوحدة أو كي يخدم خطابا سياسيا. كل ما يفعله، كتابة تفاصيل أناس عاديين في عالم يتغير (توحيد ألمانيا بعد التقسيم).

الخطاب الرسمي

كل التفاصيل موجودة هنا: وُلد إينجو شولتسه في مدينة دريسدن العام 1962 (قبل سنة من تشييد الجدار) وبدأ يكتب العام 1990 (بعد سنة من سقوط الجدار). حتى العام 1989، لم يكن يعرف سوى هذا الواقع المحاصر، سوى هذه الحالة السوية، إذ لا خيار أمامه، سوى ان يعيش هنا. قبل ذلك، وكما يقول في حديث صحافي، كان الخطاب الرسمي يغطي كل شيء. يحرم الأشياء من جزء من حقيقتها: كنا نستطيع جيدا ان نراها أمام أعيننا وأن نتيقن من وجودها، ما إن نبدأ بتسميتها أو حتى بمحاولة الحديث عنها، حتى تبدأ بفقدان واقعها ومعناها الحقيقي: كانت تتلاشى.

من هنا، إن ما جلبه له الجانب الآخر أولا، إمكانية مقارنة الدولتين، اللغتين، الأشياء المشتركة بينهما، وهذا ما سمح له بأن يعود ويجد حقيقتها، أي سمح ذلك للكاتب بأن يكتب. بعد ذلك جاءت دهشة التبدل، نتائج الانتقال والتحول، وربما هذا ما يفسر أكثر اختيار الشكل القصصي أو بدقة أكثر القصة القصيرة على الطريقة الأميركية (تذكرنا ب"لقطات قصيرة" لريمون كارفر).

رحلة إلى مدينة صغيرة

في أيام معدودة، أصبحت ألمانيا الديموقراطية، ألمانيا. أصبح الشرق غربا، فبدأت بعض الآليات (الميكانيزمات) بالتموضع، بأخذ مكانها الذي ليس له أي علاقة بآليات الماضي.

كل "قصة" من القصص ال29 التي تشكل الكتاب، المجموعة بلغة متجانسة، كما بالمبادئ القديمة الجيدة لعودة الشخصيات من قصة إلى أخرى، تستدعي صدفة! نتائج المرور من نظام شيوعي إلى نظام اقتصاد السوق، ثمة تشوّش يصيب الجميع في أن لا يصبحوا مطرودين من الحياة، ثمة واقع تتعذر روايته، ومع ذلك يبدو عظيما جدا.

التحولات الألمانية

يأخذنا إينغو شولتسه إلى مدينة صغيرة تدعى ألتنبورغ في مقاطعة تورينغن، وهي من المدن الألمانية الشرقية السابقة، حيث نجد الناس الذين كانوا يعيشون حياة عادية، قد أصبحوا يتواجهون مع التحولات الجذرية التي أصابت ألمانيا الموحدة. في الفصل الأول يرافق القارئ ريناته وإرنست موريه في أول رحلة لهما إلى الغرب، أو رحلة إلى إيطاليا:

"نجد أنفسنا على الجانب الآخر من العالم. لا أصدق أبدا رؤية هؤلاء الذين يأكلون ويشربون كما لو أنهم في منازلهم، وأنهم يضعون قدما أمام الأخرى، كما لو أن ذلك كله يشكل الأمر الأكثر طبيعية في العالم".

قد يصف هذان الشخصان نفسيهما "بالأرباتشيك" ذوي المعاطف الخضراء، ومع ذلك فقد بدأت الحياة تأخذ طعما مختلفا. كل الشخصيات التي تعود من قصة إلى أخرى لتشكل في النهاية رواية ما كمثل آلموريه وآل شوبرت وبربارة وفرانك هوليتشك وليديا وكريستيان باير... هم رواة بدورهم.

ما يجمعهم أنهم عاشوا في ألتنبورغ وما زالوا يعيشون فيها بعد سقوط الجدار: لا يصيبهم إلا الأشياء العادية. لكن الأمر المهم، بخلاف ذلك، هو تلك الدقة شبه الهوسية التي تجعل كل عناصر السياق تتعايش معاً، كما لو ان كل حركة كانت قد نفذت في الحقيقي تحت أعين القراء، كما لو ان كل شيء عليه أن ينوجد في شكله ولونه وطريقته وبذرته.

من هنا، لا يبدو مهما ان تنقلب العلاقة بين الرواية والوصف أكثر مما تنقلب القيم المقبولة للسرد. ثمة حكاية مميزة تشير جيدا إلى ذلك. ثمة شخص يروي في الواقع هذه اللحظة: ذات يوم، وعند حفل افتتاح أحد المعارض، تنطفئ الأنوار، لعطل ما، فتبدأ الأحاديث بالخروج من أسقف "كان هناك جهاز تنصت، كي يسجل الأحاديث، وبدأ بالعمل بطريقة عكسية".

تفاصيل تحت المكبر

يعطي إينغو شولتسه في عملية تعاكس متشابهة، سلطة خاصة إلى الذي لا يُسمع عادة و"شرقطة" نادرة إلى الذي لا ننظر إليه أبدا: مستنقع ماء، في المطبخ "يشكل جزيرة"، نسيج ممسحة الأقدام الملتصقة بالأرض حيث إن رسومها تذكرنا بصقلية، رائحة شقة ماريان الطيبة "التي تشبه الرائحة في محلات الأنترشوب"، حيث ندفع غاليا ثمن هذه العطور القادمة من الغرب، بقايا وجبة طعام.

كل هذه التفاصيل تظهر كمكبر، تجعلنا نتبيّن الصيغتين الرئيسيتين للانتقال: من جهة، المقاربة بين عالمين وانحلالهما المتصاعد (نلاحظ أهمية العنصر السائل في هذه الرواية كما الأشياء الهاربة والحركات..) ومن جهة أخرى الارتجاج، بعيدا عن السمة المقتضية لسخريته الباردة (من دون اللجوء السهل إلى النكتة المجانية) نجد شولتسه متينا في صوغ العبارة والقلق الذي تحدثه، (وهنا نميز دور المترجم الكبير في الإمساك بهذا المناخ)، كما لو ان الألمانيتين قد اقتربت إحداهما من الأخرى تحت التأثير الجيولوجي للقشرة الأرضية عند اهتزازها.

يبدو الجميع مشبوكين، منتظرين دائما تحولا كبيرا لا يأتي في الواقع، يطوّر الأشخاص مواقف "بهلوانية" ما، بين العملة الجديدة والبطالة المتصاعدة، بين العنصرية العادية والبحث عن سر آخر من أسرار السوق.. هنا يكمن التاريخ، إذ ان "قصص بسيطة" تفتح الشق الغامض والمتفرد، في "تأريخ" وتعليق على عالم متحول حيث يبقى فيه مع الذكريات، بعض الأحجار المتساقطة.

بقلم إسكندر حبش
حقوق الطبع إسكندر حبش 2005
صدر المقال في صحيفة السفير 11/1/2005